الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    كيف يستغل المال الجزائري في صناعة الفشل؟    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط لأزيد من 3 مليار درهم    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشرقاوي: "احتجاجات 2019" حركة تصحيحية ل"انتفاضات 2011"‬
نشر في هسبريس يوم 27 - 11 - 2019

يَجمع الدكتور محمد الشرقاوي بين تدريس تسوية الصراعات الدولية في الجامعة الأمريكية "جورج ميسن" وتقديم الخبرة في مجال الانتقال السياسي لدى الأمم المتّحدة، فضلا عن مشاركته في ملتقيات فكرية متعدّدة بالولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا حول قضايا الساعة؛ من أبرزها فلسفة الحكم لدى دونالد ترامب، وأداء الدولة العربية في زمن الأزمات المتلاحقة، وإمكانية تحويل مشروع حوار الحضارات إلى نسق سياسي براغماتي ونظام عالمي جديد، ثم بُعد الهجرة وبُعد الشتات في دراسة مغاربة العالم؛ وينكب حاليا على مشروع تنظيري جديد: "لماذا يحتاج العالم العربي إلى صراعُلوجيا كعلم جديد؟".
ويقول الشرقاوي، في الجزء الثاني من الحوار الذي أجرته معه جريدة هسبريس الإلكترونية، إن المنطقة مع بعض الاستثناءات في الخليج موسومة ب"تراجع قدرات الدولة المركزية وتآكل رأسمالها السياسي وشرعيتها في أعين مواطنيها بفعل تخندقها ضمن مربع الحلول الأمنية، والمحاكمات والتخوين ومعاقبة النشطاء على غرار مصر"، مشيرا إلى أن "هذا التعامل السلطوي ينطوي على رجّة نفسية أصابت رجال السلطة عندما تبيّن لهم أنه صراع وجودي بعد تحدّيهم من قبل شباب المظاهرات خلال أحداث عام 2011".
ويضيف الأكاديمي أن "المظاهرات الشعبية، اليوم، عبارة عن حركات احتجاجية تطالب بالتغيير، سواء مكافحة الفساد أو تنحية الأنظمة القائمة أو معاقبة النخب الحزبية والعزوف عن المشاركة السياسية؛ إذ تظل الحصيلة النهائية أننا نقبع بين المستوى الأول والثاني، بين الانتفاضة وتغيير النظام إذا استحضرنا تجربة تونس التي تعدّ الأفضل بالمقارنة مع ليبيا أو مصر أو سوريا أو اليمن".
إليكم تفاصيل الحوار كاملا:
اتّسعت دائرة المظاهرات الشعبية، هذه الأيام، إلى إيران والعراق ولبنان بعد قرابة تسعة أشهر من اندلاعها في الجزائر والسّودان. ما هي قوّة الدّفع وراء هذه الاحتجاجات التي شهدنا أحداثا مماثلة لها عام 2011؟
أبدأ بإيران ذات الدّلالة القويّة لتقاطع العوامل الداخلية والخارجية.. عندما اتّسع نطاق الاحتجاجات إلى سبعين في المائة من المدن لجأت السلطات إلى العنف والاعتقال، وحجب خدمات الإنترنت، وتأجيج صدى نظرية المؤامرة. يبدو أن السلطات الإيرانية في حالة تشنّج وقلق متزايد، بعد أن داهمت جماعات من قوّات "الباسيج" جامعة طهران، وألقت القبض على خمسين من الطلاب.. وشجبت منظمة العفو الدولية مقتل 106 على الأقل من المتظاهرين بفعل سلوك رجال أمن الدولة. المفارقة أن وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو يطلب من المتظاهرين إرسال تسجيلات مصوّرة كدليل على حملة القمع، ويتعهد بأن الولايات المتحدة "ستفضح تلك الانتهاكات وتعاقب المسؤولين عنها".
والمثير أنّ المتحدّث باسم الحرس الثوري يقول إنّ لدى عدد من قادة المظاهرات "جنسية مزدوجة"، بل ذهبت وكالة أنباء فارس شبه الرسمية إلى التلويح بأن من يُضرم النار في بعض المحلات في ضواحي طهران يحصل على مبلغ 60 دولارا عن كل مكان يحترق. في المقابل، يحاول الرئيس روحاني إسقاط صورة استعادة الهدوء والاستقرار على وضع مضطرب، ويدّعي أن الحكومة قضت على ما وصفه بتحريض دول أجنبية. وهذا ردّ فعل يحاكي ما فعله نظام مبارك أيام احتدام الموقف في ميدان التحرير في يناير 2011، لكن هناك مؤشّرات مهمّة على صلابة المظاهرات الإيرانية، فقد أقرّ رئيس بلدية شيراز بأن الاشتباكات بين قوات الأمن والمتظاهرين محتدمة، وبأن البنية الأساسية للنقل العام تعطّلت في أربع مقاطعات.
هذه حالة غليان وسخط مجتمعي على النخبة السّياسية بمحافظيها وإصلاحييها في طهران، تفوق ما كان عليه الوضع خلال مظاهرات صيف 2009، وأيضا أحداث 2018؛ وإن ظلّت الأسباب تتراكم بين غلاء الوقود وغيره من المواد الأساسية، وتزايد نسبة البطالة، وفشل السياسات العامة، وتراجع فعالية الخطاب الديني للمرشد خامينئي، واتساع الفجوة بين الدولة والمجتمع، فضلا عن حالة اليأس من إعادة انفتاح إيران على الغرب بعد تحلّل الرئيس ترامب من الاتفاق النّووي، وفشل الوساطة الفرنسية وقبلها اليابانية.
ولا يختلف الوضع كثيرا في العراق ولبنان عن المشهد الإيراني. وقد نضيف إلى حزمة الأسباب معضلة الفساد السياسي والمالي لأغلب المسؤولين الحكوميين العراقيين، كحصول بعضهم على مرتبات شهرية من طهران، وتورّط آخرين في التخابر مع واشنطن. خلال خمسة أسابيع تظاهر أكثر من 200000 عراقي ضد الحكومة في بغداد، وانضم سكان مدينة الصدر، وهي ذات رمزية قوية، إلى الاحتجاجات والاشتباكات التي أودت بحياة أكثر من 320 شخصا، وأدت إلى جرح أكثر من 15000 آخرين وفق إحصائيات مكتب الأمم المتحدة في بغداد.
الخريف الساخن في لبنان هو الآخر حصيلة تراكمات لمتاهة أقطاب السياسة، سواء فضيحة سعد الحريري، رئيس الوزراء، الذي "أهدى" 16 مليون دولار إلى إحدى حسناوات جنوب إفريقيا، أو تدني شعبية حزب الله بسبب تأييده لنظام الأسد، أو معضلة الطائفية، أو ضجر الشارع من منطق المحاصصة بين الشيعة والسنة والأطياف الأيديولوجية الأخرى في كل من لبنان والعراق.
لقد أصبحت النكتة أن "إيران صدّرت الثورة إلى العراق خلال أربعين عاما، وأن العراق ردّها لها في مجرد أربعين يوما".. هذه قراءة تبسيطية غير دقيقة. في مثل هذه التحولات المفصلية في صيرورة الدول، تظل شعلة المظاهرات والانتفاضات تبدأ دائما من تردّي الأوضاع المعيشية في الداخل عندما يصل المواطن مرحلة اليأس والإحباط من تسويفات الدولة وتبريرات فشلها في تحقيق التنمية.
هي حالة عامّة نسميها في علم فض الصراعات "العوامل الجذرية أو الدفينة" التي تُديم أمد الصراع الذي لا يكون آنيا، بل صراعا اجتماعيا طويل الأمدProtracted social conflict يتخمّر منذ سنوات وعقود. ومن أهمّ النّظريات التي تفيد في التّحليل، وفي رسم سياسات بديلة أيضا، نظرية الاحتياجات البشرية الأساسية Basic Human Needs التي تبلورت باجتهادات عدد من المنظّرين مثل أبرهام ماسلو ونظريته حول "التحفيز البشري" في الأربعينيات، وجون بورتن في الثمانينيات، وإدوار عازر ويوهان غالتنونغ في التسعينيات.
نحن نعيش في حقبة تنامي الصراعات الداخلية Intrastate conflicts مقابل تراجع الحروب الخارجية بين الدول Interstate conflicts وهنا استحضر جملة من كتاب "الدولة والحرب ودولة الحرب" للمنظر الفلندي كاليفي هولستي Kalevi Holsti الذي لاحظ أنّ الحروب المعاصرة ليست حول "السياسة الخارجية أو الأمن أو الشرف أو المكانة..هي حروب تتعلق بوجود الدولة ودورها، والحوكمة، ودور الأمم والفئات الاجتماعية ووضعها داخل الدول".
هي باختصار صراعات مجتمعية في وجه الدولة المركزية في إيران، كما في العراق ولبنان، وقبلهما في الجزائر والسودان هذا العام. وبالمناسبة هناك دول أخرى في المنطقة تعايش تراكم سياسات غير فعالة وتزايد قنط المواطنين، وستشهد سيناريوهات مماثلة في غضون 2020. لم تعد الديناميات الداخلية في هذه الدول تسير حسب منطق "الاستثناء"، أو "خصوصية" كل دولة على حدة، أو إستراتيجية الاحتواء الأمني، أو القفز فوق إرادة الشارع السّاخط.
ما نشهده حاليا في المنطقة برمّتها، مع بعض الاسثتناءات في الخليج، تراجع قدرات الدولة المركزية وتآكل رأسمالها السياسي وشرعيتها في أعين مواطنيها بفعل تخندقها ضمن مربع "الحلول" الأمنية، والمحاكمات والتخوين ومعاقبة النشطاء على غرار مصر. وينطوي هذا التعامل السلطوي على رجّة نفسية أصابت رجال السلطة عندما تبيّن لهم أنه صراع وجودي بعد تحدّيهم من قبل شباب المظاهرات خلال أحداث عام 2011. بعبارة واحدة، هو سخط مجتمعي يصنع الفعل في الشارع على نخبة سياسية تظل تتعثر في مربع ردّة الفعل.
هل تعتبرها "الموجة الثانية" ممّا يسمى "الربيع العربي" كما يقول أغلب المراقبين؟
لا أعتبرها موجة ثانية لأسباب ثلاثة تتمحور حول ثنائية السياق والمآل لهذه الخرجات الاحتجاجية. قد تكون الأسباب المعيشية ونفسية الإحباط العام مشتركة بين 2011 و2019. بالمناسبة وصلنا حاليا إلى الرّقم السحري "5" (إيران، العراق، لبنان، الجزائر، السودان) هذا العام على غرار الخماسية الأخرى عام 2011 (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سوريا). هذا سياق بنيوي متشابه بين المرحلتين، لكنه لا يكرّر الموجة ذاتها كما كانت قبل ثماني سنوات.. حتى حركة موجات البحر تختلف في قوتها وزخمها حسب مستوى المدّ والجزر، وطبيعة الملح، وحركة الرياح، وإلى أيّ حدّ يطول اندفاع الموجة على الرّمل.
أولا، كانت احتجاجات 2011 تنادي بالإصلاح والتغيير، حيث التفّ نشطاؤها حول شعار "ارحل"، وأصبحت ظاهرة "الإرحلية" هذه شعارا تردد صداه في 982 مدينة شهدت احتجاجات مشابهة عبر العالم.. لكنها مطالب شعبية لم تحدّد مستوى هذا الرّحيل. وترنّم أغلب المتظاهرين على إيقاع الأغنية السّاذجة "الجيش والشّعب...يد واحده..!"، فقرأ المتظاهرون الكثير، بل وأسقطوا تأويلات ثورية عاطفية الرّوح والنّزق، وليس عقلانية التقييم والتخطيط، على مشهد تنحية مبارك، وحرق علي صالح، ومقتل القدافي، وقبلهم فرار بن علي من تونس. وخلف عبارة المواطن التونسي أحمد الحفناوي "هرِمْنا من أجل هذه اللحظة التاريخية" رمزية عاطفية ذات مغزى في سياقها، وليس بالضرورة في مآلها.
وهنا تبزر معضلتان أساسيتان؛ أوّلهما أنّ الشارع العربي أظهر نشطاء من عيار ثقيل وملتزم بالتغيير مائة في المائة إلى حدّ اختيارهم "شخصية العام" ونشر صورة أحدهم على غلاف مجلة "التايم" الأمريكية. ثانيا، لم يظهر من جيل هذا الشباب الحالم ب"الثورة" مثقفون ذوو قراءة متأنية وقادرون على رسم خطة المستقبل، فلم نسمع أصوات مثقفين عضويين غرامشيين وسط صخب الشارع العربي، ولم يبادر المثقفون الكهلة المستكينون إلى هدوء مكتباتهم المنزلية أو غرف تدرسيهم الجامعية بالانتماء إلى تلك "اللحظة التاريخية".
هذا من تجليات المتاهة التاريخية في نسج اللحمة المفترضة بين العلاقة العضوية بين السياسة والمجتمع وتقاطع الطريق في مسيرة المثقف بين المجتمع والسياسة. وبعد ثماني سنوات، انفرجت أسارير أغلب المثقفين "المغيّبين ذاتيا". أقولها بموضوعية، أمام مشهد فوز قيس سعيّد، وهو يحمل شموع الفكر إلى منصة الرئاسة في قرطاج. وقد تلمّس كثيرون الطريق نحو حركة تنويرٍ تونسيةٍ كنموذج قابل للمحاكاة عربيا، كما حاكت أكثر من مائتي ثورة حدثت خلال القرنين الماضيين فكر الأنوار الذي حمل مشعله إيمانويل كانط وغيره من فلاسفة الحداثة في ألمانيا، قبل أن ينتشر صداه في بقية أوروبا والعالم.
ثانيا، مظاهرات هذا العام ليست امتدادا لعالم 2011 بقدر ما هي حركة تصحيحية، وتبني على تجاوز الأخطاء والعثرات الإستراتيجية التي لم ينتبه إليها نشطاء 2011. الأكثر من هذا حرص المتظاهرون في الجزائر على عدم الانسياق في الخط الذي سارت عليه تطورات مصر، سواء من حيث النفس الطويل لأكثر من أربعين أسبوعا في سير مظاهرات أسبوعية في الجزائر العاصمة، أو تكتيكات التفاوض مع الجيش أو التمسك بتشكيل حكومة مدنية خالصة.
ثالثا، لم يعد ما يسمى في أدبيات علم السياسة منطلق التحول التدريجي أو "التدرّجية" transitology الذي تشبّع به كثير من الباحثين ويصلح إطارا نظريا لما حدث بين 2011 و2019. أذكر هنا على سبيل المثال قناعة ستيفن هايدمان بمصطلح جديد "التحول" transformation كتغيير منهجي دون أن يركز على تحديد الاتجاه أو شكل من أشكال علم الديمقراطية عن بعد. نحن أمام مشهد عربي فيه قدر كبير من السيولة السياسية وعدم القدرة على التنبؤ بمآلات هذا التحول.
لماذا تتفادى استخدام عبارة "الربيع العربي"، وتتمسّك ب"انتفاضات عربية"؟.
أنا أحترس دوما من الإسقاطات السخيّة غير الدقيقة. المفارقة أنّ الإعلام والنخبة في المنطقة العربية تبنّوا عبارة "الربيع العربي" اعتباطيا ودون رويّة أو تقييم نقدي. هذه العبارة كانت عنوان مقال لأستاذ في جامعة جورج واشنطن اسمه مارك لينتش، نشرته مجلة "فورين بوليسي" بعنوان يشمل مزدوجتين وينتهي بعلامة استفهام: هل هو "ربيع عربي" لأوباما؟ Obama's ‘Arab Spring'? في السادس من يناير2011، ضمن التلويح الضمني بنظرية مساعدة الديمقراطية Democracy assistance theory، ودور الولايات المتحدة في عولمة الديمقراطية.
كان ذلك قبل أسبوع من خروج زين العابدين بن علي من تونس وسط الانتفاضة الشعبية التي انطلقت شرارتها بإضرام محمد بوعزيزي النار في جسده في سوق الخضروات في سيدي بوسعيد، فأصبحت عبارة "الربيع العربي" كتسمية أمريكية التّركيب والمقصود، مركزية في وصف الزلزال السياسي في المنطقة، وهذا استشراق عكسي يتطوع به العرب من إعلامييهم وسياسييهم ونخبتهم المثقفة. وحتى مارك لينش نفسه لم يقصد توظيف المفهوم كناية عن "ربيع الشعوب العربية" على غرار مفهوم "ربيع الشعوب الأوروبية" الذي حلّ عام 1848 بعد قرابة ستّين عاما من تقلّبات الثّورة الفرنسية في تحقيق القطيعة مع حقبة الملكية في فرنسا، بل تساءل فقط هل سيستغلّ أوباما مظاهرات تونس في بدايتها لتعزيز منحاه الإصلاحي أو التصحيحي لتركة سلفه جورج بوش بعد خطابيه الشهيريْن في مصر وتركيا بشأن تصحيح مسار العلاقات العربية الإسلامية الأمريكية؟.
واعتقد لينش وقتها أنّه إذا استمرت هذه الاحتجاجات وانتشرت داخل وعبر الدول العربية، فإنها ستبشّر بالحديث عن "ربيع عربي" لأوباما. هكذا تتبلور نظرة في واشنطن فتلبس عباءة عربية. ولم يتساءل كثيرون عن الوجه الآخر لمفهوم ربيع الشعوب واستحضار إمكانية أن تنجرّ التطورات العربية إلى ما يحاكي أكثر "ربيع براغ" عام 1968، وما حمله من إصلاحات محدودة وظرفية عقب انتخاب ألكسندر دوبشيك أمينا عاما أولا للحزب الشيوعي في ما كان يسمى آنذاك تشيكوسلوفاكيا. ولم يدم ربيع براغ أكثر من ثمانية أشهر.
بعد عام واحد من تطوّر الأوضاع العربية في 2011، اقتنع مارك لينتش بمدى تعقيدات الانتقال العربي نحو الديمقراطية، وأقرّ بأنّ عبارته لم تنصف ذلك التغيير، وأنّ الانتفاضات تمثل انفجارا استثنائيا سريعا وشديدا لاحتجاجات شعبية عبر أرجاء العالم العربي يُوحّدها إعلامٌ عابرٌ للحدود وتجمعُها هويةٌ مشتركة. بنفس روح التقييم ذاته، دعا باحثون أمريكيون آخرون إلى وضع "الربيع العربي" ضمن المعروضات في متحف للتاريخ العربي الحديث في المستقبل. فكتب توماس فريدمان افتتاحية في نيويورك تايمز قال فيها: "الأمر رسمي الآن: مصطلح "الربيع العربي" دخل مرحلة التقاعد. لا يوجد شيء يشبه الربيع". يتحلل المحللون الغربيون من العبارة، ويتبنّاها العرب دون مراجعة.
قبل عامين، نشرت كتابا بالإنجليزية حول مآل هذه الانتفاضات العربية، وكانت الغاية منه الردّ على ثلاثة أسئلة رئيسية: أولا، ما هو مستوى التغيير العربي بنيويا وسياسيا وثقافيا؟. ثانيا، هل يمكن اعتباره خطوة نحو الحداثة مقارنة مع تجارب دول أخرى؟. ثالثا، إذا كانت حداثة عربية، فهل هي بمواصفات عضوية عربية إسلامية أم إنها جزء حداثة عالمية تأخر وصولها إلى الشواطئ الجنوبية للبحر المتوسط بعد أن نجحت حداثة أوروبا في التغيير منذ القرن الثامن عشر؟.
بدأت الكتاب بوضع الفيلسوف الألماني إيمانوييل كانط وتخيله وهو يتجوّل في ميدان التّحرير. واستحضرت أيضا فكر ابن رشد ومن قبله أرسطو، وأيضا محمد عابد الجابري الذي توفي قبل أشهر من أحداث تونس وكان يتحدى تأثير اللاّعقلانية في التراث العربي، بل ويحاجج بأن "الحداثة هي قبل كل شيء العقلانية والديمقراطية". بالمناسبة، سُئل الجابري قبل نشر الترجمة الإنجليزية لكتابه عن العقل العربي، أي مفهوم كان يعنيه لفظ "العقل" لديه؛ فقال إنّه يقصد معناه الذي جاء في أعمال كانط. كما استمدّ الجابري من فكر الفيلسوف الفرنسي أندريه لالند أدوات التمييز بين "العقل المُكَوِّن" والعقل المُكَوَّن" عند تركيبه مفهوم "العقل المستقيل".
بين 2011 و2019، يبدو أن الشباب العربي لم يعد يقبل استمرار هيمنة العقل المستقيل ومجاراة السلطوية، بل يطالب بالتغيير ومحاسبة الفساد وتأسيس كرامة المواطنة سواء على مستوى المعيشة اليومية أو الاعتبار المعنوي. هي مطالب تتماهى مع تطلعات كل الثورات الأوروبية منذ الثورة الفرنسية عام 1789 حتى اكتمال التحول المدني مع ربيع الشعوب الأوروبية عام 1848 وعلى الخط ذاته في 200 من الانتفاضات والثورات التي حدثت في القرنين الماضيين. وفي الفصل الرابع عشر من الكتاب، استحضرتُ كانط مجددا في جلسة مناقشة الدستور التونسي الجديد في مجلس النواب في يناير 2015 ليستمع إلى السجالات القوية بين النهضويين والحداثيين حول "حرية الدين" و"حرية المعتقد"، و"الحرية من"، و"الحرية إلى"، وتنظيم العلاقة بين الدين والدولة، وبقية مرتكزات الدولة الحديثة.
هذا المنحى نحو التقييم العقلاني يجعلني اليوم أضع تلك المظاهرات الشعبية والتحولات المتدرجة على كفتي الميزان: هل هي انتفاضة أم تغيير نظام أم ثورة؟ وكيف يمكن قياسها وتصنيفها وفق نظريات علم الاجتماعي السياسي. باختصار، هي حركات احتجاجية تطالب بالتغيير، سواء مكافحة الفساد أو تنحية الأنظمة القائمة أو معاقبة النخب الحزبية والعزوف عن المشاركة السياسية. وتظل الحصيلة النهائية أننا نقبع بين المستوى الأول والثاني، بين انتفاضة وتغيير نظام إذا استحضرنا تجربة تونس التي تعدّ الأفضل بالمقارنة مع ليبيا أو مصر أو سوريا أو اليمن.
نحن عالقون في المصعد بين طابقيْن في البناء السياسي العربي، وأحيانا نتخيل أننا وصلنا الطابق الثالث ونتبرّع على أنفسنا بأنّنا حقّقنا "الثورة". لم يصل الشارع العربي ولا النخبة قليلة العدد التي تساهم في التنظير لتلك المرحلة الثورية والقطيعة مع مرحلة يريدونها أن تولّي. قد لا تروق هذه العقلانية في التحليل لكثيرين ممّن يحتفون برمزية "ثورة الياسمين، أو "الثورة" المصرية، أو "الثورة" السورية.
بالمناسبة، أشعر أحيانا بالقلق حتى على تونس وعلى الرئيس الجديد قيس سعيد من مغبة التشبّع بتلك الرمزية وشِعَارِية ما حققه كنموذج تونسي للديمقراطية المباشرة التي كتبها عنها فلاسفة الإغريق القدامى. هناك دائما مؤسسة الحكم والأجهزة وبيروقرطيو الدولة المركزية، ولديهم نفس طويل حتى تمرّ المرحلة العاطفية الرمزية الاحتفالية، وهم من يمسكون مفاتيح الدولة وقد يصدّون الباب أمام قرارات التغيير التي قد تنال من مصالحهم أو مكانتهم الاعتبارية في الدولة. المعركة الخفية هي معركة وجودية كما أشرت بالنسبة لرجالات الدولة وأقطاب الأجهزة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.