في ربطه لبصمات الماضي بالحاضر وتطلعاته إلى مد جسور المستقبل، يواصل مركز الفن الحديث بمدينة تطوان، بامتدادات رسالته التشكيلية الراسخة في ذاكرة الإنسان، رحلته الحضارية التي تنهض بالمعاني الثقافية بين الشعوب والمدارس والاتجاهات الفنية. ويعد المشروع أحد أهم رموز الذاكرة المشتركة والتعاون بين إسبانيا والمغرب، ويوجد ببناية محطة القطار القديمة بتطوان التي صممها المهندس المعماري خوليو رودريغيث رودا في ماي سنة 1918، والتي تجمع في أسلوبها بين المعمار المغربي الأصيل والمعمار الاسباني، وتم تأهيلها وتحويلها إلى مركز للفن الحديث في إطار التعاون الدولي بين وزارة الثقافة المغربية وحكومة الأندلس بوساطة من مؤسسة الثقافات الثلاث. وفي جولة بالمركز الذي يحتوي على أكثر من 200 لوحة تشكيلية و19 منحوتة تطفح بحرارة الحياة، وقفنا على مجموعة من الأعمال التي تمثل التجربة الفنية التي احتضنتها مدينة تطوان عبر تاريخ الفنون التشكيلية المغربية؛ حيث إن المدينة كانت ولا تزال ملتقى للعديد من الفنانين الذين توافدوا عليها منجذبين بجمالها ومركزها الإبداعي المتميز. وساهم في ترسيخ هذا المسعى إحداث المدرسة الإعدادية للفنون الجميلة بتطوان سنة 1945، من طرف مديرها الأول الفنان الغرناطي ماريانو برتوتتشي، وتأسست بصفة رسمية بظهير خليفي سنة 1946. واعتبر مدير المركز، الفنان بوزيد بوعبيد، أن مدينة تطوان كانت مركزاً متميزا للإنتاج الفني الذي راكمته عبر قرون من التطور والارتقاء، والذي يظهر بجلاء في فنونها التراثية المختلفة والمتنوعة والشاهدة على الحس الجمالي للمجتمع التطواني، ورقّة إبداع فناني تراثها في الزليج والخشب المطعّم والمصبوغ والخزف والطرز وغيره. وأضاف المتحدث نفسه أن المسار المتحفي يتمفصل في أربعة فضاءات موضوعاتية حسب التسلسل التاريخي، عبر أعمال تحاول تقديم نظرة استرجاعية للذاكرة التاريخية المشتركة بين الأندلس والمغرب، وتقدم للزائر رحلة بصرية وفنية تمتد لحوالي نصف قرن من الزمن؛ إذ تحتوي القاعة الأولى من البناية على نماذج فنية من مدرسة تطوان التشكيلية، وتضم المؤسسين الرواد من سنة 1913 إلى سنة 1956، من بينهم الفنانون مريانو بيرتوتتشي ومحمد السرغيني وكارلوس كاييكوس. وتحتوي القاعة الثانية على أعمال الفنانين المغاربة الذين أسسوا للهوية التشكيلية المغربية من سنة 1956 إلى سنة 1979، ومنهم المكي مغارة وعبد الله الفخار وسعد بن سفاج. وتحاور أعمالهم الذاكرة المشتركة ومحاولة تجاوز التقاليد التشكيلية المنتمية إلى مرحلة الحماية. كما عملوا على تحديث التعليم الفني المغربي كأساتذة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان، بجانب مدرسة الدارالبيضاء التشكيلية التي أحدثت سنة 1952. وقد عرف هذا الجيل بتنوع أبحاثه وتعدد اهتماماته الهادفة إلى إشعاع التشكيل المغربي؛ إذ توجت مجهوداتهم وطموحاتهم بتأسيس الجمعية المغربية للفنون التشكيلية سنة 1972، التي لعبت دوراً محوريا في التعريف بالفن المغربي على المستوى الدولي. وتضم القاعة الثالثة التي انفتحت أعمالها على معارض الربيع، يستطرد مدير المركز، أعمالا من سنة 1979 إلى سنة 1993. وانطلقت هذه التجربة بحدث مهم تجلى في إقامة معرض الربيع سنة 1979، الذي نظمه أربعة فنانين، ثلاثة منهم حديثو العهد بالتخرج من معاهد أوروبية مختلفة، وهم حبيبة بوهمو وبوزيد بوعبيد وعبد الكريم الوزاني وأحمد العمراني وعبد الواحد الدغالي. وكانت للمعرض أهداف عدة، في مقدمتها انفتاح الفن على الجمهور الواسع من خلال العرض في الهواء الطلق بساحة الفدان. وتحتوي القاعة الرابعة على التوجهات الجديدة للتشكيل من سنة 1993 إلى الآن، وتضم أعمال العديد من الأسماء الفنية، من بينها عادل الربيع ومونية التويس وبلال الشريف، قوامها التنوع في التجارب والأساليب. ورغم خصوصية مشروعها المفاهيمي، فيمكن اعتبارها استمراراً لتراكم الماضي وانطلاقة لجيل جديد من الاكتشاف التشكيلي المنفتح على الفن العالمي المعاصر المطبوع بالتحرر الفكري والتقني. ومن أهم الايجابيات التي أغنت جمالية مدينة تطوان، يؤكد بوزيد بوعبيد، تنوع عنصرها البشري؛ إذ استقطبت هذه الحاضرة سكان الجبل والريف والأندلس وفاس والجزائر واليهود والمسيحيين، وهو التنوع الذي أنتج مجتمعاً متحضراً ثقافياً واجتماعياً وفنياً. وأفاد بوزيد بوعبيد بأنه يجري حاليا إنشاء الشطر الثاني من المركز بتمويل من وزارة الثقافة، سيحتضن قاعة كبرى للمعارض الدورية ومكتبة متخصصة وفضاءً للتنشيط الثقافي.