مع بروز ثقافة سياسية جديدة ثائرة تقود مشروع تغيير العقليات وترميم الهياكل المتعفنة وتكسير النمطية المألوفة وتجاوز البروتوكولات المتوارثة،ظهرت جيوب المقاومة لهذه العملية التصحيحية التي يساندها الشعب ويتبناها .ارتفعت أصوات نشاز، و انتصبت تماثيل ورقية شوهاء لفظتها الجماهير الشعبية، وكسرت صولجانها القديم، و صنفتها في دائرة المغضوب عليهم شعبيا. لم يكن أمام هذه الفئة الممقوتة إلا أن تفصح عن نواياها الانتهازية الاستغلالية ،وتكشف عن طبيعتها الاستعلائية المرضية كرد فعل بائس لتشكيك الشعب في اختياره، وكسلوك عدواني مجاني لمعاداة كل سياسية تكتفي بالله ربا ،وترفض تأليه البشر، وتفضل مخالطة عرق الأشقياء والاستماع إلى نبضات القلوب الجريحة و الأصوات المبحوحة التي لم يلتفت إليها أحد منذ زمن بعيد. في بداية هذا الموسم الجديد تساقطت الأقنعة تباعا، وظهرت الملامح الحقيقية للانتهازيين القدامى الذين طالما استأثروا بخيرات البلاد وتقاسموها فيما بينهم.بدأت الصورة تكشف عن العيوب السياسية و التجاعيد الأخلاقية التي اختفت طويلا خلف جدار سميك من المساحيق البروتوكولية.وبدأت الصورة تتضح أكثر حينما تكاثرت الاستقالات و الانسحابات و الصراعات الانقسامات في بعض المقاولات الحزبية بعدما أصيب أصحابها بالإحباط وخيبة الانتظار وضياع الحلم وتبخر الأماني . ترفض هذه الأصنام البشرية الشوهاء تكسير تمثالها القديم المصنوع من قيم الاحتيال و الاستعلاء والاستغلال واصطياد المكاسب واقتناص الامتيازات .ترفض كل سياسية مواطنة لتجفيف منابع الفساد الإداري و المالي. ترفض كل الحفريات الجارية لضبط مواطن التسريبات الخطيرة التي تعاني منها ميزانية الدولة.وهي الآن تمارس كل الطرق الممكنة لاصطياد آخر طرا ئدها و للحفاظ على مكاسبها وغنائمها. تعبر هذه الأصنام الورقية الشاذة عن مستوى احتقارها للشعب وعن درجة تعاليها عليه حينما تصف كل سلوك أو خطاب نابع من هذا الشعب أو متوجه إليه بصفة( الشعبوية). تكشف هذه الأصنام الشاذة عن نواياها الاستغلالية وعن نظرتها الاستحمارية لهذا الشعب. فهي لا ترى فيه شيئا جميلا سوى صوته الانتخابي. تريد شعبا مطية وسلما ومعبرا إلى كراسي المجد.تريد شعبا وديعا جاهلا ساذجا يقدس البشر ويعيش عيش الحجر.تريد شعبا يكتفي بالتصفيق ويؤجل حاجياته ويعيش بأحلام الانتظار.تريد شعبا لا يفقه في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في الحريات ولا في الحقوق.هذا النوع من الشعب هو ما ساهمت في إنتاجه و إعادة إنتاجه السياسات المتعاقبة.هذا هو النوع الذي كان مهندسو السياسات القديمة يستخدمونه لتحقيق برامجهم ومخططاتهم ومشاريعهم الخاصة.كم رأيناهم يجوبون الحواضر والبوادي، ويتسولون الضعفاء والبسطاء، و يستجدون أصواتهم، ويغرقونهم بالوعود الزائفة و الآمال الكاذبة.يطرقون الأبواب ويعانقون الصغار والكبار،يتصنعون الابتسامة و يتظاهرون بالتواضع و المحبة والإنسانية.كم سمعناهم يخاطبون الناس، ويدعون بأنهم من عمق هذا الشعب ويحملون قضاياه و أحلامه و طموحاته . وهم في الحقيقة يمارسون ميكيافليتهم الحقيرة لتعبيد الطرق الموصلة إلى غاياتهم ومقاصدهم. يحتقرون أبناء وطنهم ويسخرون من كل من يحمل هموم المواطنين. يرفضون النزول من الأبراج العاجية التي تبعدهم عن الشعب. يؤلهون أنفسهم و ينتظرون أن يسجد الناس كما كانوا يسجدون لهم.نبتت في أعماقهم بذرة التعالي وتجسدت في سلوكهم وخطابهم. يريدون التميز في كل شيء؛ في لباسهم ولغتهم وسياراتهم و مكاتبهم ومأكلهم و مشربهم.إنهم باختصار نوع خاص من الناس، لا يأكلون الطعام ولا يمشون في الأسواق،لأن ذلك بالنسبة إليهم منقصة تذهب عنهم الهيبة و تحد من تميزهم، وتدفع غيرهم إلى التجرؤ عليهم. يعيش هؤلاء بمفارقات عجيبة، فهم يسافرون ويجوبون أقطار العالم لإنجاح مشاريعهم الخاصة. يخالطون الناس ويلاحظون سلوكاتهم في البلاد المتقدمة. ولعلهم اطلعوا- إن كان لديهم وقت لذلك- على بعض المسؤولين السياسيين في الدول المتقدمة رؤساء ووزراء؛منهم من يركب المواصلات العمومية وهو في مهمة رسمية، ومنهم من يوصل أبناءه إلى المدرسة، ومنهم يمتلك مكتبا متواضعا،ومنهم من تظل أبواب مكتبه مفتوحة للجميع،ومنهم من لا يمتلك سائقا ولا سيارة حكومية خاصة ،يجوب الشوارع مشيا على الأقدام حاملا محفظته بيده، ومنهم من يسكن مسكنا بسيطا في أحياء متواضعة،ومنهم من لا حراس شخصيين له،مع العلم أن هؤلاء المسؤولين ينتمون لدول غنية.هم أناس كسائر الناس ، اقتنعوا حقيقة بأن المسؤولية تكليف لا تشريف،وبأنهم خدم للشعب وليس آلهة تعبد وتشارك الله في عظمته.أناس قدموا مصلحة الوطن على مصالحهم الشخصية.أناس لا يسخرون أموال الشعب لقضاء حاجاتهم الخاصة،لا يستخدمون الهواتف الوظيفية للاطمئنان على أبنائهم أو ممازحة أقربائهم. أناس لا يوظفون نفوذهم و علاقاتهم و تجهيزات الدولة لقضاء مصالحهم ومصالح أبنائهم و زوجاتهم.أناس يلتزمون بالمواعيد وبضوابط العمل وبالقوانين في حياتهم الخاصة و العامة. أناس يحترمهم الموظفون لأنهم ضربوا المثل بأنفسهم في احترامهم للشعب وفي قيامهم بالواجب.أناس جعلوا من مكاتبهم أوراشا للعمل و التخطيط و الدراسة لا منتجعات للتسلية و الترفية و التنعم و الاستغلال.أناس إذا ما سافروا في مهمة نزلوا في فنادق متواضعة لا ترف فيها و لا تبذير، لا تغريهم المظاهر ولا تسيل لعابهم الامتيازات.أناس تحركاتهم شفافة ومصاريفهم معلومة من طرف الجميع. هم أناس لم يصفهم أدعياء الفكر و السياسة بالشعبوية،لم ير الناس في بساطتهم وتواضعهم إخلالا بطقوس المسؤولية و ببروتوكولات رجال الدولة.هم أناس منسجمون في مظهرهم ومخبرهم مع ثقافتهم وأصولهم.ولهذا أدعو الطبقة المتعفنة المتألهة بأن تطلع على بعض وزراء النرويج و السويد الذين جعلوا شعارهم الشفافية و التواضع والمراقبة خدمة لأوطانهم .أدعو رافضي الشعبوية إلى تعلم معنى الوفاء للشعب و الوطن وخدمة الصالح العام من مسؤولين متحضرين ووطنيين فهموا روح المسؤولية وثقلها. إن من يريد أن يخدم وطنه و يريد أن يضحي من أجل شعبه و يسعى إلى تحقيق التنمية و النهضة لبلده لا يحتاج إلى ربطات العنق الموقعة و لا إلى البدلات المسجلة و لا إلى السيارات الفارهة ولا إلى المكاتب الرفيعة والأرائك الوثيرة.من يريد أن يخدم بلده يتخلص من كل الشكليات المظهرية ومن كل البروتوكولات الطبقية والعقلية الصنمية،يتخلص من تلك الصورة النمطية التي يحافظ عليها المسؤولون في الدول المتخلفة.إن المسؤول نجم بمشاريعه و اجتهاده وحرصه على خيرات وطنه، لا بمظهره وخطابه المتعالي ولغته اللقيطة التي تتنكر للغات الوطن.المسؤول نجم حينما يرفعه شعبه و أبناء وطنه فوق الأكتاف، وليس حينما يطل عليهم من برجه العالي ويستعرض أمامهم أمراضه و عقده.المسؤول نجم حينما ينزل إلى الميدان في الطرقات والأسواق و المستشفيات و الإدارات، فيرسم البسمة على الوجوه و يمسح الدمعة من العيون. من هذه المواقع وحدها يستمد المسؤول نجوميته لا من الفنادق الفخمة و المركبات السياحية والنوادي الرياضية والمؤسسات القمارية و السجارات الكوبية . ولهذا فكل من يتعالى على أبناء الوطن ويؤله نفسه سيعيش غريبا فوق الأرض وتحت السماء بعد أن استفاق الشعب من غفوته، وتفتحت عيونه على واقعه، وأدرك أشكال النفاق السياسي، وخبر خبث الممارسات و السلوكات التي كانت ثقافة المسؤولين في الماضي،وعلم زيف الأقنعة وسمك المساحيق التي تخفي الصورة البشعة للانتهازيين.فقد تعلم الشعب كيف يحاسب ، وامتلك النضج الكافي لفهم الخطابات وتحليل الشعارات وتمييز الصالح من الطالح.الشعب يريد مسؤولين يتميزون بالأعمال لا بالأشكال و الأقوال.الشعب يريد سماع صوته ومشاهدة صورته في رجال الدولة حتى يقتنع بأنه ينتمي إلى هذا الوطن.وكل من عاكس إرادة الشعب واستهان باختياره لا مكان له فوق هذا التراب بعد اليوم.