ينهج الآباء طرقًا متباينة في تربية الأبناء وتهذيب أخلاقهم، كلٌّ حسب فَهمِه، وكلٌّ حسب وعيه وتجرِبته، وذلك يختلف لا محالة بين أسرة وأخرى وبين بيئة وأخرى، بيد أن الهدف الذي يرمي له كل واحد من هؤلاء هو تشذيب أخلاق أطفالهم، وإعدادهم ليكونوا منخرطين فاعلين في مجتمعهم، ويفيدوا دينهم ودنياهم، ولقد كان الأمر كذلك بالنسبة إلى أسرتي، كان والدي يسعى في كل يوم إلى أن يلقِّنَنا درسًا يكون لنا منهجًا في حياتنا، ويكون لنا سراجًا نستضيء به طريقنا. لعل من أهم الوسائل التي كان والدي الحبيب يستخدمها، واستطاع بها أن يرسخ في أذهاننا جميعًا - أنا وأخي وأختي - القيم التي يريدها - وسيلة نظرية "السبابة والوسطى"، وهي نظرية استطاع أن ينفرد بها، كما استطاع أن يحيط بالحياة كلها ويُلخِّصها في معطيين. نظرية السبابة والوسطى -كما أطلقتُ عليها- هي في جوهرها نظرية أخلاقية، تشتمل على عنصرين اثنين هما: السبابة = الكذب، والوسطى = السرقة، وهما عنصران كان والدي الحبيب ينبهنا باجتنابهما قائلًا: "إياكم الكذب والسرقة، فهما أصل كل شر"، لم نكن حينها نعي جيدًا الذي كان يرمي إليه، ولا الذي كان يسعى إلى توطينه في ذاكرتنا ثم تجسيده في معاملاتنا ونحن في سنوات الطفولة الأولى، لكن بعد أن تقدمت بنا سنوات العمر، وأصبحنا نستطيع تحليل الظواهر وتبيُّنِ الحقائق - علمنا أن والدنا كان يؤصِّل لنظرية أخلاقية عامة تشمل كل تعاليم الدين، فالكذب متصل بالنفاق وهو من علاماته، والسرقة سبب خراب الأمة بَلْهَ الوطن والأسرة. وقد حدث ذات مرة أني ذهبت للمدرسة، وأظنني كنتُ في السنة الثالثة الابتدائية، فوجدت باب المؤسسة قد أُغلق، فقد تأخرت دقائقَ، ففكرت هُنيْهَة قائلًا في نفسي: لو دخلت الآن إلى القسم، سيعاقبني الأستاذ لأني تأخرت، وإن عدت للمنزل فلا مناصَ من العقاب أيضًا، فسوَّلت لي نفسي أن أجلس بجوار المدرسة حتى ينصرف التلاميذ جميعًا، وأنصرف وكأني خرجت الساعة الثانية عشرة زوالًا، فكان ما فكرت فيه، وجلست تحت عمود إنارة إلى أن وصل الوقت المعلوم، ثم ذهبت للمنزل، نظر إليَّ والدي، ومن نظراته تبينتُ أن شيئًا يجول بخاطره، فلم يلبث أن قال لي: هل درستم اليوم؟ قلت: نعم، درسنا. قال لي: وما ذاك الغبار في سروالك؟ قلت: أين؟ قال لي: سأقول لك الذي حدث، ثم تجيبني بنعم أو لا. استأنف حديثه قائلًا: ذهبتَ للمدرسة، ووجدتَ باب المؤسسة قد أُغلق، فجلست بجوار المدرسة حتى هذه الساعة وأتيت، أليس كذلك؟ نظرت إليه وأنا متعجب كيف عرف، وقلت: إي نعم، هذا بالضبط ما حصل. قال لي: ولماذا كذبت؟ ألم أقل لك أن الكذب والسرقة أخطر شيء؟ (قال هذا وهو يشير بسبابته ووسطاه)، ألم أخبرك بالحديث الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البِرِّ، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صِدِّيقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا)). طلبت منه أن يسامحني ويعفو عن خطئي، فسامحني، وأوصاني ألَّا أعيد الكرَّةَ. تلك كانت نظرية السبابة والوسطى، التي تُجسِّد ذكاء وفطنة والدي في اختزال مساوئ الأخلاق كلها في عنصرين عنهما يصدر كل شر، وعن ضدهما - وهما خير محاسن الأخلاق: الصدق والأمانة - يصدر كل خير، ألم تكن أوصاف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في قومه الصدق والأمانة؟ ألم ينادوه الصادق الأمين؟ فاللهم اجزِ والدنا عنا خير الجزاء، واجعل له ملائكة يحرسونه في كل وقت وحين، آمين.