كتب الصديق بلال التليدي في مقالٍ حديثٍ له تحت عنوان "كلمة بنكيران وبلاغات الأحزاب الثلاثة" ما يُستفادُ منه أن انزعاجه "السياسي"، بالخصوص، من تَضَمُّنِ أحد البلاغات الدورية لحزب التقدم الاشتراكية لعبارة "الاحتواء" التي تم إيرادها في سياق تحليل عام وشامل للأوضاع العامة المقلقة ببلادنا وما تفرزه من أشكال تعبيرية احتجاجية عفوية. ولأن بلال التليدي صوت يستحق الاحترام، ما لا يعني أنه مُنَزَّهٌ عن الخطأ، ولأنه أخطأ فعلا هنا، فهو يستحق أن تُوجه إليه الملاحظات الآتية: أولا: انتقى كاتب المقال العبارة المذكورة وانتزعها انتزاعا من منظومة تحليل عامة ومواقف مركبة ومتناسقة ما فتئ حزب التقدم والاشتراكية يكافح من أجلها، باستقلالية وجرأة ومسؤولية، منذ سنوات، وبمنهج صارم في التفكير الجماعي، ولو أن الأستاذ تمعن أكثر بقليل في القراءة التي استقر رأي التقدم والاشتراكية عليها بخصوص التعبيرات الجديدة، لكان لاحظ موضوعيا أننا لم نقف ضدها، ولا دعونا إلى الاستخفاف بها، ولا إلى مواجهتها سلبا، وفي الوقت نفسه لم نقل إنها يمكن أن تشكل بديلا عن الصيغ العادية والطبيعية للتأطير، لا شكلا ولا مضمونا، والحقيقة أن الحزب دافع عن ضرورة التعاطي الإيجابي معها على أساس كونها شكل من أشكال التعبير العفوي كرد فعل تلقائي عن انسداد الأفق السياسي والاجتماعي والاقتصادي، في ظل الفراغ المُحدث في فضائنا الوطني. الملاحظة الثانية: الربط الذي أقامه حزب التقدم والاشتراكية بين الفراغ السياسي المُحدث وقتل السياسة والأحزاب، وما يؤدي إليه من نتائج تتعلق بغياب الثقة بمخاطرها الأكيدة، ليس ربطا جديدا، كما أنه ليس مجرد انطباع عابر، بل إنه رؤية حزب مستقل في قراره، وحزب مسؤول أخذ على عاتقه طرح البديل الواضح والدقيق في "مشروع النفس الجديد"، والذي من المؤكد أن الأستاذ اطلع على تفاصيله ومحاوره الواردة في الوثائق الحديثة لحزب التقدم والاشتراكية. لا يخفى على نظر الأستاذ التليدي أن أي شكل تنظيمي مؤسساتي في الدولة المدنية الحديثة (دولة، حزب، برلمان، حكومة، جمعية....) ما هو سوى شكل من أشكال الاحتواء التأطيري بمنطق الوساطة المؤسساتية بين مطالب الناس وبين القرار العمومي، فالاحتواء الإيجابي لصوت الجماهير ضمن قنوات مؤسساتية فاعلة ومعبرة وذات مصداقية، هو من صميم وظائف الحزب السياسي على وجه الخصوص، دون أن يعني ذلك، على الأقل بالنسبة إلى حزب تقدمي أصيل، أي إرادة في مصادرة الحق في التعبير في إطار النضال الجماهيري، وليس على السيد التليدي سوى أن يطلع على وثيقة "تجذر وانصهار" التي صاغها الحزب أخيرا ليفهم أن حزبنا لا يزال، كما كان دوما، مؤمنا بثنائية وجدلية النضال المؤسساتي والجماهيري. الملاحظة الثالثة: التقط الكاتب سلبا خروج ثلاثة أحزاب بعينها هي التقدم والاشتراكية والاستقلال والعدالة والتنمية، من أجل التفاعل مع التعبيرات الغنائية ذات البعد السياسي، واستشعر من وراء ذلك انزعاج السلطة، وهي قراءة لا أريد أن أقول إنها مغرضة، ولكنها على الأقل تقفز بشكل عجيب على حقيقة ثابتة هي أن أحزابا معروفة بانخفاض منسوب الاستقلالية لديها، ولدى بعضها إلى درجة العدم، هي من كان يمكن أن يُلجأ إليها، أو إليها أيضا على الأقل، للعب هذا الدور، والواقع أن الأحزاب الثلاثة المعنية، بالتفاتها إلى الموضوع إنما تعبر عن حقيقة حفاظها على الحدود المطلوبة في امتلاك مقومات الحزب السياسي، وطبعا لا يمكن لمواقفها إلا أن تكون ملتقية موضوعيا، لأنه لا يوجد هنا كثير من هوامش التأويل والقراءة بالنسبة إلى التنظيمات السياسية المسؤولة والمقتنعة بالثوابت الوطنية وبضرورة التغيير في كنف الاستقرار. الملاحظة الرابعة: حاول كاتب المقال، الصديق بلال التليدي، أن يعقد مقارنة بين مواقف ثلاثة أحزاب وطنية، وبين رأي الأستاذ بنكيران، وهي مقارنة متعسفة وغير مستقيمة، أولا لأن فردا كيفما كان لا يمكن أن يوضع رأيه في كفة مقابل مواقف مؤسسات حزبية من العيار المُختار، وثانيا لأن بنكيران لم يذهب، لا في هذه المناسبة ولا في أي مناسبة أخرى على مدى تاريخ مسؤولياته المختلفة، إلى بلورة رأي يتجاوز سقف ما ذهبت إليه الأحزاب المُتحامل عليها، وهذا ما يحمله المقال ذاته حين يخلص إلى أن بنكيران يقترح إنتاج شكل من التعاطي يجمع بين القوة في النقد والاعتدال في الموقف، فماذا يقترح حزب التقدم والاشتراكية؟ وماذا تفعل أنت، يا صديقي؟ أليس التعبير الشجاع والمسؤول في آن واحد؟! إنه عين الصواب، ولا تناقض ولا تراجع، فقد كان في الإمكان كتابة ما هو أفضل مما كان.... والسلام. *عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية