عاش حزب العدالة والتنمية هزة حقيقة خلال الأشهر الأربعة الماضية، بعد النتائج الغير مُرضية التي حققها الحزب في انتخابات 7 شتنبر الماضية، ولا شك أن جل هياكله عرفت احتقانا وسجالا كبيرين حول الأسباب الذاتية المتعلقة أساسا بتدبير الأمانة العامة للحزب وهيآته الجهوية والإقليمية للانتخابات، فعرفت أنشطة الحزب وجلّ هيآته الموازية تراجعا واضحا بعد استحقاقات شتنبر 2007، مما طرح عدة أسئلة حول مدى قوة التماسك التنظيمي والسياسي لأبناء العدالة والتنمية، إلا أن ما دار في اجتماعي المجلس الوطني للحزب أواخر دجنبر 2007، وكذا اللجنة المركزية لشبيبته نهاية الأسبوع الثاني من يناير2008، أكدّ بما لا يدع مجالا للشك أن العدالة والتنمية قوي ومتماسك، وأن ما حدث كان مجرد صدمة، أو ابتلاء بتعبير الأمين العام للحزب الدكتور سعد الدين العثماني. "" اجتماعات ولقاءات في تاريخها المعتاد: يعتبر انعقاد اجتماعات هيآت العدالة والتنمية المحلية والوطنية من أكبر مميزاته وأهم خصائصه، إذ يحرص مناضلو العدالة والتنمية على عقد لقاءاتهم بشكل مستمر وفي الآجال المحددة أو المتفق عليها رغم كل الظروف والعوامل. وترجمةً لهذه الميزة، عقد الحزب أواخر السنة المنصرمة اجتماعا عاديا لمجلسه الوطني والذي يضم قيادات الحزب على المستوى الوطني والجهوي والإقليمي، والمجلس الوطني بمثابة برلمان الحزب وإطاره التشريعي، وثاني مركز قرار بعد المؤتمر الوطني، ويتم فيه رسم التوجهات الكبرى كما يتم فيه تقييم أداء الأمانة العامة التي تمثل جهازا تنفيذيا داخل الحزب. المجلس الوطني الأخير لحزب العدالة والتنمية، لفت إليه الانتباه وجلب إليه المتابعة لعدة أسباب، لعل أهمها كونه ينعقد بعد انقشاع غبار الانتخابات وترسُّب ردود الأفعال اللحظية داخل الحزب، ردود الأفعال هاته كادت تخلق أزمة حقيقية بين أتباع العثماني وتُفرِّقهم شيعا، لولا الزاد السياسي والرصيد التربوي الذي يتمتعون به. وكما كان منتظرا، سيطرت نتائج الانتخابات على مجريات المجلس الوطني، وحضره كل من حضر ليُحمّل الأمانة العامة المسؤولية في ما اعتبروه - تأثرا بوسائل الإعلام ونتيجة لضعف التكوين السياسي- انتكاسة للحزب لعدم تربّعه على عرش الأحزاب المغربية، وتوجَّه نقاش المجلس الوطني من خلال ما بدا من بعض المداخلات إلى اعتبار أسلوب تدبير الحزب وإدارته هو السبب الوحيد الذي جعل الحزب يقف عند عتبة 46 مقعدا خلف حزب انتهت مدة صلاحيته السياسية، بل من المتدخلين من أشاروا بالأصابع إلى الأمين العام مباشرة منتقدين سياسته في التدبير. ومهما يكن تقييم أعضاء العدالة والتنمية لنتائج الحزب في الانتخابات الأخيرة، فإن المجلس الوطني في بيانه الختامي اعتبرها مشرفة، لأنه استطاع أن يأتي ثانيا رغم "محاولات التقزيم والحيلولة دون أن يتبوأ مكانته الحقيقية"، وتجول ذات البيان في عدد من القضايا مكررا مواقف الحزب إزاء قضية الصحراء وإزاء المشهد السياسي الوطني وكذلك على المستوى الحقوقي والاجتماعي والاقتصادي، معرجا على لازمة تحصين المجتمع بمختلف الوسائل التربوية لصيانة النسيج الاجتماعي المغربي، وغيرها من اللازمات التي لا تكاد تخلو منها بيانات العدالة والتنمية. جديد الحزب: الحوار الوطني ولعل الجديد التي خرج به المجلس الوطني هو إقرار حوار وطني داخلي، والذي يعني أن كل مناضلي الحزب مدعوون إلى وضع تجربة الحزب تحت المجهر، ومحاولة اكتشاف مكامن النقص والمساهمة في رسم استرتيجية جديدة للتدافع السياسي بعد أن بدا واضحا أن المنافسين الحاليين لا يفقهون شيئا في السياسة كما أتقنها الحزب في بداياته. الحوار الداخلي الذي سيدشنه العدالة والتنمية خلال الأيام المقبلة، سيكون مبادرة نوعية في المشهد السياسي المغربي كما عودنا على ذلك أبناء التوحيد والإصلاح الممارسين للعمل السياسي، لكن هناك هاجس عند الكثير من المناضلين قد يفرغ المبادرة من مضامينها، هذا الهاجس يتعلق بنوع القضايا التي ستطرح للنقاش وبأي سقف، ذلك أنه من الصعب على الأمانة العامة التي تُعتبر عمليا هي المشرفة على الحوار، أن تطرح القضايا التي يختلف حولها أعضاؤها للنقاش على المستوى الوطني، لأنه بقدر ما ستكون محطات الحوار فرصة لاستطلاع رأي أبناء الحزب، بقدر ما سوف تكشف عن شعبية آراء ومواقف بعض القياديين الذين يتنافسون في صمت داخل الأمانة العامة! وهو ما سيُصعِّب من مرور المؤتمر الوطني المقبل في أجواء ديمقراطية في مظهرها، توافقية في عمقها كما يخطط لذلك. الموقف من النظام: هل يخضع للنقاش؟ لذلك مطلوب من الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، أن تفصّل في صيغ الحوار الوطني حتى يستوعب كل الآراء، وأن لا تلجأ إلى أساليب قد تجعله يولد ميتا. والأكيد أن الحزب في حاجة ماسة إلى هذا النوع من المبادرات التي من شأنها أن تجدد الدماء في صفوف الحزب وترجع الثقة إلى المنتسبين إليه في مشروعهم، على أساس أن يكون النقاش حرا في كل القضايا انطلاقا من الطروحات المؤسسة للعمل السياسي الإسلامي كما أصَّل لها الأمين العام سعد الدين العثماني فقهيا وأحمد الريسوني مقاصديا، ومحمد يتيم فكريا وعبد الإله بن كيران وعبد الله بها عمليا، مرورا بالموقف من نظام الحكم في المغرب ولو تجديدا للقبول به لكن وفق شروط تراعي مصلحة المغرب والمغاربة أولا وأخيرا، والإقلاع عن جعل الموقف منه شيئا مقدسا وخطا أحمرا داخل الحزب، وقد أبانت تجربة الموقف الحالي منه خلال عشر سنوات، أن ما تحقق قليل جدا وثانوي بالمقارنة مع ما يطمح إليه أعضاء الحزب. ولسنا هنا بصدد مناقشة المؤسسة الملكية التي تبقى جزء من النظام وليست كل النظام، ولا أعتقد أن هناك من أبناء العدالة والتنمية من يعترض على إمارة المؤمنين وشرعيتها. من أجل ثقافة تنظيمية جديدة: ومن القضايا المهمة التي يجب أن يسلط عليها الضوء خلال حوار العدالة والتنمية الداخلي، قضية التدبير والمسؤولية داخل الحزب، وكيف يمكن الحسم فيها ووفق أية مقاييس، هل وفق المقاييس الأخلاقية أم وفق مقاييس التعاقد كما بدأ يلوح بذلك محمد يتيم الذي عُين على رأس لجنة الإشراف على الحوار الوطني (أنظر ص7 من جريدة التجديد عدد 1813 بتاريخ 24 يناير2008). والواقع أن انتقال الحزب من المنطق السائد حاليا في إسناد المسؤوليات إلى منطق آخر ضروري من أجل الانتقال بالفعل السياسي الإسلامي إلى مرحلة جديدة قوامها استيعاب مستجدات الظروف المحيطة وتجاوز أخطاء الماضي، وكذلك من شأن ذلك أن يفرز المسؤولين المناسبِين في الأماكن المناسبة، ليس كما هو حاصل اليوم في مواقع عديدة من جسم العدالة والتنمية، إذ الآليات "التربوية" التي عادة ما تكون الحاسمة في اختيار وانتخاب المسؤولين داخل الحزب أوجدت نوعا "هجينا" من المسؤولين في ميدان السياسة، وهذا طبيعي جدا لأن مقاييس مساحة التربية هي غيرها في مساحة السياسة. لكن بالمقابل اعتماد آليات التعاقد -على الأقل بنفس المفهوم المتداول في العديد من التنظيمات غير الإسلامية- سوف يجعل أبناء الحزب أمام ثقافة تنظيمية غير محسوبة العواقب قد تأتي بنتائج عكسية، ما لم يتم التأصيل لها وتأطيرها تأطيرا محكما، ولعل هذا ما جعل الأمين العام للحزب الدكتور سعد الدين العثماني يستبق الأمر ويعيد من خلال مقال نشر على عدد من المواقع على الانترنيت طرح فكرة قديمة بالنسبة إليه، وهي فكرة التمييز أو الفصل بين الدين والسياسة، وإن كان القراء المفترضون للمقال هم النخبة التي تشتغل على موضوع العمل السياسي في الإسلام، لكن هذا لا يمنع من القول بأن أعضاء العدالة والتنمية مستهدفون أيضا به وبما ورد فيه من محددات وضوابط في العلاقة بين الدين والسياسة. هل من خطة طريق لتحديد تحالفات الحزب؟ ولأن حزب العدالة والتنمية يحتاج إلى دعم ومساندة وشراكة سياسية من أجل المساهمة في تنفيذ مشروعه، وكذلك لعدم تأهبه كل التأهب لتدبير الشأن العام أو المحلي لوحده، وجب التفكير في إعادة النظر في العلاقة مع الأطراف الفاعلة سياسيا في المغرب أحزابا كانت أو لوبيات أو أصحاب نفوذ، لأن تحديد العلاقة مع هذه الأطراف من شأنه أن يضع خارطة طريق أمام نسج تحالفات قوية وذات بعد وطني خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الجماعية، لأن منهج الحزب في التحالف حاليا لايزال غير واضح بل يمكن وصفه بالمرتبك، وحتى ما كان يسوقه قياديو الحزب حول أن التحالف عند العدالة والتنمية مبني أساسا على البرامج السياسية بدأ يفقد معناه وعمقه مع فوضى الصلاحيات والإنجاز الحقيقي على الميدان في شتى المجالات بين المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وبين الحكومة وبين الجماعات المحلية. لذلك الحوار الوطني الداخلي لابد أن تثار فيه قضية التحالفات، مع من؟ ولماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ ماذا عن العلاقة بين الحزب والشبيبة؟ مسألة أخرى قد تكون-على حساسيتها- مفيدة في الحوار الوطني لحزب العدالة والتنمية، ألا وهي العلاقة مع شبيبة الحزب التي بدأت تكبر وأصبحت لها طموحات في المشاركة بجدية في الشأن السياسي الوطني تأطيرا وتكوينا ونضالا لا منازعة للحزب. والمتتبع للشأن الداخلي لحزب العدالة والتنمية سوف يلحظ أن شبيبته ظلت طوال السنوات الأربعة الماضية مجرد تابع للحزب ولم ترق العلاقة بينها إلى مستوى العلاقة الطبيعية بين حزب وشبيبته، فكم من قضية ذات بعد شبابي لم يتم فيها استشارة قياديي الشبيبة، وكم من موضوع تم فيه تهميش الشبيبة التي يفترض أن تكون خزانا للأفكار والمبادرات وبنك معلومات يستفيد منه الحزب، ويفترض كذلك أن يكون أطرها هم من يمثلون ما يُعرف بحكومة الظل في الحزب، لكن للأسف وعلى جميع مستويات التنظيم لم تكن العلاقة التي تجمع الحزب بالشبيبة مُرضية، ومبرر طرح هذه المسألة للنقاش والحوار الداخلي مبرر منطقي، لأن الحديث عن شبيبة العدالة والتنمية اليوم، هو حديث عن حزب العدالة والتنمية في السنوات المقبلة، وموضوعيا الشبيبة لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب سياسيا، لكن العلاقة الحقيقية المبنية على أساس تصوري واضح يجب أن يتم تقنينها منذ البداية لتسير الأمور في مسارها الطبيعي. ولترجمة النية الصادقة للأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية في أن هناك رغبة حقيقية في إشراك الشبيبة في القرارات الكبرى للحزب، لا مناص من أن تُسغل فرصة الحوار الوطني ببعث رسالة إلى المكتب الوطني بشكل رسمي تتضمن أرضية الحوار مع طلب الانخراط فيه بكل قوة، ولما لا إشراك الشبيبة في وضع أرضية الحوار. ختاما: ولا شك أن إثارة القضايا المشار إليها أعلاه، بالإضافة إلى قضايا أخرى كالإعلام الحزبي والبرنامج التكويني، سوف يُسهم في جعل الحوار الوطني الداخلي لحزب العدالة والتنمية مبادرة جريئة ونوعية في المشهد السياسي المغربي، وينتج عنه بناء حزب سياسي قوي في أفكاره ومتماسك في تنظيمه وفاعل في حاضره يصعب تجاوزه في المستقبل. حسن حمورو [email protected] [email protected]