لا يموت الشعراء حتى وإن تركوا الحياة بأجسادهم، فأرواحهم تنبعث من قصائدهم مع كل قراءة، تتجدد حياتهم في رحلة وجودية مسارها عدم وحياة فموت ثم انبعاث أدبي، لم يمت مالك بن الريب ولا محمد الصغير أولاد أحمد أو أمجد ناصر...؛ لأنهم جميعا غادروا بذواتهم البيولوجية لا الشعرية، وتركوا أسماءهم بين الأسماء خالدة؛ شعرا غزيرا، ورؤى وجودية مختلفة، وتشكيلات فنية تسبر مجهول الحياة والموت والكون واللغة بحثا عن معان تصدح بالأسئلة، والشعر سؤال. وفي عرض ذلك، اتخذ الموت تجليات متعددة؛ وكان معبرا لمزيد من الوعي بأسرار الحياة، وكيف لا؟ والموت آخر المعاني!. إن القارئ ليحار، وهو يتابع تجربة الموت عند الشعراء لحظة لحظة؛ بما يبثون في أشعارهم من أوصافها القائمة على المعايشة ومشاعرهم الجارية على المجاهرة، فيغوون القارئ، والشعر غواية، يقذفونه في أتونها قذفا، فهذا مالك بن الريب يرثي نفسه لحظات قبل الموت؛ ويشيعها في مسارات شعرية جديدة وجديرة بالتأمل، قوامها شعرية الموت والاحتضار والجنازة؛ مسارات لم يسبق إليها أحد من الشعراء في يائيته المعروفة: - ألا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةً *** بوادي الغضَى أُزجي الِقلاصَ النواجيا فقال: - تذكّرتُ مَنْ يبكي عليَّ فلم أجدْ***سوى السيفِ والرمح الرُّدينيِّ باكيا - فيا صاحبَيْ رحلي دنا الموتُ فانزِلا***برابيةٍ إنّي مقيمٌ لياليا - أقيما عليَّ اليوم أو بعضَ ليلةٍ***ولا تُعجلاني قد تَبيَّن شانِيا - وقوما إذا ما استلَّ روحي فهيِّئا***لِيَ السِّدْرَ والأكفانَ عند فَنائيا - وخُطَّا بأطراف الأسنّة مضجَعي***ورُدّا على عينيَّ فَضْلَ رِدائيا - خذاني فجرّاني بثوبي إليكما***فقد كنتُ قبل اليوم صَعْباً قِياديا ولئن كان مالك بن الريب أول من جسّر العلاقة بين الحياة والموت شعرا، وجعل القصيدة نتاج هذه المفارقة في الثقافة العربية؛ متأملا وساردا وواصفا؛ فإن تجربته الشعرية عكست التشكيل الفني لصورة الموت في الشعر القديم، ودل خطاب الوصية فيها على الاستسلام والرضا موقنا بالنهاية المحتومة. بالمقابل، فإن تجربة شعراء الحداثة كانت مختلفة، فها هو الشاعر التونسي محمد الصغير أولاد أحمد يختار ما يناسبه في الموت وزمنه وطقوسه وتجربته من غير استسلام، ضمّنها رؤيا تختزل علاقته بالمجتمع والسلطة في التمرد والمقاومة؛ فقال في "وصيته": - شبه متيقّن كنت. - أمّا الآن: فعلى يقينِ مالحِ من أنّني سأموتُ - ميتةَ غامضةً - في الصّيف - وتحديدا: - أثناء النّصفِ الثالثِ من شهر غُشْتْ - أحبّذهُ زوجيّا، باسماً، ذلك اليوم. ويظهر أن الشاعر أولاد أحمد أختار لموته ما يناسبه صيغة فأرادها أنثى تفاؤلا، وزمنا صيفيا، وأيقن من معايشتها يقين الشعراء والفلاسفة، لكنها غامضة؛ والغموض في حضرة اللغة وأنبياء الشعر والرؤيا ملغز؛ الشعراء لا يموتون في مملكتهم، واللغة سابقة الوجود وفاعلة فيه بالخلق والوصف والكشف؛ ولأنها الملاذ استعصم الشاعر بها واحتل كل الزمن؛ ماضيا ب"كنت" وحاضرا ب"الآن" ومستقبلا بالسين، موقنا بعودة الجسد لملكوت الصمت وبقاء الروح في مملكة الكلام تنبعث منها كطائر الفينيق، لذلك توج نفسه عريسا أنيقا يوزع ابتساماته على الضيوف والموت منهم منتشيا بالانتصار؛ فذات الشاعر لا ينال الموت منها إلا الجسد؛ فقال: - حليق الذّقن – مُهذّبَ الأظافر – أنيقًا بربطة عنق - خضراء- وحذاء أسود لمّاع – - وأشرعُ – للتوّ – في استقبال ملك الملوك، وفي - توديع ما علق بالذاكرة من ملابس النّصفٍ الأسفل للدّنيا: يعلم الشاعر أنه سيتحمل بمعية كل من حضر عنت الجنازة ومشقة الدفن تفاؤلا بالمصير؛ فللاحتضار طقوس وللجنازة أيضا، والجو قائظ وحار صيفا، ليعلن عندئذ إرادة الموت المشاع، جسد يكون ملكا عاما ومنتجا في صمت، بلغة اقتصاد السوق، يناله تجار الدين الشامتون وبائعو الصكوك الشعبويون، والجزارون المتكالبون على الغنائم، والمستهلكون الوصوليون تهكما وسخرية، يقول: - يمكنني الاعتقاد أنّ خمسين درجة، تحت الظلّ، - عذابٌ يسهلُ تحمُلهُ طيلة صلاةِ الجنازةِ ومراسم الدّفن. - أريده موتا مشاعا - موتا عموميا.. كما يقال - موتا منتجا.. بلغة اقتصاد السوق - موتا يدعّم أواصر الأخوّة، والتعاون المتبادل، - في كنف الانسجام التامّ والثقة المطلقة، بيني - وبين التراب الذي جئت منه لأعود إليه. صار لقاء الشاعر بالموت مختلفا فكسر أفق الانتظار، وكان بطلا وعريسا مقبلا على الحياة؛ لذلك لم يستسلم بل استسهل محنة اللقاء، متوقعا البعث ومنتشيا بالانتصار. لقد استمد الموت طينته عند أولاد أحمد من طبيعة علاقته بالسلطة السياسية والثقافية المستبدة بكل شيء في بلاده تونس؛ فتراءى له ملكا للملوك، رؤساء بلاده؛ فانتصر وتهكم...، ولم يتخيله أسدا ذا مخالب كما تراءى للهذلي، أو صقرا أسطوريا مع السياب، فصورة الموت لدى شعراء الحداثة هو نتيجة الانفعالات وتحولاتها الفنية، تستمد طاقتها من البواعث النفسية القائمة على الانخراط في قضايا الوطن من أجل صناعة التغيير وقيادة التحول. ويكشف الشاعر الأردني أمجد ناصر عن رؤيا شعرية وجودية مختلفة عن تجربة أولاد أحمد؛ فقد غادر الشاعر عالم القراء، وتأمل الموت تأملا تراجيديا، ورثى نفسه في قصيدته الأخيرة "عدو شخصي" قبل أن يرثيه الآخرون؛ وجاء انسياب المعنى فيها على مجموعة من الثنائيات؛ كالحركة والسكون، والإثبات والنفي، والخير والشر، والصداقة والعداء، والحياة والموت، والأنا والآخر، والفرد والجماعة، يقول في مطلع مرثيته. - عدو شخصي - ليس لي أعداء شخصيون - لدي أصدقاء أسوأ من الأعداء - ولكنهم ليسوا أعدائي الشخصيين. يستهل ناصر مرثيته في لحظة تأمل داخلي ويعلن الموت عدوا إيذانا بالمواجهة الدالة على الرفض وعدم الاستسلام على عادة شعراء الحداثة، موظفا "ليس" قرينة النفي والإثبات المجردة من الزمن، فمنح نفسه مقاما منصفا، متوجا مسار الرفض المفتوح في كل مساحات نصوصه "مديح لمقهى آخر" و"منذ جلعاد كان يصعد الجبل" و"حياة كسرد متقطع" ...، بفتح خط مواجهة مع عدو من صنف آخر، لكنه شخصي هذه المرة، مقبل على الفتك به، والجنوح ل"ليس" مرتين، على جمادها ونفيها للزمن، مكاشفة لغوية وشعرية دالة على ما بات يشغل الشاعر من الوجع والقلق، إنه وجع الموت والمصير؛ اللغز المحير. واستشعار اقتراب اللحظة الأخيرة شحذ في نفسه دفقة شعورية ممتدة أسقطت قرائن الزمن والضمائم؛ رافضا وعاتبا. ويسترسل؛ فيقول: - هناك نجمٌ لا يزفُّ لي خبراً جيداً، -وليلٌ مسكون بنوايا لا أعرفها. - أمرُّ بشارعٍ مريبٍ وأرى عيناً تلمعُ - وأيد تتحسّس معدناً بارداً، - لكن هؤلاء ليسوا أعداء شخصيين، لقد دعا الشاعر نفسه للوقوف ليلا على ركح الحياة في حضرة الشعر ومملكته مشخصا أحداث اللقاء وساردا، وللشعر طقوس؛ فرأى هنالك نجما بعيدا صامتا نكرة احتل مساحة السماء، لا ينجِّم بشيء ولا يزف خبرا؛ فانكسر انكسارا، والنجوم في دنيا الشعراء حمالة أخبار، وفي مملكة الأنبياء استشعار، ألم تكن ليوسف الصديق السند في الرؤيا والمَعبر إلى اللقاء؟ حضر الشاعر إلى الكون الشعري يبث شكواه لأشيائه متوجعا في ليل مظلم ومعتم، مسكون بنوايا غير سارة مضطربة، لا يتحسسها إلا هو بقصيدة خارقة نثر فيها المعنى بالسرد والوصف والانزياحات الموحية والإيقاعات المنكسرة، محاورا ومناجيا بمونولوغ داخلي قوامه التوظيف الاستعاري؛ نجم صامت وليل ساكن وشارع مريب، وتوظيف الشاعر لذاته المعدنية المستعارة والممتدة في الفضاء كان حدثا مقاوما يشعر بالرغبة في المواجهة وعدم الاستسلام؛ وعلى ذلك مسرح الحدث، أما المكان فكانت قرينته شارعا مجهولا ومدينة تعلن اغتراب الذات في كل شيء، تلمع فيه عين مودّعة تدمع لوداعِ معد بارد يأبى الانصهار والزوال والاستسلام، يقول: - أيها الشيءُ القاتمُ الذي أخذ أمي - ما أنت؟ - ما مشكلتك معي - لا تخيفني رسائلك الغادرة ولكن لا تتركها في ليل لا أستطيع فيه تلمس موضع يدي وراء سدوله. - إن كنت رجلاً اخرج إليَّ من مكمنك حيث تُغذّي مخالبك البنفسجية بسُكَّرٍ مسروقٍ من مؤونة الضيوف.. تعال نلتقي وجهاً لوجهٍ على أيِّ حافّةٍ، أو في أيِّ جبَّانة تريد لسوف ألقنك مواثيق الرجال. ينادي الشاعر الموت في موقف درامي، ويدعوه للمواجهة على حلبة اللغة، ولإسقاط معنوياته تجاهله بداية، وجعل صورته مستمدة من ذوات المخالب والأظفار ممزوجة بأوصاف شبيهة بالإنسان على نحو أسطوري وعلى طريقة الاستعارة المكنية تعقيبا، واسترجع تجربة الهذلي تناصا، غير أن صورة موت ناصر كانت أكثر مكرا وتقززا؛ غذاؤه ليس فريسة على العادة، بل سكّرا مسروقا من مؤونة الضيوف، يا لها من صورة مقرفة ومرفوضة تنكسر عليها التوقعات، وتمجها الذائقة الثقافية العربية المحبة لكرم الضيافة! حيوان أسطوري طفيلي سارق يمنع المضيف من إكرام الضيف! لم يستطع الشاعر الوفاء بالوعيد، لكنه لم يستسلم للعدو الشخصي وقاومه حتى اللحظة الأخيرة، وأنزل الموت منزلة القابل للمواجهة، وما لبث جسده أن غادر إلى الصمت حتى انبعثت روحه من تراب كلام قصيدته ومائها وهوائها منتصرا، هكذا حال الشعراء، لا يموتون إلا بأجسادهم، فهو سيحيى على مدلول اسمه كما تنبأ، يقول: أمي وأصدقائي الذين غدرت بهم يسمونني يحيى وهذا إن كنت لا تعلم اسم نبي صحراوي عمّد بالماء من يشفي الأعمى والأبرص وقام من تحت تراب الموت في اليوم الثالث. تعال إذن إلى حلبة الآلهة المطوقة بالملاحم والأنساب. لقد أعنق الشاعر أمجد ناصر لهواه بعنفوان وعدم استسلام؛ فواجه الموت باللغة ليحيا فيها، وبث في شعره معزوفة الحياة مقرونة بتجربة الموت فهما معا وجهان لشيء واحد، وتم له ذلك بإبدال شعري حديث منثور وبقافية مرسلة خارقة للبنى، حاملا إياه على محمل الأنساب والتاريخ في اتصال بالهوية، مستأنسا بالصراع في حضرة الأنبياء والشعراء والآلهة، منتصرا على الموت وموقنا بالبعث. هذه الرؤى الإبداعية نجد تردداتها عند كل شعراء الحداثة كالسياب، ومحمود درويش، وأولاد الصغير وغيرهم، شعراء جعلوا معايشة هذه التجربة الإنسانية تخيلا أو حقيقة مصدرا من مصادر الإلهام الشعري، ومدخلا للوعي أكثر بالحياة في قضاياها وامتداداتها اللانهائية، مترجمين هويتهم القائمة على إرادة المقاومة ورفض الواقع والتغيير، وفاتحين الباب أمام شعريات جديدة متصلة رأسا بالموت. إن تجربة الموت لدى الشعراء تستحق التأمل؛ فهي تجربة على غير قياس أو شبه، فريدة بطقوسها ورسائلها، تحملها اللغة الشعرية؛ ذلك الكون الذي مازال مجهوله ممتدا، والشاعر من دعا قراءه إلى اكتشاف ذلك المجهول في حياته وفي احتضاره وموته وجنازته، وكفى قراءه وأصدقاءه مؤونة التفكير في غير ذلك داعيا إلى التأمل في مجهول الكون والبيان؛ فهو أمير الكلام، حياته وموته قصيدة، وهما معا وجهان للغة واحدة هي لغة الشعر.