بين السينما كجنس إبداعي وفني قائم الذات، وحقوق الإنسان كمنظومة فكرية وثقافية وسياسية قابلة للتطور والملاءمة، هناك قواسم مشتركة، إن لم تكن في مضامينها، فعلى الأقل في ظروف نشأتها وتطورها وغاياتها. - فالاثنان أفرزتهما التطورات التاريخية الحديثة (القرنين السابع عشر والثامن عشر بالنسبة للحقوق الإنسانية ونهاية القرن التاسع عشر بالنسبة للسينما) أي تلك التي تمخضت عن الثورة الصناعية والثورتين الأمريكية والفرنسية. - والاثنان يمتلكان سلطة رمزية ومادية قد يمكن تجاهلها أو نكرانها إلى حين، لكن يستحيل التخلص من وطأتها. فقوة الصورة بشكل عام والسينمائية بشكل خاص تحقق في ظرف وجيز ما يتطلب وقتا أطول بالنسبة لباقي الوسائل التواصلية حتى في المجتمعات التي تحقق فيها تعميم التعليم والوعي الكافي بالكون والذات. في هذا السياق تلزم الإشارة إلى أنه في زخم الإنتاجات الروائية العربية حول القضية الفلسطينية، خاصة السينما المصرية خلال العقدين المواليين لهزيمة السادس من يونيو 1967، والتي جعلت منها مجرد عملة تجارية: "أرض الأبطال" و"شياطين الجو" لنيازي مصطفى، "كرامة زوجتي" لفطين عبد الوهاب، "الفلسطيني الثائر" لرضا ميسر "الطريق إلى القدس" لعبد الوهاب الهندي... ترسخت في الذاكرة البصرية أفلام كان لها عمق في التفكير وجدة في الطرح: "المخدوعون" لتوفيق صالح و"كفر قاسم" لبرهان علوية وكذا عدد من أفلام يوسف شاهين وحتى جان لوك كودار في فيلم "هنا وهناك". - عامل ثالث مشترك يتجلى في كون الاثنين يضعان في قلب اهتمامهما الفرد باعتباره عنصرا فاعلا في تطور المجتمع. في ما يخص السينما، يكفي التذكير بأن استمراريتها على مدى يتجاوز القرن، تبقى رهينة بقدرتها الهائلة على استقطاب "المتفرج-المواطن" داخل عوالمها الخيالية التي تحكي وتحاكي العالم الحقيقي. بالموازاة لم يعد مفهوم حقوق الإنسان منحصرا في بنية العلاقات بين الدول، كما تقتضيه الحقوق المدنية والسياسية، القائمة على ضمان الآمن والحريات الأساسية: حرية الرأي والتعبير والمعتقد... بل شهد اتساعا أملته المتطلبات الجديدة النابعة عن الثورة الصناعية، وما خلفته من تباينات طبقية وعرقية، فأضحت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تفرعت عنها حقوق جماعية عدة كحقوق الأقليات الاثنية والدينية وحقوق المرأة والحق في التعليم والحق في الصورة الذي يسائلنا بالدرجة الأولي في هذا الموضوع، هي العناصر المحددة لحقوق الإنسان في مفهومها الشامل. فهذه المنظومة القانونية بالأساس لا تكتمل في غياب النسق الفكري والفلسفي الذي تشكلت وتطورت في رحابه حقوق الإنسان والمبادئ المؤسسة لها. كما لم يكن غريبا أن يتأسس هذا النسق في ظل الثورة البورجوازية التي كان رائدها "جون لوك" صاحب نظرية "الحق الطبيعي" الذي يتنافى بالمطلق مع نظرية الحق الإلهي"، وما كان له من تأثير على فلاسفة الأنوار في فرنسا أمثال "جان جاك روسو" صاحب نظرية "العقد الاجتماعي" و"مونتسكيو" في كتابه "روح القوانين"، إضافة إلى "فولتير الذي يبقى بدون منازع أول من وضع لبنة النظام السياسي الديمقراطي الحديث. نخلص من هذا الجرد إلى أن الديمقراطية وحقوق الإنسان شرطان متلازمان في ضمان تقدم البشرية وتطورها واستقرارها، فلا يمكن أن نتصور مجتمعا يكفل حقوق الإنسان، مجتمعا غير ديمقراطي. غير أن المناداة بضرورة الالتزام بهده الحقوق، وتوطينها داخل الدساتير والتشريعات والمواثيق لا يكفي لتفعيلها، فلابد من استيعابها وتملكها بشتى الوسائل من لدن المواطن حتى تصبح أمرا عاديا في حياته اليومية، هنا تكمن ضرورة التواصل من خلال مختلف أدوات التنشئة الاجتماعية، خاصة في وقتنا الراهن حيث لم يعد بإمكان الدول تجاهل الدور الهائل لهذه الوسائل في كشف وإيصال المعلومة التي لم تعد حكرا على السلطة الحاكمة. في هذا السياق ليس من المبالغة القول إن السينما كأداة تواصلية كان لها الإسهام الأول والأكبر في كشف ونشر ثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية عبر الصورة باعتبارها قيما كونية لا يمكن المسك بها في شموليتها إلا عبر وسيط عالمي هو السينما. لقد عملت السينما منذ نشأتها على رصد ومواكبة الأحداث لما خلفته من انبهار وتماه لدي المشاهد، الذي لم يستطع خلق مسافة ببن عالمه الحقيقي وعالم السينما المتخيل. لنتذكر الهلع الذي انتهى بفرار المتفرجين، حقيقيا كان أم مبتكرا، من قاعة العرض في أول شريط وثائقي للأخوين لوميير "وصول القطار" لسنة 1885، حيث كان لتقنية اللقطة العامة المباشرة، شحنة من الواقعية جعلتهم يحسون أنه سيدهسهم. على مستوى الأفلام الروائية، لا تزال إلى اليوم العشر دقائق الأخيرة من فيلم شارلي شابلن "الديكتاتور" لسنة 1940 ترن كصرخة مدوية من أجل عالم تسوده المحبة والإخاء. إنها أفلام شاهدة على ضرورة الانخراط في عملية التحسيس بمنظومة حقوق الإنسان. أفلام وإن اختلفت عوالمها الجغرافية والاجتماعية والسياسية، فإنها تتوحد في الأهداف والمقاربة، أفلام ساهمت بعضها دونما التخلي عن ماهيتها الفنية، في الدفاع عن حقوق الطفل والحركة التحررية للنساء ومقاومة كل أشكال العنف والتطرف. طبعا لا يجب أن ينسينا هذا القول أن الأمور لم تسر دوما على هذا المنوال، فإذا كان الاتجاه الفكري العام في السينما حاليا ينحو اتجاه مناصرة مبادئ العدالة والحرية والمساواة، فلطالما تم توظيفها أيديولوجيا لخرق أبسط هذه المبادئ، خاصة من لدن الآلة الأمريكية الهوليودية. وقد سخرت لهذا الهدف مجموعة من أعمدة السينما في بداية القرن العشرين الذين استطاعوا، عن قناعة أو لهدف تجاري، صناعة تاريخ شامل لنشأة الولاياتالمتحدةالأمريكية، يلغي بالمطلق وجود ساكنة الهنود الحمر، اللهم ما كان من تشويه عبر تقديمهم الكاريكاتوري في صورة الرجل البدائي كما جسدته بعض أفلام هوارد هوكس وجون فورد... وشخصها جون واين. وفي ردة قعل لمواجهة سيطرة هذا الاكتساح، ليس فقط على مستوى المضامين بل وبالأساس على مستوي كتابة سينمائية فرضت بنية سردية عالمية مميزة للأسلوب الهوليودي، ظهرت غداة عقد الخمسينيات عدة موجات في شتى بقاع العالم كانت أبرزها "الموجة الجديدة" في فرنسا و" سينمانيوفو" في البرازيل، و"فري سينما" في بريطانيا.... التي حاولت تكسير هده البتية بغير قليل من العناء. كما ان هيمنة الإيديولوجيا "الإمبريالية الهوليودية" على السوق العالمية لم تحل دون قيام جبهات "مستقلة" داخل هذه السوق، سعت إلى خلخلة ما رسخته في مخيلة الأمريكي صور الجندي المغوار الذي لا يقهر، كما كرستها حرب الفيتنام. وقد تبلورت تدريجيا في ما سمي بسينما المؤلف على يد منظري مجلة "دفاتر السينما" حتى يتم تلافي القراءة الكلاسيكية التي تضع في خانة واحدة كل ما ينتج في النسق الهوليودي بالاعتماد فقط على موطن النشأة. حتما لو لم تفلح هذه الاختيارات الجمالية بعيدا عن المواقف الإيديولوجية، لما حظيت بالاعتراف أفلام متل "سائق الطاكسي" لمارتن سكورسيزي و"القيامة الآن" لفرنسيس فورد كوبولا و"صائد الغزلان" لمايكل شيمينو، أفلام كان لها كبير الأثر في تعرية حقيقة السياسة الاستعمارية الأمريكية في منطقة الهند-الصينية. لقد كرس الإعلان العالمي لحقوق الانسان ل 10 دجنبر1948عالمية هذه الحقوق وعدم قابليتها للتجزيئ، لكن الاهتمام الذي حظيت به الحقوق السياسية الجماعية، خاصة في العالم الثالث، جعل الحقوق الفردية تتوارى لردح من الزمن لتعود تدريجيا الي الواجهة، وقد كان للسينما طبعا دور ريادي في هذا الإطار. وهكذا أنتجت تباعا أفلاما لا تخلو من أهمية سواء في الولاياتالمتحدةالأمريكية أو أوروبا أو إفريقيا، أفلام مثل "امرأة حرة أو متحررة" ل بول مازورسكى(1978) و"كرامر ضد كرامر" ل ريشارد بنتون (1979) ...أما في المغرب، وقد كانت لحظة الانفتاح السياسي التي تمخض عنها تأسيس هيأة الإنصاف والمصالحة، مناسبة لبعض السينمائيين لمساءلة "سنوات الرصاص"، بجرأة لم تكن بعد معهودة. من بين هذه الأفلام يمكن سرد "منى صابر" لكمال كمال و"علي، ربيعة والآخرون "لأحمد بولان و"الغرفة السوداء" لحسن بنجلون، و"الذاكرة المعتقلة" للجيلالي فرحاتي، و"نصف السماء" لعبد القادر لقطع وفي المرحلة الأخيرة "كيليكيس أو دوار البوم "لعز العرب العلوي، و"رقصة الرتيلاء" لربيع الجوهري، و"صمت الزنازين" لمحمد نبيل... بالموازاة احتلت قضية المرأة في مواجهة التطرف الديني والانغلاق الاجتماعي حيزا هاما من الإنتاجات ولو بمقدار متفاوت من الحنكة والمهارة: "نساء ونساء" و"عطش" لسعد الشرايبي، "حجاب الحب" لعبد الحي العراقي، "البايرة" لمحمد عبد الرحمان التازي، "الفراشة" لحميد باسكيت، بالمقابل انزوى بغض المخرجين للتطرق لمواضيع اكثر حساسية ودقة تتعلق بمواجهة الفكر الظلامي، أحيانا باستسهال كبير يطرح تساؤلات عدة حول درجة تملك أصحابها لعمق الإشكالات المطروحة: "ماروك" لليلى المراكشي و"يا خيل الله" لنبيل عيوش... تأسيسا على ما سبق يطرح السؤال عما إذا كان دور السينما في التوعية الشاملة، هو قدرتها على تناول كل القضايا دون تمييز بين المستويات الفكرية والتعليمية لدى الشرائح الاجتماعية التي تمثل المتفرج في مختلف القارات، وهل يعني هذا أن بإمكانها تحقيق الشروط الأساسية للنهوض بثقافة حقوق الإنسان؟ طبعا سيكون من السخف تضخيم تأثيرها على حساب النضال المنوط بالمؤسسات والمنظمات والجمعيات الحقوقية... لكن سيكون من السذاجة أيضا تبخيس دورها في زمن الثورة الرقمية والتكنولوجيا الحديثة...