من شاهد الهلع الذي اجتاح العالم بعد ظهور فيروس كورونا المتجدد في الصين وما رافقه من عمليات حجر صحي لمدن بأكملها بسببه، عليه أن يستحضر القدرة الإلهية للرب العظيم، والضعف المتناهي للإنسان على الرغم من التقدم العلمي الذي وصل إليه، فها هي الصين بعظمتها وجلالة قدرها وتطورها وتقدمها وقوتها تقف عاجزة عن وقف زحف وانتشار فيروس غير مرئي، رغم عزلها لمدن بأكملها عن العالم الخارجي. مشاهد الناس وهم يتساقطون كأوراق الشجر في الطرقات في الصين جراء إصابتهم بفيروس كورونا المتجدد تناقلها كل العالم، وأصابت الناس بالهلع والرعب، خاصة أن أعراض الفيروس لا تتوقف عند ارتفاع درجة الحرارة والإسهال والقيء، بل تتعداها إلى ضيق التنفس ووهن العضلات والسعال الشديد إلى درجة الاختناق المفضي للموت. الفيروس الغامض القاتل جعل السلطات الصينية تستعين بالجيش وتغلق مدنا بأكملها وتعطل حركة الدخول والخروج من المدن المصابة، وتشل حركة المواصلات الجوية والبرية والسككية، بل تضع الملايين من الصينيين رهن الإقامة الجبرية في بيوتهم، وتغلق جميع أسواق اللحوم، وتوجه الناس نحو الاقتتات على الخضروات فقط. قيل الشيء الكثير عن أصل الفيروس وفصله ونوعه ومصدره وخطورته، خاصة ما يتعلق بقدرته على الانتقال من الإنسان إلى الإنسان، وقصته بالتفسير الممل بدأت مطلع العام الجاري كالتالي : كانت الحياة تسير بشكل طبيعي في مدينة ووهان، عاصمة مقاطعة هوبي، الطقس صحو وخطوط السير مزدحمة، والأسواق ممتلئة والحياة في طبيعتها الروتينية العادية، ولا يوجد ما يثير قلق الناس أو خوفهم إلى غاية بداية شهر ديسمبر من العام الماضي 2019، حين شعر عاملون في محل لتربية الحيوانات وبيعها بغرض استخدامها في إعداد وتحضير وجبات في مطاعم شعبية مثل الأفاعي والخفافيش والفئران والحشرات، ب"التهاب رئوي"، اضطروا معه إلى التوجه نحو المستشفى، غير أن الأطباء عجزوا عن تحديد نوع الالتهاب الذي أصابهم وعادوا إلى بيوتهم وعملهم كأن شيئا لم يحدث مع تناول أدوية ضد الالتهاب. غير أن السلطات الصينية بدأت تتفطن إلى وجود وضع غير عادي حين استقبلت المستشفيات في مدينة ووهان أكثر من 100 حالة غامضة مماثلة في فترة قصيرة، ومع ذلك رجح المختصون إصابتها بتسمم غذائي تسبب لها في حدوث التهاب، إلى أن جاء يوم الثلاثاء 31 ديسمبر، أي اليوم الأخير من العام الماضي، حين استقبل مركز طبي حالة مرضية غير عادية تعاني التهابا شديدا سرعان ما فارقت صاحبتها الحياة جراء معاناتها من ضيق التنفس والسعال الشديد. دفع الفضول الأطباء والمختصين إلى دراسة هذه الحالة جيدا، واستخرجوا عينات من اللعاب والدم لتحليلها على أعلى درجة في مختبرات طبية متقدمة وأكثر تطورا، فاكتشفوا فيروسا يشبه إلى حد ما فيروس السارس الذي كان قد ظهر في العام 2003 من جهة، ويشبه بنحو 70 في المائة فيروس كورونا من جهة ثانية، علما أن هذا الأخير لا يضم إلا ست سلالات قادرة على الانتقال إلى الإنسان من الحيوان، مما يعني أنهم وجدوا أنفسهم في النهاية أمام سلالة سابعة من الفيروس غير معروفة من قبل، فأطلقوا عليها اسم (nCoV-2019). سلالات فيروس كورونا القادرة على الانتقال إلى البشر، تهاجم الجهاز التنفسي للإنسان خلال فصلي الشتاء والربيع، وأعراضها تتراوح بين نزلة برد خفيفة والموت، ومصدرها الحيوانات، لكن الخطير في الأمر أن جميع سلالات فيروس كورونا، رغم تمكنها من قتل حالات أصيبت بها منذ ظهورها، إلا أن المطمئن في الموضوع أن السلالات الست الموجودة تنتقل بصعوبة من شخص مصاب إلى آخر سليم، كما أن بعض اللقاحات التي تم تطويرها في المختبرات الطبية نجحت فعلا في القضاء على الفيروس ومحاصرته، بينما السلالة السابعة التي لا يعلم عنها العالم شيئا وظهرت فجأة في الصين تنتشر بسرعة مهولة بين الناس وتقضي على حياة المصابين بها في زمن قصير. مع بداية شهر يناير من العام الجاري 2020، كشر الفيروس المتجدد عن أنيابه، وانتشر بشكل سريع ومخيف، مما جعل المنظمات الطبية الصينية تدق ناقوس الخطر في مواجهة تكتم السلطات الصينية، التي كانت تخشى تداعيات كارثة صحية على اقتصادها، ومع ذلك لم تصمد الدولة الصينية كثيرا، فتحركت أمام جدية الموضوع، وأطلقت حملة طبية لمواجهة الفيروس مع التقليل من مخاطره إعلاميا، فكانت النتيجة أن تفاقم الوضع أكثر وقفز عدد المصابين من 150 إلى 541 حالة يومية، وتمكن الفيروس من رفع عدد القتلى من حالة واحدة إلى 17 حالة في مدة زمنية قصيرة. وضع يتطلب إذن المزيد من الإجراءات، وهو ما جعل الحكومة الصينية تعجل بإعلان حالة الطوارئ واعتبار الفيروس وباء محليا، بعد أن تأكد لها بالدليل أن الفيروس الجديد قادر على الانتقال بين بني البشر وليس فقط من حيوان إلى إنسان، هي التي كانت تكتفي بعزل الحيوانات المشكوك في أمرها عن الناس والتخلص منها. اعتقدت الدولة الصينية للوهلة الأولى أن الفيروس سيظل محاصرا في منطقة ظهوره، لكنه سرعان ما انتشر بشكل واسع في منطقة جغرافية واسعة في البلاد، وزحف على كامل مقاطعة هوبي، فارتفع عدد المصابين فجأة إلى 883 حالة، بمعدل 300 حالة في يوم واحد فقط. وضع كارثي دفع السلطات الصينية إلى رفع حالة الطوارئ العادية إلى الدرجة القصوى، وهي ترى أعداد المصابين بالفيروس والمتوفين بسببه في تزايد مستمر، فخرج الرئيس الصيني شي جين بينغ، لأول مرة أمام وسائل الإعلام العالمية وشاشات القنوات التلفزيونية، التي كانت تنقل عاجل البرقيات عن المرض الغامض، ليخبر العالم بنفسه بأن انتشار وباء الالتهاب الرئوي الفيروسي "كورونا" المتجدد "يتسارع"، ويضع الصين في "وضع خطير جدا". بدأت حملات حالة الطوارئ بتوزيع ملايين الكمامات الطبية على السكان في كل البلاد مجانا، واتخذت السلطات قرارا مستعجلا بإغلاق جميع أسواق المأكولات البحرية واللحوم بعد ظهور دراسات ترجع ظهور الفيروس إلى حساء الخفافيش الشعبي في الصين. وطالبت الدولة الناس بشراء الخضراوات فقط لاستهلاكها غذائيا، والابتعاد كليا عن اللحوم البيضاء والحمراء والغريبة، وأخبرتهم بصحيح العبارة أن البلاد مقبلة على مواجهة وباء. استجاب الناس للنداء المخيف لحكومة بلادهم، وهرولوا نحو المحلات التجارية وأسواق الخضر لشراء أكبر كمية منها وسط الازدحام والتدافع نتيجة الخوف من نفاد المواد الغذائية من الأسواق. الطامة الكبرى أن السلطات الصينية وجدت نفسها أمام مصيبة ثانية، فرغم أوامرها الناس بوضع الكمامات الطبية، فإن أغلب الحالات التي تساقط أصحابها في الشارع جراء الإصابة بالفيروس كانت تضع كمامات طبية، مما يعني أن الفيروس قادر على التسلل إلى الجهاز التنفسي للناس رغم الكمامات، فاتخذت الحكومة قرارا أكثر تطرفا يقضي بمنع المواطنين من الخروج والدخول، واستدعت الجيش والقوات العمومية لإغلاق مدينة ووهان بأكملها ومعها سبع مُدن مجاورة لها، وتولى أفراد القوات المسلحة الصينية عملية إيصال إمدادات الأقنعة والأدوات الصحية والأطعمة إلى الناس في بيوتهم، وأشرف العسكر بأنفسهم على إدارة المستشفيات في المناطق المحاصرة وسط توقعات بأن يكون الفيروس الجديد قد نال من أعداد مهولة. بدأت الصين سباقها ضد الفيروس ورفعت عدد المدن المغلقة إلى 12 مدينة، وعزلت أكثر من 50 مليون شخص من شعبها عن العالم، مع رصد كل الإمكانيات والطاقات لإمكانية رفع عدد السكان المعزولين إلى 100 مليون نسمة، أي ما يساوي عدد سكان دولة مثل مصر. ورغم كل الإجراءات المتطرفة والاحترازات الأمنية والصحية، لم تنجح الحكومة في منع تسلل الفيروس إلى الخارج، فقد ظهرت حالات الإصابة به في بلدان عدة حول العالم، بينها أستراليا واليابان وكوريا وتايلاند وفرنسا والنمسا وكندا، ولو نجح الفيروس في الانتشار أكثر في هذه البلدان لتحول الأمر فعلا إلى كارثة وبائية عالمية. في هذا التوقيت كانت منظمة الصحة العالمية تدرس إمكانية إعلان الفيروس المتجدد الذي ظهر في الصين وباء عالميا، بينما سابقت دول أوروبية وعالمية الزمن لنشر فرق طبية متخصصة في مطاراتها وفحص حرارة المسافرين القادمين من الصين ومن الدول المصابة، بل من الدول الأوروبية من أجبر طائرات صينية بكاملها على العودة أدراجها إلى الصين للاشتباه في وجود مصابين على متنها. هنا اتخذت الصين قرارا بإقفال المطارات ومحطات القطار والمترو والحافلات ومنعت السفر من وإلى المدن الموبوءة، وألغت جميع احتفالات البلاد بالسنة الصينيةالجديدة لعلها تقلل من حجم الخسائر، ورغم ذلك كانت حالات الإصابة بالفيروس والوفيات الناجمة عنه في ارتفاع مهول، فبلغت حتى صباح الأحد 26 يناير نحو 1979 إصابة، بينما فارق الحياة 56 مريضا، وارتفع عدد السكان الذين وضعوا رهن الإقامة الجبرية داخل مدن معزولة نحو 56 مليون شخص. ورغم حملة الحجر الصحي الواسعة ازدادت حالات الإصابة ساعة بساعة، بما يفوق قدرة المستشفيات والمراكز الطبية على الاستيعاب، فأطلقت الحكومة الصينية تحديا فريدا من نوعه: تشييد وبناء مستشفى ضخم خلال 10 أيام فقط في مدينة ووهان لمواجهة فيروس كورونا المتجدد، ومن المتوقع الانتهاء من الأشغال فيه يوم 3 فبراير المقبل. زادت الحالات المصابة وكذلك الوفيات، وتأكد للعالم أن عدد المصابين الحقيقي ربما يفوق بكثير الأرقام الرسمية المعلنة، واتخذت دول عدة قرارات بمنع مواطنيها من السفر إلى الصين ولو بغرض السياحة خوفا من الإصابة بالفيروس، كما أن السلطات الصينية عمدت إلى إغلاق سور الصين العظيم والكثير من المواقع السياحية المعروفة للحد من الكارثة. مؤشر اقتصاد الصين تدرج نحو الأحمر، وهوت بورصة بكين بسبب الإغلاق المتكرر لها، رغم أنها صمدت وقاومت كثيرا نتيجة إعلان الحكومة الصينية خوض تحدي بناء مستشفى بمساحة ملعب لكرة القدم، مخصص بالكامل لاستقبال المصابين بالفيروس في غضون 10 أيام فقط. لكن الطامة الكبرى أن أعدادا كبيرة من سكان مدينة ووهان تمكنت فعلا من الهرب من المدينة قبل عزلها عن العالم نحو باقي مناطق البلاد، فور إعلان منظمة الصحة العالمية أنها قد تطالب العالم بالاستعداد لوباء محتمل بسبب كورونا، وما عزز صحة الفرضية لدى السلطات التراجع الكبير في استهلاك الأنترنيت في المدينة، مما يعني أن وضعا أكثر سوءا ربما يطل برأسه من أي منطقة أخرى في الصين وفي أي لحظة. لا يوجد لقاح أو مصل مضاد للفيروس حتى لحظة كتابة هذه السطور، لكن توجد طُرق للوقاية من الإصابة به، وهي: غسل اليدين باستمرار بالماء والصابون أو منظف طبي أو معقمات مصنعة من الكحول على الأقل لمدة 20 ثانية وعدة مرات في اليوم، عدم ملامسة الأنف والعينين بأياد متسخة، تجنب ملامسة أي شخص مصاب أو مشكوك في إصابته بالزكام كيفما كان نوعه، أو مشاركة أدواته. والأهم من ذلك كله، في حالة ظهور علامات شبيهة بأعراض فيروس على أي شخص (سعال، ضيق في التنفس، ارتفاع في درجة الحرارة، قيء وإسهال..)، يجب تجنب التوجه مباشرة إلى المستشفى لتجنب نقل العدوى للآخرين، بل يجب البقاء في عزلة داخل البيت والابتعاد عن باقي أفراد العائلة ما أمكن، والاتصال هاتفيا بمصالح الطوارئ الطبية أو الإسعاف للمجيء والقيام باللازم، مع اتخاذ كل الإجراءات الطبية والاحترازات الصحية الضرورية. *صحافي وإعلامي مقيم في باريس