(المحور الأول) طلع البكي ونحن قاعدين لآخر مرة سوا وساكتين بعيونك حنين وبسكوتك حنين لو بعرف بتفكر بمين وتهرب مني تضيع وما أرجع لاقيك وأنت قاعد حدي وعم فتش عليك.... تأثرنا ونحن نستمع لهذه الأغنية الجميلة للسيدة فيروز(أنا وزميلة لي في العمل)، على أمواج إذاعة الراديو بالسيارة أثناء عودتنا لبيوتنا: إنه صمت الرجال والذي لا تفهمه النساء ويعانين منه، تساءلنا إلى أي حد يمكن للفن الجاد أن يضع يده على الإشكالات الاجتماعية، ومدى نجاعته في حلها، حيث ان هذه "الأغنية " في نهايتها حلت الإشكال بانفصال الطرفين. قالت لي زميلتي: "زوجي يصمت كثيرا ولا يعجبه أن أساله ما بك، في الوقت الذي أتمنى فيه أن يسألني هوعن ما بي، لكنت أخبرته عن ما يقلقني منذ عشر سنوات مضت، وعن متاعب التربية للمراهقين في الفصل الدراسي وعن جارتي التي أساءت فهمي وعن وعن وعن......" وأسردت في القول إنه اتهمها ذات مرة، بأنها شبه "مجنونة" وأنه لا يستوعب ماذا تريد. وتتعجب هي أنه لم يستطع مسايرتها رغم كفاءته العلمية، وفسرت صمته بأنه لم يعد يطيقها، أو أنه يفكر في غيرها. فحين يتعامل الرجل مع زوجته بعقلية ونفسية رجل، وينسى أنها امرأة، يخطئ الطريق، وكذا حين تتعامل المرأة مع زوجها بعقلية ونفسية امرأة، وتنسى أنه رجل، تزيد الموقف تأزما، فعدم تفهم وفهم واستيعاب الفروق بيننا في تركيبتنا ونفسياتنا وأنماط تفكيرنا وتداعياتها كنساء ورجال، ساهم هو الآخر اليوم، وبشكل كبير في الخرس الزوجي، وتفشي ظاهرة الطلاق بأنواعه، المعلن والصامت، والطلاق العاطفي والنفسي، إنها أزمة احتراق داخلي واجتماعي. قبل أن نسلط الضوء على قراءة وتوضيح الفرق بين التركيبة العقلية والنفسية والوجدانية والبنيوية وتداعياتها لكل من المرأة والرجل، يطرح السؤال نفسه: المرأة والرجل منذ الأزل بينهما فروق فلماذا لم يؤد هذا التباين إلى مثل هذه الأزمات منذ قدم الزمان، يدفعني هذا إلى التطرق لمحورين أساسين: المحور الأول: نظرة عبر تطور البشرية حول التماسك الأسري وموقع المرأة فيه، وكيف تمت إدارة الفوارق بين الجنسين. (وهو موضوع مقال اليوم) المحور الثاني: طرح وفهم الفروق بين والمرأة والرجل وكيفية إدارتها بنجاح من أجل أسرة متماسكة والاستمتاع بفن الحياة الزوجية. (وهو موضوع المقال المقبل بإذن الله) المحور الأول: نظرة عبر تطور البشرية حول التماسك الأسري وموقع المرأة فيه وكيف تمت إدارة الفوارق بين الجنسين في بداية الخليقة، وبفطرتهم كانوا يستوعبون ويقدرون ويحترمون اختلافاتهم، فالبنية الجسمية القوية للرجل وأدواره في مجابهة الطبيعة (الصيد) وفي حماية ذويه، أعطته نظرة هيبة وتقدير من طرف المرأة والمجتمع، كما أن حمل المرأة وإنجابها وإرضاعها أعطاها قدسية أمام الرجل والمجتمع، حتى أنها في بعض المجتمعات أعطيت لها صفة الألوهية، فالتعايش بالفطرة وتفهم هذه الاختلافات واحترامها أعطى للعلاقة تماسكا وقوة وصلابة. وتوالت الحقب، وكلما أصبحت الحياة قاسية لسبب من الأسباب، كلما كان أول من يهان هي المرأة، "لضعف" بنيتها الجسمانية، ولارتباطها بلحظات ضعف شامل عند الحمل والولادة والرضاعة، وتتجاهل قوتها في ليونتها، وقدرتها الخارقة على التحمل، وأنها الحصن المتين الذي يرتكز عليه أي كيان، وقد وصل هذا الإنكار لحد إنها تدفن حية في الجاهلية، فكان الاستقرار الأسري قائما إلا أن وضعية المرأة فيه غير مريحة. وبمجيء ا الحضارة الإسلامية، التي دعمت الطبيعة البشرية، واحترمت الأسرة في شكلها المتوازن، حيث كرمت المرأة والرجل على حد سواء في شكل متكامل، وأصبح وازع التقوى هو صمام الأمان لمؤسسة الزواج، وكل طرف في كيان الأسرة كان راضيا ومستمتعا بنفسه وبالأدوار التي يلعب. فعلى الرغم من الاختلاف البنيوي والنمطي الموجود بين المرأة والرجل، استطاع الإسلام أن يؤسس لبنة قوية للأسر، بالعيش بسلام وبتصالح مع الذات ومع الطرف الآخر، حين صحح الخلل في نظرة المجتمع للمرأة، ورفع تقديرها الذاتي، لكي يخلق التوازن والرضا داخل الأسرة الواحدة، في قالب من التعاون والتشاور والتكامل، وحتى من أشهر ما قاله الرسول (ص) "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" وفي ما معناه: "الجنة تحت أقدام الأمهات". ولقصة حلق الرؤوس، وامتثال الرسول صلى الله عليه وسلم لرأي زوجته أم سلمة، لخير إثبات على ذلك. لكن في القرنين الماضيين، بعد سقوط الدولة العثمانية، سيطر فكر الجمود والركود على بلداننا العربية والإسلامية، والذي أثر سلبا على كل مناحي الحياة، حتى أنه ساد الفهم الضيق للدين والتدين، فبدل أن ينصب الاجتهاد في مواطن الخلل الحقيقية، أصبحت أغلب الاجتهادات حول اتهام المرأة بأنها سبب هذا الانحطاط، وضيق الخناق عليها لأبعد الحدود، وتحجمت كينونة المرأة، وبشكل قهري، بدأت المرأة تتشكل نظرتها لنفسها بالدونية والاحتقار، وأصبح كيان الأسرة وإن كان قائما - ونسب الطلاق فيه شبه منعدمة - معتلا باعتلال واضطهاد أحد أطرافه، ومهددا بالانفجار إذا سنحت له الفرصة. تزامن هذا مع الحراك الغربي، ولم تكن المجتمعات العربية والإسلامية بمعزل عن التأثر بهذا الحراك، "وخاصة الضعف والتأخر لمجتمعاتنا وعدم الاجتهاد في المسار الصحيح، ولد لدينا الحاجة والتبعية"، فالتيارات الفكرية والثورة الصناعية في العالم الغربي، دفعت إلى بروز أنماط جديدة للحياة، هذا العالم الذي أصبح يتساءل، هل تعتبر الأسرة عماد التجمع البشري، أم الأسرة شكل من ارتباط الإنسان بماض لا يدفع للتحرر والتمدن، وظهر فكر يدفع لاستغلال وقت وجهد الإنسان، رجلا كان أو امرأة لأقصى حد، فشيئ الإنسان، وأصبح التمايز بين بني البشر، رجلا كان أو امرأة بكم الإنتاج المادي والادخار المالي، وسادت بذلك فوضى عارمة: لم تعد الأسرة تستطيع احتضان أطفالها ومسنيها، وانتشرت دور الرعاية الجماعية للأطفال والمسنين، "وكأن الأبوة والأمومة يدفع لأجلها أجر لأشخاص آخرين ليلعبوها، متجاهلين بذلك أن الأبوة والأمومة علاقة وجدانية ودون مقابل"، وحتى الغداء أصبح غالبا في بيئة العمل والمطاعم. الروح الجماعية والمنفعة العليا ولو في الأسرة ذاتها، اندثرت لتحل محلها النزعة الفردانية، وتلاشت التضحية المتبادلة، تحت شعار ولماذا "أصبر ولماذا أتحمل". برزت فلسفة الصراع بين الذكر والأنثى، تحت مسمى مقاربة النوع، ونودي للمساواة الحرفية والندية بينهما، ولم تسلم من هذه الرؤية: بنيان الأسرة، الذي قوامه الأساسي الانجذاب والتكامل بين طرفين يفترض أن يكونا مختلفين بنيويا ونمطيا. أصبح التفكك الأسري من أسهل ما يمكن، واستخف بميثاق ومصداقية مؤسسة الزواج وبالعلاقات القريبة منها والممتدة، ولم يلق بال على أن الزواج عهد، وإنجاب طفل عهد آخر، والانفصال أو الانسحاب يعد إخلالا بالعهود، ومن أكثر أنواع الانسحاب إيلاما وألما للنفس على الإطلاق، كما يحس الذين وقع عليهم هذا الانفصال أو الانسحاب، أنه لم يوف تجاههم أقوى العهود، فتهتز الثقة في النفس وبالآخر وبالمجتمع، فيظهر التمرد على شكل تعاطي المخدرات، العنف المدرسي، الانتحار، الاغتصاب، والحمل في سن مبكر خارج مؤسسة الزواج، الأمراض التناسلية في صفوف المراهقين في الوقت الذي كان قمة التمرد في المدارس هو مضغ "العلك" أو الجري في الممرات. إننا ننسى أن كلا منا يحتاج لشقه الآخر، لا لنتنافس بشكل سلبي ولا لنتصارع، ولا لنضعف بعضنا ولا لنتفنن في تجاهل بعضنا البعض، ولا لنسخر من بعضنا أو نستفز بعضنا، ولا ليستغل طرف منا الآخر بشكل انتهازي، ولا للعيش على حساب الآخر بشكل قهري وغير ودي، ولا للعيش باستقلالية تامة عن بعضنا البعض داخل بنيان واحد، ولا لنقف مع الزمن ضد الطرف الأخر، ولا لننشب حربا باردة تحت أنبل وأعظم سقف في المجتمع "الأسرة" حيث كل المظاهر الإنسانية تنطق بها: من حب وحنان وود ورحمة وتعاون وتآزر وتراحم وتلاحم وتكاثف، ومن رعاية بعضنا بعضا في الأزمات الصحية والاجتماعية والاقتصادية وعواصف الحياة كلها (كأن نفقد أحد أفرادنا بالموت مثلا) ومن حمل المرأة ومخاضها، وميلاد رضع، حياتهم وصلاحهم تحت رحمتنا. إن استقلالية الطرفين اقتصاديا، وتعلمهما ووعيهما وانفتاحهما على المعلومة في الاتجاه غير المناسب، مع وجود كم من الضغوط ,والتراكمات والإرهاق والإنهاك، لم يترك وقتا ولا مجالا، لملاحظة وتدارك الهوة الحاصلة في فهم كل من الطرفين لبعضهما البعض، هذا التباين بين الرجل والمرأة، في اللغة والتخاطب، والصدى وطريقة التحليل والتفكير، والاستنتاج والتأثر والاستجابة، زاد من الضغوط على الطرفين، في ظل غياب منظومة اجتماعية وثقافية واقتصادية وإعلامية داعمة، وواقية للأسرة ومؤسسة الزواج. ولان رباط الزواج رباط أبدي، فسوء فهم الزوجين لنفسيات بعضهما البعض، وإن كان يبدو بسيطا، فحدوثه بشكل مداوم ومتكرر (مع وجود تحديات أخرى: القوت، العمل، تحسين المستوى المعيشي والدراسي للأبناء والأسرة، تطوير الذات والإنجاز، والذي قد يبدو أهم) ليخلق هوة كبيرة بين الطرفين مع مرور الزمن، قد يصل الى حد السكتة الزوجية، والانفصال، وعلاجه لم يعد رفاهية وإن تظاهر لنا ذلك. لذا كان لزاما على الحراك الفكري، تدارك هذا الخلل والاضطراب الحاصل، وتسليط الضوء على طبيعة الاختلافات في التفكير والتحليل، والرؤية والتعبير والفعل والتحفيز، وكيفية التعامل مع الضغوط والانتظارات، والتأثير والاستجابة، لكل من الرجل والمرأة، ليستطيعا إيجاد ذاتيتهما وراحتهما ومتعتهما، وليستطيعا تحقيق أهدافهما وطموحاتهما وإنجازاتهما في تناغم ومرح وانسجام، وبذلك نتجنب الضياع والتلف والاحتراق حتى نعود بالنفع والدعم لنا وللنشء وللمجتمع. برزت كتابات في تدارس هذه الفروق والحفاظ على الأسرة، من أبرزها: "الرجال من المريخ والنساء من الزهرة" لجون جراي "العادات السبع للأسر الأكثر فعالية" لاستيفن كوفي "قواعد تعامل الأزواج " لشيري شنيدر ودبلين ثين. وسأعطي إطلالة على هذه الفروق في المحور الثاني في المقال المقبل بإذن الله.