على الجانب الجنوبي من مدينة تطوان، ما بين النهر والأسوار، يقبع مبنى يخطف الأبصار، على يمين العابر لشارع المسيرة، تزين قراميد زليج خضراء أسقف نوافذه، وزليج زاه يملأ مساحات أبراجه الموزعة على أركانه، التي تماثل في تصميمها صوامع المساجد، في إشارة واضحة إلى عناصر القصبات والقلاع الحاضرة بامتياز في التقليد المعماري المحلي، وأبواب تضاهي بأقواسها خصائص المعمار الأندلسي. جمالية بصرية تستوقف عابري الشارع للتأمل في صنيعة "هندسة التدجين"، التي مزجت بين عناصر المعمار العربي ذات الخصوصية الأندلسية، ومكونات الطراز المعماري الأوروبي، مشكلة بتجانس جزيئاتها معلمة فريدة ظلت شاهدة على التعايش والانصهار بين ثقافتي الضفتين، ومجسدة في فلسفتها مسألة التلاقح الثقافي وصون الذاكرة المشتركة. هناك، في ذلك الموضع الاستراتيجي، ما بين النهر والأسوار، وأمام حديقة "القنصل كاخيغاس"، التي تحمل اليوم اسم حديقة "مولاي رشيد"، ظلت معلمة محطة القطار القديمة حاضرة في مخيلة جيل دأب على قطع نحو أربعين كيلومترا على متن قطار ظهر فجأة في أحد أيام سنة 1918، واختفى فجأة في إحدى ليالي 1958، ليكون الرابط الوحيد بين بنت غرناطة وجارتها السليبة سبتة. وهكذا ظلت "لا إسطاسيون" أو المحطة التي صممها المهندس الإسباني خوليو رودريغيث رودا، كما صمم مثيلاتها بالعليين والفنيدق وسبتةالمحتلة، عرضة للنسيان والانهيار إلى أن حلت سنة 2013، حين تم تحويلها إلى "مركز تطوان للفن الحديث"، وهو المشروع الذي أحدث بفضل نضال ثلة من أبناء تطوان الغيورين على تراثها، وبجهود محمودة لوزارة الثقافة ودعم من حكومة الأندلس، في إطار المساهمة في الحفاظ على المنجز الفني المغربي، وتأهيله بوصفه مكونا من المكونات الأساسية للهوية المغربية، ورافدا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. مركز الفن الحديث.. نشأة الفكرة والامتداد يقول الفنان التشكيلي بوزيد بوعبيد، محافظ المركز، إن "الحلم بدأ بجلسة نقاش جمعتني وأستاذي وصديقي الفنان سعد بن سفاج، بأحد مقاهي تطوان، في يوم من أيام ديسمبر 1998، تباحثنا خلالها إمكانية حفظ ذاكرة الفن التشكيلي للمدينة في فضاء مخصص لأعمال الفنانين الذين عاشوا بها أو أقاموا فيها". وأضاف "في صلب ذلك النقاش اقترح علي سعد أن أعد عريضة يوقع عليها فنانو المدينة من أجل تخصيص فضاء الباشوية لهذا الغرض، غير أنني لم أستسغ الفكرة حينها، واعتبرتها حلما حلمناه في لحظة حديث ومضى". وأوضح بوعبيد أن إصرار سعد على إعداد عريضة يوقعها فنانو المدينة، "حملني على كتابتها وجمع توقيعات الفنانين، ثم توجهنا إلى جمعية "تطاون أسمير"، ملتمسين منها الترافع عن هذا المشروع لحفظ الذاكرة الفنية للمدينة، فتبنته، وعقدت في هذا الصدد عدة ندوات صحافية، وراسلنا عددا من الوزراء حينها"، مشيرا إلى أن وزير الثقافة آنذاك، محمد الأشعري، رحب بالفكرة وثمنها. و"مع هذا التشجيع بدأت تتبلور الفكرة، التي لاقت استحسانا كبيرا من لدن فعاليات عدة انضمت للترافع عنها، حتى أوصلناها إلى عامل الإقليم آنذاك، العلوي الإسماعيلي"، يقول بوعبيد. وتابع الفنان التشكيلي وأستاذ تاريخ الفن بالمعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان حديثه قائلا: "في كل مرحلة كانت تظهر أفكار جديدة، حيث تغير مقترح فضاء الباشوية إلى بناية المحكمة الابتدائية السابقة بالفدان القديم، ومع تكاثف الفاعلين حول الفكرة وقع اختيارنا في نهاية المطاف على المحطة القديمة للقطار"، مشيرا إلى أنه "بعد الاتفاق على هذا الفضاء تدخل عمال الإقليم لدى الأملاك المخزنية لتسهيل علمية تسليم المبنى المتهالك آنذاك لفائدة المشروع، عن طريق الجماعة الحضرية حينها، غير أن رئيسها أحال الملف على وزير الثقافة بمبرر أن هذا الإجراء يدخل في اختصاصه وليس في اختصاص الجماعة الحضرية". وزاد محافظ مركز تطوان للفن الحديث قائلا: "قام الوزير الأشعري بالتواصل مع مانويل تشافيز غونزاليس، رئيس حكومة الأندلس في ذلك الوقت، من أجل عقد شراكة لترميم مبنى محطة القطار القديمة، فوافق الأخير بشرط تحديد محتويات المركز موضوع المشروع مسبقا"، معتبرا أن هذه المرحلة كانت البداية الحقيقية للمشروع، "حيث تواصلوا معي لإعداده بشكل تقني، فوضعت تصورا تقنيا للمشروع لقي القبول، وشكلت له وزارة الثقافة لجنة متابعة، وخصصت له الحكومة الأندلسية 15 مليون درهم لإعادة ترميم المبنى الذي كان في وضعية مزرية،" يقول بوعبيد، مشيرا إلى أن النضال على مشروع مركز تطوان للفن الحديث انطلق من سنة 1998 حتى 20 نونبر 2013، وهي السنة التي افتتحه فيها وزير الثقافة الأسبق محمد الصبيحي. مكونات المركز.. الأقسام والأعمال يعتبر مركز تطوان للفن الحديث أحد أهم رموز الذاكرة المشتركة والتعاون بين المغرب وإسبانيا من جهة، وبين تطوان وحكومة الأندلس من جهة أخرى، وهو يحتل بناية محطة القطار القديمة بتطوان، وهي بناية تم تدشينها في 4 ماي 1918، وتقع بين المدينة العتيقة والمدينة الإسبانية المسماة "إنشانسي". يقدم المركز مجموعة من الأعمال، التي تمثل التجربة الفنية التي احتضنتها المدينة داخل تاريخ الفنون التشكيلية المغربية، باعتبارها كانت ولا تزال ملتقى للعديد من الفنانين الذين توافدوا إليها منجذبين بجماليتها ومركزها الإبداعي المتميز. يقول بوعبيد إن مركز تطوان للفن الحديث "يتوفر على أربع قاعات وفضاء عرض واسع في الطابق السفلي. تحمل القاعة الأولى اسم مدرسة تطوان: المؤسسون الرواد، وتضم أعمال الرواد الأوائل للفن التشكيلي بتطوان، 98 في المائة منهم إسبان، أمثال الفنان الغرناطي برتوشي، فريكساس فيفو، ماريا خيسوس دولوريس، كارلوس غاليغوس، إسبيرانثا أنينيو وأسماء أخرى. إضافة إلى الجيل الأول من الفنانين المغاربة الذين عاصروا هؤلاء أمثال: محمد السرغيتي، التهامي القصري الداد، المكي امغارة، عبد الله الفخار وسعد بن شفاج"، مشيرا إلى أن هؤلاء "يمثلون التجارب الأولى لمدرسة الفنون الجميلة بتطوان، ممثلة بإنتاجها الفني فترة طويلة من تاريخ التشكيل بالمدينة والمغرب وأوروبا على حد سواء". وأوضح بوعبيد أن هذا الجيل "اتسم باشتغاله على العادات والتقاليد والألوان المغربية، وهو الأمر الذي يعكس انبهارهم بمكونات الثقافة المغربية، والمجسد في اهتمامهم بالمناظر العامة، التي أعطت أعمالهم الفنية جانب الوضوح"، معترفا بفضل الفنانين الإسبان، الذين كانوا متواجدين بتطوان، في إدخال الصورة إلى المدينة، "والتي نتلمسها في التماثيل والمنحوتات، التي تميز المدينة الإسبانية الحديثة، أو ما يسمى ب"إنشانسي"، وفي اللوحات الفنية التي ضمتها المحطة الطرقية القديمة، وفي بعض الجداريات". وتابع محافظ المركز حديثه قائلا: "أما القاعة الثانية، فقد خصصت للجيل الثاني من الفنانين، حيث أطلق عليها اسم بزوغ الهوية التشكيلية المغربية، وقد ضمت أعمال جيل المدرسة الفنية الذي انطلق مع استقلال المغرب، وتدشين المدرسة الوطنية للفنون الجميلة من طرف المغفور له محمد الخامس سنة 1957 في مقر جديد بإدارة الفنان محمد السرغيني"، مشيرا إلى أن "الفنانين المغاربة المنتمين إلى هذا الجيل بحثوا في موضوع الهوية وأصالة التعبير التشكيلي المغربي، حيث عملوا في هذه المدرسة على تحديث التعليم الفني المغربي، مع الابتعاد عن التراث الأكاديمي لمرحلة الحماية". وأوضح بوعيبد أنه خلال هذه المرحلة "لم تعد الأعمال الفنية تحمل أجوبة، بقدر ما أضحت تطرح تساؤلات، وهي مرحلة بدأت تجتاحها الأعمال التجريدية، وعرفت ظهور ما يسمى بالفن المثقف، الذي يستدعي الوقوف أمام اللوحة، وتوظيف الخيال لخلق الحوار مع العالم الفني وتحليله"، مشيرا إلى أنها أبرزت عددا من الرواد أمثال سعد بن سفاج، محمد المليحي، عبد الله الفخار وأسماء أخرى كثيرة. وانتقل الفنان التشكيلي للحديث عن القاعة الثالثة "التي تحمل اسم التنوع والحداثة، وتضم أعمالا فنية للجيل الثالث، الذي قدم مفاهيم تجديدية معاصرة، سواء على المستوى الفني أو التعليمي"، يقول بوعبيد، الذي استرجع بحنين الإبداعات الفنية لهذا الجيل الذي ينتمي إليه، قائلا: "كنا مجموعة شباب قررنا إخراج الفن من القاعات إلى الشارع، فنظمنا معرضا للفن التشكيلي بساحة الفدان القديم، حمل اسم "معرض الربيع"، الذي كنا نريد منه خلق صدمة لدى المتلقي، الذي كان آنذاك لا يزال حائرا بين دعوات التحليل والتحريم"، مبرزا أن "التجربة استطاعت خلق تغيير في العقلية السائدة، كما كان ترمي كذلك إلى إزالة القيود التي تركتها المدرسة الإسبانية، والتحرر منها"، مؤكدا أنه رغم سعيهم إلى المحافظة على الهوية، فإن جانب الحرية كان يجذبهم عند الاشتغال. وبالنسبة إلى القاعة الرابعة، قال بوعبيد إنها تمثل جيل التعديلات الجديدة، وجيل الأنترنيت وعوالم التكنولوجيا، "وهو ما يوحي به اسمها: التوجهات الجديدة، حيث ضمت أعمالا تنتمي موضوعاتيا إلى الجيل الجديد، الذي تجاوز العمل على اللوحة إلى الاشتغال على الإطار، وأصبح الأهم بالنسبة إليه هو الوصول إلى الفكرة بغض النظر عن الأسلوب"، وفق تعبيره. وتحدث بوعبيد بإعجاب كبير عن تجارب هذا الجيل، الذي كسر الكثير من الحواجز، "ووصل إلى حرية لا متناهية في التعبير وأدوات الاشتغال، واستعمال الخامات، ومزج ما لا يمزج، فدخلوا بذلك إلى التجريب والفن المفاهيمي، وركبوا موجة المغامرة وتحطيم القيود، منتجين بذلك أعمالا متفردة". ورغم هذا التنوع والاختلاف، اعتبر بوعبيد كل التجارب السابقة متسلسلة، واستمرارا لتجارب الماضي، وتساير الفنون التشكيلية العالمية. أهداف ووظائف يقول بوعبيد إن مركز تطوان للفن الحديث "يحاول عبر الأعمال المعروضة فيه تقديم نظرة استرجاعية للذاكرة التاريخية المشتركة بين الأندلس والمغرب من جهة، حيث يقدم للزائر رحلة تمتد نحو نصف قرن من الزمن، وهو ما توفره القاعة الأولى. ومن جهة أخرى، هو تكريم رمزي لشخصيتي ماريانو برتوشي كمؤسس، ومحمد السرغيني كرائد، إلى جانب الاحتفاء بالمدرسة الإعدادية للفنون الجميلة بتطوان، ومساهمة الفنانين المغاربة والإسبان في انطلاقتها الأولى". وزاد قائلا: "من بين الأهداف كذلك تعريف الجمهور الزائر بالبدايات الأولى للهوية التشكيلية المغربية، وتثمين أبحاث ذلك الجيل، وأهميته التاريخية في التمهيد للتشكيل المعاصر بالمغرب، وهي مرام تمثلها القاعة الثانية"، مشيرا إلى أن من الأهداف كذلك "إبراز التطور التشكيلي لمدرسة تطوان، ومدى انفتاحها على محيطها". وأضاف "وهناك أهداف أخرى تتمثل في إبراز البوادر الأولى للفن المعاصر لمدرسة تطوان التشكيلية"، مشيرا إلى أنه إذا كان الفن الاستشراقي والساذج والأكاديمي نتاج مرحلة الحماية، وفن التجريد والتعبير نتاج الستينيات والسبعينيات، "التي حاولت ترسيخ ثقافة وهوية وطنية"، فإن "جيلي الثمانينيات والتسعينيات أسسا لمرحلة قوامها التنوع في التجارب والأساليب، ورغم خصوصية مشروعهما المفاهيمي، يمكن اعتبارهما استمرارا لتراكم الماضي، وانطلاقة لجيل جديد من الاكتشاف التشكيلي المنفتح على الفن العالمي المعاصر، والمطبوع بالتحرر الفكري والتقني"، يقول بوعبيد.