تلك هي العبارة التي استعملها الرئيس السوري بشّار الأسد في خطابه الرابع منذ اندلاع الأزمة السورية، يوم الثلاثاء 10 يناير 2010، حين قال: خسئتم ليس مثلي من يتخلّى عن المسؤولية. والمسؤولية هنا كمّا وضّحها هي شيء آخر مختلف تماما عن المنصب. فالمنصب لا يهمّ بقدر ما تهمّ المسؤولية. بدا واضحا أن زهد الأسد في المنصب لا يقابله إلاّ حلم غليون وإخوانه بهذا المنصب ، ولو على دبّابة أمريكية ورميم وأطلال. بل حتّى الربيع العربي الذي انتظرنا منه زهّادا في السلطة ، جاء بحرافيش إلى الحكومات لم ينطفئ بعد بريق عينيها من شدّة الحرص على المناصب والسّلطة، وهي مستريحة ليس بقوّة الدّيمقراطية بل بقوّة إمضائها على بياض فيما يقضم سيادتها الوطنية ويشتري مواقفها السياسية. فيما بات قادة الربيع العربي الأوائل والحقيقيون غرباء في مشهد ينوء بالصّفقات. يستطيع الأسد اليوم أن يتحدّث بتحرر وطني كامل غير منقوص تجاه التهديدات الخارجية، فيما لا يملك قادة دول الربيع العربي أن يتهجّوا مثل هذا الخطاب مع ما لديهم من مظاهر وصور التحرر الاجتماعي المنقوصة. في تلك العبارة تتلخّص حكاية التّحدّي السّوري، حيث نفهم أنّ الرئيس بشّار لا يعتبر نفسه رئيسا غير شعبي، بل هو يستلهم موقفه من قوة الموقف الشعبي. وهذا أمر اتّضح بالملموس من خلال الخرجات المليونية للشعب السّوري في سائر ساحات المدن والمحافظات السّورية. وأنّه أولى أن يتحدّث بلسان الشّعب من أن يتحدّث عنه أغراب أقحموا أنفسهم في المسألة السّورية وزادوها تعقيدا. آية ذلك أنّ مسلسل القتل هو النتيجة الحتمية لستّين قناة دولية وإقليمية مجنّدة للتحريض والتّشويه وحرف الحقائق ضد سوريا. تتحمّل هذه الأطراف القسم الأكبر من هذه الدّماء السورية المراقة من الجهتين. كما أنه لا يرى أي أهمية للمنصب، إذ لو فرض عليه التّخلي عن المنصب لفعل، ليؤكّد أنّ القضية هنا في دمشق لا علاقة لها بإصرار على المنصب. وهذا يعني أنّ الرئيس يعلن أن مسار سوريا الديمقراطي قادم لا محالة وأنّ ثقافته الدّيمقراطية هي أعلى من ثقافة الدّول الإقليمية التي تطالبه بالإصلاح. اليوم درس الديمقراطية لسوريا يأتي من بلاد الشّيح والرّيح وفحيح الصلال وخشخشة الضّباء و يقع تحت إشراف نظام جمع بين قبائح المشيخة والعائلية والانقلابية والعمالة. في حين جاء بشار الأسد باقتراح ثم تنصيب من البرلمان بإجراء مقبول في منطق عصر الدّولة وليس بأنماط ما قبل الدّولة تستند إلى غريزة قتل الأب!؟ يتحدّث بشّار عن مسؤولية لا عن منصب، ليؤكّد أنّه اليوم في قلب معادلة كبرى وبأنّ دوره فيها كقائد تاريخي يفوق كل الاعتبارات. فالإيقاع بدا أكثر وضوحا، أي يستطيع أن يؤكّد في أي لحظة أنّه أكبر من أن تسقطه قيادات لا تتمتّع مجتمعاتها بالدّيمقراطية ولا هي تلعب أدوارا تاريخية. خسئتم هنا تؤكّد على أنّ المتحرّشين بسوريا باتوا في الزّاوية الحرجة، وأنهم فشلوا في تمرير مشروعهم، وأنهم لا يملكون برنامجا لمستقبل تكون فيه سوريا بخير بينما تتدفّق الأزمات إلى عقر دارهم. يوجد في هذا الخطاب الكثير من الحقائق التي باتت تؤكّد على أنّ الأمور تظهر على المكشوف. فقد اتّضح أن سوريا تشفق على العرب، وهي على لسان الرئيس تتحدّث عن جامعة عربية في وضعية انحطاط عربي تعكس حالة السياسات العربية وبأن معركة سوريا هي مع أمريكا وإسرائيل وأنّ بعض الدويلات العربية هي مجرّد خناجر للاستعمال. ذكّر الأسد بالسّيادة الوطنية واستقلال السياسات، ليسجّل نقطة في شباك العرب الممزّقة بأن لا أحد يملك أن يعارض اليوم السياسات الكبرى كما لا أحد يملك أن يزايد على سوريا بموقف شريف. وهنا لا بدّ أن نتذكّر بأنّ لا زين العابدين بنعلي ولا مبارك ولا القذّافي ولا صالح تخلّى أحدهم عن طلب الودّ من الغرب في البحث عن مخرج من محنته حتى آخر لحظة. لكن الوضع في سوريا مختلف تماما. فالسوريون يدركون اللعبة قبل سنوات من التحرّش والتهديد والإغراء. تتذكّر سوريا تدفّق قادة إقليميين إلى دمشق من أجل إقناع بشّار بالتّخلّي عن موقفه القومي من القضية الفلسطينية والمقاومة وإيران لقاء نفط قارون وفكّ الحصار، فلم تفلح كلّ هذه الرشا. كان الشعب السوري يومها آخر ما تفكّر فيه هذه الأطراف. ولكّنّه أوضح أيضا بأنّ الأمم والتّاريخ لا تشترى بالمال. يدرك بشّار أنّه يملك الكثير من الأوراق ورصيدا كبيرا من المواقف التي لم تستعمل بعد في قلب الطاولة على وضع عربي بالغ الهشاشة. لقد أكّد أيضا على أنّ التهديد بتعليق العضوية السورية في الجامعة العربية هو أشبه بمفارقة، فسوريا كما سمّاها عبد النّاصر هي قلب العروبة النّابض. ولا يستطيع هؤلاء أن يحوّلوا الجامعة إلى جسد بلا قلب. بل لن يفعلوا أكثر من تعليق العروبة نفسها، لأنّ لا أحد قدّم خدمة للعروبة والعرب أكثر مما فعلت سوريا. فهؤلاء الذين سمّاهم المستعربة لم يبنوا بيتا هدّمته إسرائيل فوق عائلة فلسطينية ولا أطعموا جائعا في الصّومال ولا وقفوا مواقف حقيقية لنصرة القضايا العربية. بل تراهم بقدر ما يتلكئون في اتخاذ مواقف ضدّ الاحتلال الإسرائيلي يعملون فورا على مقاطعة سوريا. إذن، لقد استبدلوا سوريا بإسرائيل في المواجهة. استعرض بشّار حزمة الإصلاحات المطروحة اليوم وفي ظروف صعبة بكثير من الواقعية، لكنّه وعد بالكثير مما من شأنه أن يحرج الدّول التي تسعى اليوم لإعطاء سوريا دروسا في الإصلاح والدّيمقراطية. جاء خطاب بشّار ليطوي مرحلة بكاملها من العبثية العربية. لقد وضع المسألة في سياقها الطبيعي. هناك فشل ذريع في مجلس الأمن لإقناع العالم بأكاذيب سرعان ما بحثوا لها عن غطاء عربي. فالكذب هنا لا حدود له حتى أنّ الرئيس نفسه اشتكى منه في لقاء مع ال(بي بي سي) تعرّض للتحريف. كان وجود مراقبين عرب في سوريا اقتراحا قديما من القيادة السورية للجامعة العربية، لكن تمّ يومها رفض ذلك إلى حين فشلت الأطراف الدّولية داخل مجلس الأمن. اليوم وبعد إمضاء سوريا على البروتوكول ودخول البعثة العربية إلى سوريا وظهور أول تقرير للبعثة استشاطت قطر غضبا لأنّ التقرير لم يأت بما كانت تريد ، أي لم يأت على مقاس الحرب الإعلامية التي تبثّها الجزيرة، لذا لوّحت بأهمية التّدويل. فالرئاسة القطرية للجامعة العربية تتحدّث على أنّ الشعب السّوري قال كلمته. وبتسخيف هجين للعقل العربي باتت قطر مقتنعة أنّها تملك شعبية في سوريا أكثر من بشّار. لم يبالغ أولئك الذين اعتبروا أن قطر تتصرّف كدولة إمبريالية. الممثل السوري في الجامعة العربية ساءل المسئول القطري عن أي شريحة من الشّعب خوّلته الحديث باسمها. تهديد سوريا بالتّدويل بات مهزلة لا يصدّقها إلاّ من لا يحسن قراءة التّطور المنطقي للموقف في المنطقة. هذا يعني أن التّدخل إذا ما تحقّق فهو بداية انهيار للمنطقة. حينئذ لن تقف آثار هذا التّدخّل في تركيا ولبنان وفلسطين والخليج الفارسي وسائر البلاد العربية. لن تكون سوريا ضحيّة سهلة للتّدخّل الأجنبي بل ستكون هي بداية المحرقة. وفي مثل هذه الحالة لا يضير السوريين شيئا، ما دام سقوط دولتهم سيعني بمنطق لعبة الدومينو سقوط من عملوا على التّدويل، وبالتّأكيد لا يعني ذلك أنّ المعارضة المفلسة في الخارج سوف تتولّى إدارة الأمور في سوريا بعد أن تصبح هذه الأخيرة قطعا وإمارات وثكنات وجغرافيا ممزّقة. التّدويل لا يخيف دولة تنسّق مع روسيا التي حطّت بحاملة طائرات هذه الأيام بميناء طرطوس بكلّ المعدّات التقنية والإلكترونية أو إيران التي تخوض معركة التّحدّي النووي والإلكتروني ضدّ واشنطن وتلوّح بغلق مضيق هرمز في مناورات تتضمّن رسالة لدول المنطقة بأنّ حربا قادمة مع إيران هي مستحيلة فارجعوا إلى صوابكم، كما تتضمنّ رسالة أخرى للأطراف الإقليمية بأنّ المعركة هي أكبر وهي تنتمي إلى العصر الإلكتروني ولا ينفع معها تراكم الخردة العسكرية غير الذّكية في خزائن دول إقليمية تستعدّ لحرب لا تقدر عليها ولا تفكّر فيها إيران ولكنها باتت أشبه بهذيان حربي يغذّيه التّعصّب والكبرياء والتّبعية السياسية. أمّا تركيا فهي اليوم تتأرجح بين ميولها لجهة النّاتو وبين الحفاظ على مكتسباتها من العمق الاستراتيجي الإقليمي. فالنّاتو لم يقدّم لها حتّى الآن غير التمجيد الأجوف بنموذجها الأوردوغاني التّدويخي الشّبيه بحدّوثة سياسية والذّي خطّط لتسويقه في البيداء العربية القاحلة سياسيا والمتخلّفة في تجربتها وخطابها الدّيني الشوفيني والإرهابي، كي تتمثّله القردة المتأسلمة كذريعة سهلة للالتفاف على مسؤولياتها التّاريخية ، وهو شكل من الهروب الإسلاموي العربي الكبير من فشلهم في التّقدّم والابتكار والتّحرر ومظاهر لرقّة في الدّين وضعف في المروءة. فحزب العدالة والتنمية التركي الذي غدا مثل ليلى المعشوقة لدى شرذمة من المتأسلمة العرب ، يواجه اليوم إعصارا سياسيا داخليا يعده بسقطة سياسية لن يقوم بعدها أبدا. وقد حصد الكثير من الإهانات بسبب هذه السياسة المزدوجة. كانت آخر صفعة تلقّاها من فرنسا التي أعادت فتح الجرح الأرميني على طاولة أوردوغان الدّيمقراطي. وانفتح مع ذلك الجرح الكردي مرّة أخرى لا سيما بعد قصف مدنيين أكراد بالطّائرات على سبيل الخطأ. هدّأت تركيا مواقفها تجاه سوريا لكنها لا زالت تمسك بقشّة التّحريض والتعبئة بصمت ضدّ سوريا من خلال استقطاب المعارضة والمسلّحين السوريين في بلادها. لكنها تتخوّف أيضا من ذهاب سوريا نحو حرب أهلية. يزور أوغلو طهران ليعرض بعض المغريات التركية برفع عدد براميل الغاز الإيراني لفائدة تركيا إلى حدود 300000 برميل يوميا. ملتمسا السّماح للبضائع التركية بالعبور من داخل إيران. تتصرّف تركيا هنا كأنّها استثناء. مع أنه لا يمكن أن تستثني تركيا نفسها من تنفيذ العقوبات ضدّ إيران إلاّ إذا كان ذلك باتفاق مع الغرب. وهو ما يؤكّد على أن الجميع يدرك حدوده. وبأنّ الكثير من الضّوضاء الذي يجري فوق السطح لا ينفي وجود مفاوضات ومساعي تحت السطح. فالمراهنون على أنّ لا إصلاح إلاّ بالتّدخل وإسقاط النّظام في سوريا هم من يطيل أمد تنفيذ الإصلاحات. إنّ حديثنا عن سوريا اليوم هو حديث عن لعبة دولية وإقليمية لا شأن لها بجوهر المطلب الإصلاحي الدّاخلي. ولمواجهة هذا التّحدّي يصبح من الطبيعي أن يخفت صوت الإصلاح لصالح حرب إعلامية قذرة تشكّك في كل محاولات النّظام التي تتطلّب استقرارا. فالإصلاح لا يتمّ في مجتمع لا يتمتّع بالاستقرار. تتذرّع المعارضة بخرافة أن النّظام غير قابل للإصلاح. الدليل الذي تزفّه هنا بغباء ليس برهانيا ، إذ لا يوجد في كل منطق المعارضة بالخارج سوى برهان واحد هو برهان غليون وأحلام مجلسه بعد أنّ أعيد تنصيبه رئيسا بأسلوب غير ديمقراطي. لكن يبدو أنّ الإصلاحات الكبرى التي سجّلها التّاريخ المعاصر وإن حام حولها الالتباس هي تجربة الكلاسنوست والبيرسترويكا التي قادها شاهد على تجربة الاتحاد السوفياتي وقيادي عتيد في الحزب الشيوعي؟! فالذي لا يمكن أن تتوقّعه هو أن تتمثّل المعارضة موقفا سياديا تحرّريا بعد أن غرقت في تجربة التآمر. يستطيع بشّار أن يحدث التغيير الأكبر في بلده ويكون ذلك إضافة في رصيده الوطني ، لكن يا ترى هل يستطيع المتحرّشون بسوريا من جوارها أن يتهجّوا أحرفا فقط من خطاب الأسد في وضوحه وصموده؟! يمكن للتّاريخ أن يحتفظ بموقف كهذا لكن التّاريخ نفسه يحار في أي مزبلة يمكن أن يرمي بنفايات السياسة العربية، لا سيما تلك التي تبادر إلى زرع الفتنة في المنطقة العربية. إنّ حسابات وضعف بعض الدّول ورهاناتها تظلّ قابلة للفهم، ولذا فهي تلزم الصّمت ما استطاعت، بينما أخرى لا تقف عند حدّ التحريض بل تبادر وتورّط آخرين في سياساتها وتخوض معارك الفتنة العربية العربية عيانا. نكرّر للمستعربة أنّ الدّيمقراطية في سوريا حتمية لكنها تأبى أن تكشف عن كامل مفاتنها تحت إشراف ووصاية من لا عهد لهم بالانتخاب. هي مسار سوري خاص غير قابل لدروس من أطراف لا تملك رصيدا لا في الدّيمقراطية ولا في السيادة الوطنية، أي أطراف تعيش على سبيل الديكتاتورية والتّحكم في القرار الوطني ومستخدم دولي مهزوم. نريد لسوريا تقدّما سياسيا لكن بعيدا عن الوصاية والتخريب والحرب الإعلامية. سوف تدرك سوريا قبل أن تقدّم لها دروس ديمقراطية من البادية العربية بأن ربيع دمشق الحقيقي سيصنع بإرادة شعب وقيادة ذكّرت الجميع بمسؤوليتها التّاريخية، أي القيام ببرسترويكا عربية سورية، تعيد إنتاج العلاقة الطبيعية بين ما كنّا سمّيناه بجدل التّحرر الاجتماعي والتّحرر الوطني. ففي الحروب الكبرى التي يفضّل أن يتواجه فيها العمالقة تحت الأرض، لا نفاجأ إن خرج الأقزام يمتطون أحصنة من قصب ويمتشقون سيوفا من خشب ويتحدّثون لغة الفرسان. فالعبرة هنا بخواتيم الأمور. فحينما تشتعل الحرب أو تبرد تحت السطح ، سيسدل السّتار عن الهمروجة العربية ، ويبدأ قزم الأقزام العرب يتهيّأ لوجبة الفلقة؛ ألا ترى معي أنّ الوضع أصبح في أمسّ الحاجة إلى مقاربة تربوية!