ما تشهده ثقافات العالم اليوم، يدعو إلى الحذر وإعادة النظر في مفهوم الإنسان وعلاقاته بذاته وبالآخر. فلا يمكننا أن نتصوّر في القرن الواحد والعشرين، أن الناس مازالوا يتقاتلون بشكل بدائي للدفاع عن هوية جماعاتهم، ويشهرون كل أنواع الأسلحة بما فيها الإثنية والرمزية لتسييج مجال خصوصياتهم، التي تزحف عليها آلة الهيمنة والسيطرة لإلحاقهم قسرا بالمراكز الكبرى، وتذويبهم في محلول خليطي موحّد. العولمة المتوحّشة، خلقت ما يسمى "بالصناعة الثقافية" معتمدة على ميديا الجماهير، وبرعت أمريكا بشكل فادح في تسديد فوهاتها ضدّ الثقافات الأولى في القارة الجديدة، حتى أصبحنا في أفلام هوليود نستهلك بدون وعي، وباستمتاع كبير ما يقوم به نجوم رعاة البقر ضد الهنود والمكسيكيين، أو نتعاطف مع شرطة "الإف بي آي"، أو أحقر صعاليك مافيات المدن الحديثة، وهم يطاردون السود الأشرار في أفلام المغامرات، مع صنع صورة حقيرة وإجرامية عنهم وسّعت غيتوهات فقرهم وردود فعلهم تجاه ثقافة الأبيض الاستعلائية والعنصرية. في العالم العربي والإسلامي، تبدو مقارنة القرن الثالث الهجري، على سبيل المثال، بالقرن الواحد والعشرين، مجرد فكرة خرقاء تبرز مدى هبوطنا إلى عوالم التناحر السُّفلية، وتناسل الملل والنحل المعاصرة بشكل مخيف، مطالبة بحقوقها التي ردمتها إيديولوجيات شمولية راكمت تاريخا من الاضطهاد والإبادات الجماعية، في ثقافة تعتبر حقوق الإنسان وحقوق الأقليات اختراقا غربيا لهويتنا الصافية والمتعالية على الأفراد والجماعات، والمتوجّسة من الثقافات الأخرى. رغم ما يعيشه المغرب الثقافي من انحطاط وتصلّب في الشرايين، فقد استطاعت الثقافة الأمازيغية أن تخترق النفق التاريخي المظلم الذي حكم عليها بأن تعيش في الهامش وخارج الاعتراف الرسمي، وذلك بفضل نخبة من مثقفيها ومفكريها النشطين الذين قاموا بثورة هادئة، وفي ظرف قياسي، بمراكمة جهد علمي ومعرفي كي تبني لغتها وذاتها من جديد، وكي يتعرّف المغاربة على وجههم الحضاري في مرآة مجتمع متعدد الروافد والثقافات. لقد عانى الأمازيغ في شمال إفريقيا كل أنواع التهميش والميز، رغم أنهم في المغرب لا يشكلون أقلية كما في مصر مثلا، بل إن الثقافة الأمازيغية هي ثقافتنا الأم الحقيقية وطمسها هو جريمة ثقافية في حقّنا جميعا. أخطر ما يمكن أن تعيشه هذه الثقافة الحاضرة بقوة في اليومي، هو التعالي الإيديولوجي لبعض المثقفين العروبيين، باسم القومية أو الدّين، لذلك يعبّر بعض عروبيي شمال إفريقيا عن بؤسهم الثقافي، فهم في المغرب والجزائر وتونس وليبيا يعانون أصلا من تهميش مركَزَيْ الشرق والغرب لهم، ويتحوّلون بشكل سريالي إلى التمركز حول الذات ويعلنون إقصاءهم وتنكّرهم لأبناء جلدتهم ولجذر عميق في ثقافتهم العروبية. قد نتفهّم رعب مثقف وروائي مصري كيوسف القعيد، عندما أعلن أن أمازيغ مصر "بمرسى مطروح" يشكلون خطرا على مصر وحدودها. لكن المثقفين المغاربيين اليوم، مطالبين بالتخلّص من شوفينية الإيديولوجيا القومية، فالثقافة الديمقراطية والحداثية لا تقبل الفكر الأحادي، فنحن كمجتمع مغربي ثراؤه في ألوان أطيافه المتعددة، وعندما نتحدّث عن الثقافة الأمازيغية، فليس هذا منّة من العروبيين نهَبُها للأمازيغ، بل واجب معرفي ملتزم بتاريخنا وبالرؤية المعاصرة والحديثة لأنثروبولوجيا الثقافات، والمفهوم العبرثقافي Transculturel الذي يتجاوز التعدّد الثقافي وهو يعزل كل ثقافة في "غيتو" خاص بها. نحن اليوم، نحتفي بالسنة الأمازيغية الجديدة 2962 "إيض يناير" الموافقة ليوم الجمعة 13 يناير 2012، بهويتنا العروبية والأمازيغية والحسانية والأندلسية والعبرية والمتوسطية، ونتمنى أن يتكرّس هذا الاحتفال رسميا كما في الجزائر. هذا اليوم سيكون ثقافيا ورمزيا بامتياز، فنحن نقرأ فقط، عن احتفاء إيمازيغن بهذا اليوم والطقوس المرافقة له، لكننا نريد لأبنائنا أن يطّلعوا بشكل مباشر على تراث غني بالإشارات الأسطورية والحضارية للتعرّف على المغرب العميق واللامرئي. فالاحتفاء بهذا اليوم، تفسره بعض الأساطير الأمازيغية الممتعة، بأن امرأة عجوزا تحدّت الطبيعة واعتبرت أن صبرها ومقاومتها لبرد الشتاء القاسي يعود إليها، مما أغضب شهر يناير، وطلب من شهر "فورار" أي فبراير، أن يقرضه يوما لمعاقبتها. ثمة الكثير من الحكايات والأساطير الأمازيغية التي تكشف ارتباط الإنسان المغربي بالأرض والطبيعة، وهي تراث رائع يجب الحفاظ عليه بتداوله بين المغاربة. وقد شاهدنا مؤخرا في فيديو يروج على يوتوب، مساهمة المثقف المعروف أحمد عصيد في احتفالات أحواش وفي أهازيج النظم الشعري الأمازيغي، وهذا صراحة يبيّن دور المثقفين المغاربة الحداثيين اليوم الذين نفتخر بهم، وهم يؤسسون لمشروع ثقافي ديمقراطي مغربي، ننظر فيه لذواتنا بافتخار وحبّ، ولا نستسلم فيه لخوف هوياتي جماعي، كأن بعضنا سيلتهم ثقافة الآخر. لذلك نقول لجميع المغاربة بدون استثناء، سنة أمازيغية سعيدة : "أسْغّاس أمازيغ أماينو". asggwas amaynu amghudu “ 2962