ارتبط الفيلم القصير في أذهاننا بقلة الوسائل وضعف الإمكانات، وبداية التجربة الإخراجية ثم العبور عبره كمحطة للوصول إلى الفيلم الطويل. وهذا ما جعل تناولنا له، وهنا أقصد الفيلم الخيالي وليس التسجيلي، يتحدد من خلال نعته بالصغير وبالمتواضع. غير أن دراسة الفيلم القصير تطرح عدة قضايا تظل مرتبطة في مجملها بالمفهوم وبالانشغالات الجوهرية التي يمكن لهذا النوع من الأفلام أن يوظفها أو يشتغل عليها،وبالتالي محدودية الأدوات التعبيرية لتشكيل العالم الفيلمي للفيلم القصير.فإذا كان البعض يرى فيه مجرد نقل واقعي لحالة إنسانية في وضعية ما،فإن البعض الآخر يطالبه بتقديم رؤية جمالية متكاملة بمكوناتها السردية والدرامية. بالرغم من طابع القصر الذي يمكن أن يتصف به الفيلم القصير على المستوى الزمني، ومن روح المغامرة التي يمكن أن يسلكها، فإن هذا لا يجعله في وضعية مريحة ليقدم رؤيته وليعكس جانبا من عوالم مخرجه وكاتبه في لقطات مركزة لا تتحمل السهو عن التلميحات ولا تسمح بقتل الثواني على حساب الدقة المتناهية في بسط القضية وخلق العقدة ثم النهاية.كل ذلك ضمن حيز زمني ومكاني محددين إما يجذب المشاهد ويسحره منذ اللحظات الأولى أو يسقطه في الرتابة وينفره. الواقعي والتجريبي تتراوح تجارب الكتابة السينمائية عموما، ولن نقف هنا عند أية تجارب محددة، بين نموذجين واللذين سنحاول أن نستند إليهما في بسط تصوراتنا : الأول واقعي يحاول أن يحمل رسالة ويقدم أجوبة وفق نظرية المحاكاة،وحبكة محكمة مع خط سردي مستقيم حيث غالبا ما تستقي روحها من الرؤية التسجيلية للواقع باعتباره مرجعا وهدفا. الثاني جمالي يجعل من الفيلم مادة للتجريب وإثارة الأسئلة وفق نظرية الجمال عند هيكل حيث يترك انطباعا على العين وفق آليات خلق وتلقي تجربيين يحضر فيهما البعد الفني والشكلاني على حساب المضمون. يحمل كل من النموذجين بالتأكيد تصورا عن ماهية الإبداع وعن رؤية الكاتب والمخرج للعالم ولمعنى التجربة السينمائية .وهنا نربط الحلقة لنشير أن نوعية الكتابة تستدع نمطا من القراءة.فبقدر ما تكون الأولى يقينية خطية وتتميز بقابلية الاستهلاك، تكون الثانية موغلة في استسهال الأمور على حساب المجهود الفكري والفني.وبالتالي يصبح عرض قصة أو تجربة إخراجية ما تعبيرا عن مغامرة ذاتية قد تدفع المخرج للسقوط في التقريرية وكسب أصحاب الحلول السهلة ، أو فتح باب التجريب وإرباك المشاهد بدعوته للمساهمة في إعادة بناء مكونات الفيلم وسبر أبعاده. التقني والفني قد يكون الفيلم القصير غنيا من الناحية التقنية لكنه ضعيف من حيث المعالجة الفنية والعمق الفكري.كما قد يشتغل فيلم ما على ثيمة معينة كالحب أو الفن أو غيرهما لكن حبكة السيناريو ومواقفه الدرامية وعدم قدرته في النفاذ إلى عمق الشخصية ونقل هواجسها من خلال تلقائية الأداء ودلالات الحركات الجسدية ،ومفارقات المواقف الوجدانية تظل باهتة لدرجة يغيب معها عمق الموضوع وفنية التقديم.ويبقى الفيلم مجرد استعراض حرفي وحرفي بكسر الحاء لحالة اجتماعية أو فردية يحاول الكاتب نعتها بكونها من صميم الواقع ليكسبها هالة ما.أو يعمد إلى نوع من التخمة الزائدة في توظيف الجانب التقني كتصوير على حساب الجانب الإبداعي والفكري كتصور. لقد ظل خيال المبدع أكان مؤلفا موسيقيا أو سينمائيا هو المحرك في نسج الحكاية، لا يهم أن كانت ستخضع لوحدة المكان أو الزمان أو ستتمحور حول بطل واحد المهم هو مدى تمكن المبدع من إرباك المشاهد أو المستمع ودفعه للتلذذ والانبهار أمام قدرة الفن على خلق وقائع تشبه الواقع لكنها مستقلة عنه سواء في طريقة حدوثها أو وفي طريقة بنائها وتسلسلها. من هنا تسقط العديد من الكتابات السينمائية في فخ المضمون الذي يعتبر أن الفيلم موجود ليبلغ ويعلم إلى جانب الخطيب والمعلم ، والسياسي.وهنا نقطة الفرق بين التسجيلي والخيالي، الشيء الذي يصبغ هذا النوع من الأفلام بالتقريرية والمباشرة ويلغي المشاهد كطرف له الحق في بناء عالم القصة ويحرمه بالتالي من إضافة معاني جديدة تغني من دون شك قراءة الفيلم وتفتحه على عوالم تأويلية متعددة.ولعل النهايات المفتوحة هي التي تنال قدرا أكبر من النقاش والإضافات الفكرية. يبقى هاجس إبلاغ المعنى ومعاقبة المذنب وإسعاد المحب أو التقوقع في مكانيزم الفعل ورد الفعل لخلق نوع من التشويق والفضول لدى المشاهد وفق سكينة الخط المستقيم كل .هذه أمور مستحبة إذا وظفت وفق الطريقة الأمثل وذلك ضمن حركية السرد،وتنوع مواقعه وعمق فلسفته التي لا تنحصر في صراع بسيط على شيء أو متعة، ولكن الصراع يكون أعم وأشمل عندما يقف عند الحالة الإنسانية في قوتها وضعفها، وخصوصا إذا كان بين تصورين للعالم .لذا نقول أن الأفلام الرديئة تعرض الأشخاص فيما تتعرض المتوسطة للأحداث،أما الأفلام القوية فإنها تناقش الأفكار التي تثيرها المتتاليات الفيلمية. بعض الخصوصيات الفيلمية أعتقد أن الفيلم القصير بالإضافة للصفة الزمنية التي تظل ملتصقة به يتميز بمجموعة من الخصوصيات التي يفترض أن تغذيه وتضفي عليه طابع الفيلمية Filmicité .وأهم هذه الخصوصيات يمكن إيجازها في بعض النقاط التالية: التكثيف والاختزان سواء من حيث الزمن أو الحالة الوجودية للشخوص الاختزال والحذف في الصيرورة السردية من دون التوغل في التفاصيل، وبالتالي الخروج عن منطق السبب/ النتيجة. الانزياح الدلالي حيث ما يعتبره البعض مجرد قلم كما في فيلم "دم الحبر" قد يصير بالنسبة للمخرج أيقونة لاشعورية مثقلة بالرموز والدلالات. المنحى التجريبي الذي يلعب بالنحو السينمائي مع تكسير قواعده. الانتقاء الوظيفي الذي يروم تحقيق قوة الفيلم بالتركيز على أهم الإشارات والحركات والأصوات. جعل الفيلم يمر عبر مثلث زواياه تتوزع على بطل إشكالي، وحدث درامي، وأداة الفعل، أو ما أسميه ب CAO أي الشخصية Character والفعل Action، ثم الشيء Object كالمسدس أو الرسالة الغرامية مثلا. المفاجئة الصادمة مع تكسير الأفق المألوف أو المتوقع للمشاهد. الإخراج كرؤية للعالم هنا نعود إلى تكوين المخرج وكيفية تعامله مع السيناريو، وبالتالي مع رؤيته إلى العالم والوجود.المخرج التقني لا يستطيع استنطاق الأشياء والإنسان لكون أدوات فهمه للواقع وعلاقاته المركبة بسيطة قد تنبهر أمام حادث اجتماعي له وقعه على المتخيل الشعبي.من هنا حاجة المخرج بالإضافة إلى رؤية إخراجية إلى رؤية جمالية تتشكل نواتها الصلبة من تفاعل وتلاقح مع باقي الفنون البصرية والزمنية الأخرى . لذلك، وهذا أمر طبيعي، نلاحظ كيف أن الفيلم المتميز والمجدد يكون معبرا عن حرية المبدع وفيه نوعا من الذاتية في طرق المعالجة والرؤية.وحسب تقديري فإن الجرأة في الإبداع تستلزم نوعا من الشغب الفكري والفني، لذا نلاحظ كيف أن الأفلام المتميزة تحاول دائما أن تجرب وتكسر خطية السرد وتراتبية الأحداث ونمطية الأداء ،كما تجعل من المشاهد طرفا أساسيا في بناء الحكاية وإعادة تشكيلها وفق إيقاع يصبح الفيلم فيه كمبرر للنشوة الجمالية والاستمتاع الذهني الذي يرى أن العمل الفني هو في نهاية الأمر نوع من اللعب.غير أن هذا الطرح لا ينزع عنه مسئوليته ورغبته في التفكير حول قضايا ومضامين ذات بعد إنساني وكوني. بعض مكونات اللغة السينمائية إذا كانت الأفلام ذات البعد التفسيري تقدم مكونات اللغة السينمائية في قالب استعراضي يخلو من المتعة والجمالية، فالأفلام التجريبية توظف نفس الآليات لكن بطرق مختلفة. فالأولى وبحكم هاجسها التبليغي لا يمكن أن تستغني عن الحوار بل تجعله طرفا أساسيا في فهم الفيلم والتعبير عن مشاعر الممثلين لشرح مواقفهم، لذلك تسقط في التكرار واللغو على حساب التلميح والإشارة البصرية.كما أن الماكياج والإنارة وطريقة تصفيف الشعر تكون ثانوية. أما التوليف فغالبا ما يكون تقنيا وليس فنيا أي أنه لا يساهم في بناء القصة وبناء الشخصية بقدر ما يسير وفق خط تصاعدي يظل وفيا للبداية والنهاية ومنطق الأحداث.وبالتالي يتم توظيف الممثل ليس كحالة إنسانية لكن كأداة للتمثيل ولإبلاغ فحوى الفيلم بحيث غالبا ما يسقط في الانفعال والافتعال لإثارة المشاعر بشكل هستيري أو بارد لدرجة الانفصال التام بين الشخصية والممثل.وهذا يدخل ضمن خانة ما يعرف بإدارة الممثل. تميل الأفلام المثيرة للتفكير والتي تمنح في نفس الوقت متعة سردية قد تصل درجة الإرباك وهنا تتجلى أصالتها،إلى خلق نوع من العلاقة المركبة مع المادة الفيلمية وطرق الاشتغال عليها،وفي نفس الوقت تخلق في علاقتها بالرمز واللون والصمت والوجدان حياة موازية لما يعرض على الشاشة.فالفيلم البسيط يدعوك لتدخل عالمه وقد تتردد وتضطر إلى مغادرة القاعة، فيما يقتحم الفيلم المركب عالمك ويجدد أسئلتك وعلاقاتك بالإنسان والكون،بل قد يترك بصمة في حياتك. يستسهل العديد من المبدعين سواء مخرجين أو كتاب الفيلم القصير لاعتبارات فنية أو مالية.فالمشاهد قد يجد نفسه أمام سرعة نهاية الفيلم وهو لم يهيئ نفسه بعد لإدراك مغزى الفيلم وموضوعه وعلاقات شخصياته فيما بينها ومع نفسها.وهو ما يطرح بديهية الفهم والتعامل مع اللغة السينمائية بكل مستوياتها في الميزان.وطبيعي أن المشاهد المتعود على الإعادة والحوار واللعب على الوقت سيأخذ كل راحته منتظرا أن تأتيه قيمة الفيلم على مهله ومن دون أية"مشاكل". الفيلم القصير:خلاصة تركيبية يعتبر الفيلم القصير قطعة فنية لها خصوصياتها وجمالياتها لذلك يهاب المخرج المبدع الفيلم القصير لأنه رهان لا تدرك متاهاته.فهو ليس قصة ولا قصيدة ولكن حكي بصري وفق قواعد سينمائية عامة، لكن بناؤه يتطلب تركيزا على مستوى التركيب الدرامي والتقني ثم الحمولة الوجدانية والإدراكية.على مستوى التركيب الدرامي ، وفق أية آلية سيتم بسط القضية ومتى، أي على طول الخط الزمني للحدث؟هل هناك من أطراف متناقضة لخلق الصراع؟ولصالح من سيتم حسم هذا الأخير؟ بطبيعة الحال يوجد الصراع من أجل استدراج المشاهد ليدخل طواعية في لعبة بصرية وسمعية.فالحمولة الوجدانية والإدراكية لفعل المشاهدة تتعمق من خلال الأسئلة التي سوف يطرحها المشاهد قبل المشاهدة وذلك من خلال بعض القرائن والعتبات كالملصق والعنوان ونوعية الفيلم واختيارات المخرج الجمالية والفكرية،ثم خلال المشاهدة وبعدها حيث تتشكل فكرة عامة ويتم اختبار ما طرح كفرضيات. هل هذه الأسئلة ستساهم في خلق التشويق المرغوب فيه، وبالتالي في تأجيج الصراع.هذا من المفروض أن يولد نوعا من اللعب على المشاعر بغية الوصول إلى أجوبة تفرضها طبيعة السرد.ولا شك أن دياليكتيكا عاطفيا سيتولد بفعل تقمص أدوار الممثلين والممثلات سواء من خلال الكلمات أو الإشارات الفيلمية أو من خلال الرغبة في تحويل وجهة القصة عن تلك التي ارتضاها المخرج.غير أن الانسياق مع مجرى الأحداث وتعاقب الصور بإيحاءاتها المعلنة واللاشعورية سوف يحول المشاهدة في نهاية المطاف إلى عملية نرجسية ذات بعد فرداني وذلك لما ينطبع على ذهن المشاهد من تداع حر ونشوة تلذذية تجعل من الفيلم نصا شبقيا تتحقق فيه تلك العلاقة الغامضة بين الفني والإنساني.غير أن تعددية القراءات قد تقلل من شأن بعض التجارب المغامرة الذي تبتغي طرح رؤى مغايرة لما تعودت عليه العين، وبالتالي تحاول إقبارها من خلال نعتها ب "المجنونة" أو ب "الخارجة عن السائد" وما السائد سوى تكريس وقتل لرغبة استكشاف مناطق في السرد والتصوير تحاول أن تجد لنفسها شرعية ضمن مشاهد بصرية أخرى. أما على مستوى التركيب التقني فإننا نبحث في كيفية استخدام الكاميرا وكل الأدوات التقنية من إنارة وصوت وصورة لجعل المبنى في خدمة المعنى، وذلك ما يعادل اختيار الآلة الموسيقية لتمرير الشحنة الوجدانية المرغوبة.فهل يمكن الاستغناء عن بعض الزوايا وحركات الكاميرا لبناء القصة والوصول إلى عالم الشخصية؟ وما مدى مساهمة المؤشرات البصرية من إطار وتركيب اللون، ونوعية الإنارة، وحجم اللقطة في بناء المعنى وتمريره من دون المرور بالنص أكان مقروءا أو مسموعا ؟ ثم ما نسبة حضور الصورة إلى جانب الصوت ؟ وبالتالي إن ما يخلق سينمائية الفيلم مثل ما يخلق للقصيدة شاعريتها وللأدب أدبيته يتجلى في قوة الجانب التقني إلى جانب العمق الفكري والجمالي الذي من دونه يظل العمل الفني بمثابة هيكل من دون روح، أو مجرد استعراض تقني وحرفي لعالم يبهر بفرجته لكنه لا يدعو للتأمل. غير أن هذا يقودنا بالضرورة إلى محاولة ملامستنا لبعض الجوانب الجوهرية للاقتراب قدر الإمكان من إنتاج الأفلام القصيرة الهاوية وأحيانا حتي من قبل محترفين ليظهر في نهاية المطاف،من خلال معاينتنا الشخصية،أن بعضها ينم عن طاقة إخراجية متميزة سواء من حيث مقاربة الفيلم كسيناريو يمزج بين عنصر القصة وطريقة سردها كفيلم شيفت + حذف لمخرجته الشابة جيهان البحار.يمكن القول أن بعض الأفلام تسقط في التقريرية والمباشرة. معلوم أن الفن عامة يستمد من المجاز والاستعارة قوته بينما بدت أفلاما أخرى في غاية الضبابية والترميز بشكل حولها إلى أعمال كاريكاتير طغت عليها بعض العناصر التالية: - ضعف السيناريو كحامل لقصة وفق خط درامي ينتهى بنهاية غير متوقعة يبسط القضية باختصار. وفي الوقت المناسب يأزم القصة يخلق الصدمة دون كلل ولا ملل. ضعف الأداء حيث يبرز التمثيل كعملية يطبعها التصنع أو يحس بالتمثيل كتمثيل وليس كفعل يكسر حاجز الأداء والواقع - افتقار بعض الأفلام لعنصر السرد بمعناه التراكمي وتقديمه كبسط لحالة لا تتقدم لتنتهي دون تحقيق ذروة المشاهدة وهذا ما يصنف بعض الأفلام ضمن خانة أفلام البورتريه أو كأفلام مأخوذة كقطع منفصلة عن سياقها الدرامي أو كأطراف من قصة أكبر قد تشكل بداية أو جزءا من فيلم طويل.. - تعمد بعض الأفلام إلى تضخيم حالة وجودية عادية لتنسج حولها قصة تظل في طريقة معالجتها أو سردها فقيرة سواء من حيث الدلالات الرمزية أو من حيث اللغة السينمائية بزواياها وتأطيرها للأشياء وللشخوص.كما أنك عندما تنته من مشاهدة الفيلم تقول في نفسك ماذا بعد؟ ماذا استطاع الفيلم أن يثير من إشكالية ويحقق على الأقل من لذة بصرية ذات عمق فوتوغرافي؟ هذا من حيث الفيلم القصير كبنية خاضعة لمعايير محددة تنطلق من عرض القضية والحدث / أو الشرارة المولدة للقصة ثم العقدة أو نقطة اللارجعة وأخيرا السقطة.أما إذا قاربنا المسألة من حيث الخلفية الجمالية،فنلاحظ توفر بعض الأفلام على مواصفات تقنية برز فيها عموما الفرق بين مديري التصوير الأجانب ومديري التصوير المغاربة حيث ظهر لي من خلال بعض النماذج تفوق الأجانب في اختيار اللقطات وزوايا التصوير والكادراج ومكوناته الفنية كحركات الكاميرا وسلم اللقطات وتوافق الألوان. يمكن أن نساءل جل الأفلام عن القيم المضافة من حيث الدلالة الفكرية وإلى أي حد استطاعت أن تثير التفكير في قضايا تخرج عن نمط الحدوثة المخاطبة للمشاعر إلى الثورية المخاطبة للعقل والفكر.يبدو لي أن قيمة الفيلم القصير لا تتحدد من رطانة الخطاب الذي يحاول المخرج تمريره من خلال صراع مفتعل وغالبا ما يكون جسديا، ولكن من خلال مساءلة موضوع له بعده الإنساني يساهم في فتح باب التأويل لإغناء فرضياته الأخلاقية والجمالية، ويوسع بالتالي من دوائره الدلالية لتخلق إيحاءات تمرر بأدق التفاصيل مما يدخلها ضمن الأعمال المتميزة. لذا يجب التأكيد على الخصوصية الفنية والنوعية لجنس الفيلم القصير.وبالنظر لطبيعة انفلاته الزئبقي، فإن التعامل معه من منطق الاستسهال أو التعسف يفضي إلى نتيجة تكون كارثة، وخصوصا عند أولئك الذين يحملونه أكثر مما يتحمل، حيث يجد في شريطهم بذور فيلم طويل سواء من حيث المدة الزمنية أو من حيث تداخل الثيمات وتعقيدها. أرى بأن الانفتاح على عوالم الأدب والفكر عموما والتمكن من قواعد سيناريو الفيلم القصير أمر محبذ يدعم الإلهام والشغف بعالم الصورة والسينما.ليس كل من يكتب نصا هو بالضرورة سيناريست وقد يفعل ذلك بدافع الاقتصاد ف المصاريف أن الاعتقاد بأن المخرج يمكنه أن يكون كاتبا وليس أي كاتب بل كاتب سيناريو يحكي قصة في حيز زمني محدد من دون تمطيط ولا إطناب. وليس كل من يصور مشهدا هو بالضرورة مخرجا، كما أن المال وحده والإمكانيات كذلك لا تخلق المبدع الحقيقي لأن ما يخلقه هو الموهبة أصلا والعمل والحب ثانيا. تظهر بعض التجارب الأخيرة في بعض الملتقيات المغربية والعربية في مجال عروض ومسابقات الفيلم القصير عن قصور في الرؤية الإخراجية للتعامل مع عناصر القصة وكيفية بسط سيناريو بلغة بصرية مثيرة ومحفزة للعين وللخيال.ويبدو لي أن بعض مخرجي الفيلم القصير ببلادنا العربية مع استثناءات عديدة ليس لهم الوقت لقراءة القصص والدراسات السينمائية بل إن بعضهم لا يقرأ حتى الروايات. وأستغرب كيف بإمكان هؤلاء أن ينمو خيالهم ويتقربون بشكل أفضل من عوالم السرد وبناء الشخصية ونقل الأفكار إلى مستويات أعمق وأقرب إلى ما هو سمعي وسينمائي؟ سبق أن سجلنا مجموعة من الملاحظات تصب بالأساس حسب رؤيتنا للأشياء في صميم عملية الإبداع السينمائي وخصوصا فيما يتعلق بالفيلم القصير.وبما أننا ننافس دولا من البحر المتوسط، البعض منها له باع في السينما كفرنسا وإيطاليا ولبنان ومصر والمغرب أيضا من حيث التاريخ فالمرجعيات الجمالية ورؤى الإخراج والتناول الدرامي والموضوعاتي لقضايا إنسان المتوسط تميزت بتميز مخرجيها وسبل اشتغالهم تقنيا وإبداعيا. قد آثرت أن أتناول علاقة شمال المتوسط و جنوبه ومن خلال الوقوف عند مجموعة من الأفلام المشاركة ويمكننا إجمال هاته الملاحظات فيما يلي: عمدت الأفلام اليونانية والمتميزة خلال العديد من دورات المهرجان الفيلم المتوسطي بطنجة مثلا وهذا رأينا في تسجيل بعض الملاحظات: - محاولة اشراك المشاهد من خلال استدراجه العاطفي والذهني في تشكيل معنى الفيلم خلال المراحل الفنية والإخراجية لبناء القصة ،وذلك بتوريطه في عملية كشف الرموز والطروحات الفلسفية للفيلم. - خروج الفيلم القصير المتميز عن نمط السرد الواقعي سواء من حيث زاوية المعالجة أو بتكسير القالب الاستعراضي المرتكز على محاكاة الواقع. - لجوء بعض الأفلام للمقاربة الفانطاسطيكية في بسط رؤية المخرج . يظهر أن الأفلام التي عادة ما تنال رضا الجمهور عموما والنقاد على الخصوص هي التي تخرج عن المألوف في تناول قضايا إنسانية كالموت والزمن والحب. يمكن القول أن أفلام الشمال تميزت بتركيزها على السرد البصري وعلى الخلفية الجمالية والفلسفية بعيدة عن كل تناول ميلودرامي أو بكائي حيث سيادة الحوار ومشاهد البكاء. تظهر أفلام مخرجي الجنوب كالأفلام السورية والمصرية سقوطها في المباشرة والتقريرية وأحيانا تعقد المسارات الحكائية مما يخرج الفيلم القصير عن بساطة تركيبته وعمق رؤيته في نفس الوقت. تكون الأفلام اليونانية وبعض الفرنسية والإسبانية صائبة في إبراز القيمة الإيحائية والشعرية وذلك من خلال مساهمة أدوات التعبير الفيلمية كإنارة وفضاء وكادرات وأداء لجعل عوالم الفيلم تكون موحية الشيء الذي يسمح للمشاهد اليقظ باستقاء الدلالات من خلال ترابط الأشياء وخلفياتها. *باحث في جماليات الصورة والسينما