إن ما يميّز الشعوب حقا، حسب جيل دولوز، هو الثقافة والفنون ليس التاريخ ولا الجغرافيا. لقد وعى المجتمع الدولي و"اليونيسكو" والأمم المتحدة بدور الثقافة كمحرك للتنمية من أجل نمو اقتصاد خلاق، عبر ما يعرف بالصناعات الثقافية والتي لا تعتبر فقط لقيمتها الاقتصادية؛ ولكن لما لها من دور في إنتاج أفكار ومشاريع وتقنيات جديدة في النسيج المجتمعي غير الربحي. صيرورة الصناعات الإبداعية أتصور أن السؤال عن الصناعة السينمائية قد نسوقه كلما أردنا الحديث عن صيرورة الصناعات الأخرى وبارتباط بها كالصناعة الثقافية وصناعة الفرجة وغيرها من الصناعات المرتبطة بالإبداع والفنون البصرية؛ بل حتى مجالات الزخرفة والصناعات التقليدية والحرفية المسموعة والمرئية، المصنعة والطبيعية التي تروم ترويج منتوج ما وفق سياق ثقافي كخدمة أو كسلعة حسب السياق والقانون المنظم والغاية المبرمجة. ونقصد بها كل المسارات الممكنة لخلق منتوج ضمن عجلة من التصور الأولي والإنتاج المنفذ، والتوزيع ثم الاستهلاك المسوق وأخيرا التغذية الراجعة من حيث دعم المنطلقات وتقييم فعاليتها وحدود جدواها ومدى قدرتها على خلق دينامية تشكل جزءا من حركية المدينة ذاتها والمرتبطة أصلا بالخدمات العمومية والسياحية والثقافية كجزء منها. يصعب الحديث عن صناعة سينمائية في غياب مقومات مادية ولوجيستيكية وإبداعية. وبالتالي، عندما نقول الصناعة السينمائية لا بد أن نستحضر تاريخ السينما والفعل الثقافي في البلد المقصود ومدى قدرته على التنافسية وتسهيل وصول المنتوج إلى فئات مستهدفة واسعة عادة، وفق شروط تتسم بالولوجية وجماليات العرض، وحركيته التجارية، ومستوى مهنية الفاعلين فيه ومدى استيعاب الفضاءات الثقافية وبنيتها التحتية وتنوع عروضها في الزمان والمكان وانتشارها خارج المركز لتعميم الخدمات الثقافية للفئات المهمشة وغير القادرة على التنقل. يمكن أن نضيف حقولا أخرى قد تبدو بعيدة عن الحقل؛ كقولنا هل الاستقرار السياسي والأمني لبلد ما لهما علاقة بالرواج وتشجيع الصناعة السينمائية؟ هل المساطر القانونية والضريبية وتسهيل مساطير النقل التنقل لهما أثر في ذلك؟ الشروط التي تمكننا من استنطاق مفهوم الصناعة السينمائية على سبيل المثال وهي: الشروط الطبيعية وهي ما يسمح للبعض بالقول إن المغرب بما أنه يتوفر على مناظر طبيعية خلابة البحار والصحاري والفضاءات فالمنتجون سيحجون إليه؛ لكن وفق أية شروط بشرية، ونقصد بذلك المؤهلين من التقنيين وغير المؤهلين. إن المنتوج الثقافي بات مرتبطا بالمنتوج السياحي وسياسات المدينة وأحقية المواطن في بناء مرافق ثقافية حسب حاجياته، وكلاهما مرتبط بمدى قدرة استثمارا لقطاع العام والخاص في مثل هاته المشاريع . الشروط التقنية من حيث وفرة المعدات والتجهيزات وقابليتها للعمل السريع والمنتج والفعال. الشروط التمويلية التي تضمن حقوق الفريق الفني والتقني والإبداعي، لتجنب السقوط في التأجيل أو التعثر أو الترقيع أو التوقف والارتباك. الشروط المهنية في مراحل ما قبل الإنتاج التصوير، ثم ما بعد الإنتاج. شروط الدعاية والترويج باستخدام الوسائط الجديدة والإشهار، لكون الماكينة الترويجية باتت جزءا مهما من عملية جلب الجمهور. كما يمكننا الحديث عن مرحلة ما بعد الإنتاج هل لنا من المختبرات الكافية لإنجاز أعمال سينمائية بمواصفات تقنية عالية؟ وبالتالي، لماذا يفضل بعض المخرجين السفر إلى فرنسا أو إيطاليا عندما يكون عليهم أن ينتظروا دورهم على لائحة الانتظار التي قد تطول؟ وهل بإمكاننا الحديث وقتئذ عن مدى انخراط الدولة والمؤسسات المدنية والهيئات المنتخبة في توفير الشروط وسن سياسة الأخذ بالمكون الفني والثقافي كجزء من الحركية التجارية؟ إمكانات المنافسة والتأهيل بالنظر إلى شراسة السوق السينمائية العالمية واحتكارها من طرف الصناعة الهوليودية وممارستها شتى وسائل الضغط والابتزاز على موزعي الأفلام ومالكي القاعات سواء في البلدان الفقيرة أو حتى الغنية، فالسؤال هو: ما حجم الإمكانات لتوزيعية والإعلامية إشهارا ودعما وقدرة على التنافسية نمتلك لبيع منتوجاتنا السينمائية للغرب وللشرق الأوسط وغيرها في ظروف صراعات سياسية وفقر اجتماعي وأمية بصرية من حيث التأهيل الثقافي للفئات الشابة؟ وحتى لو افترضنا أن هاته الصناعات الوطنية موجودة وتحصل على جوائز عالمية، فيجب أن نقارن بالطبع. نحن أحسن حالا من العديد من الدول العربية والإفريقية؛ لكن واقع الإنتاج والصناعة كدورة مهيكلة بتقنييها وأطقمها وبنياتها به الكثير من نقط الضعف، ومن بينها قلة التكوين والتأطير والتأهيل، وضبابية سياسة سينمائية تراهن على الكم أكثر من رهانها على الكيف. تطفل العديد من الأشخاص الذين تنقصهم الكفاءات المعرفية والمهنية لإدارة الإنتاج بروح من المسؤولية والإبداع، علما أن الاقتصاد الإبداعي يستلزم مكونا أساسيا في التربية والتعليم؛ وهو الحرص على منح خيال المتعلم مساحة أكبر للإبداع وتوظيف ملكة التجريب الجمالي والفني ومجال استقباله وتأطيره وتوظيفه في حلقة الإنتاج والترويج. تقصير في المضامين الإبداعية لهاته الصناعة سواء من حيث النشاط والترويجي والتواصلي في شقه الإعلامي والمعرفي والقانوني كتابة ونقدا ونشرا وبحثا وما يدخل في صميم الدورة الإنتاجية للتفكير حول قضايا السينما وارتباطها بالسوق ولكن أيضا بالتشغيل والدخل القومي وصورة المجتمعات ومدى قدرتها على تشكيل هويتها وشخصية مواطنيها وسلم قيمها الفنية. وبالتالي، فإن عدم قدرة الدولة وقطاعاتها المهتمة بالشباب والتعليم التربية والثقافة والفنون على هيكلة هاته الصناعات الثقافية وتركها للإهمال وعدم تشجيع الفاعلين على تقريب الخدمة الثقافية من عموم المواطنين من شأنه أن يفرغ الإنسان من كل مقوماته الحضارية والفكرية ويحوله إلى كائن أجوف استجابة لنزعة إيديولوجية انغلاقية أو رضوخا لاختيار منطق سوق تجاري غير شعبي. *باحث في جماليات الصورة