بوريطة: المغرب ينتظر من الاتحاد الأوروبي إثبات التزامه بالشراكة عن طريق الأفعال وليس الأقوال    بعد رفض المحامين الدفاع عنه.. تأجيل محاكمة "ولد الشينوية"    انتخاب عمدة طنجة، منير ليموري، رئيسا لمجلس مجموعة الجماعات الترابية "طنجة تطوان الحسيمة للتوزيع"    استئنافية فاس تؤجل محاكمة حامي الدين إلى يناير المقبل    نظام الجزائر يرفع منسوب العداء ضد المغرب بعد الفشل في ملف الصحراء    "الكونفدرالية" تقرر تسطير برنامج احتجاجي تصعيدي ضد التراجعات التشريعية للحكومة وإخلافها لالتزاماتها    البنك الدولي: المغرب يتصدر مغاربيا في مؤشرات الحكامة مع استمرار تحديات الاستقرار السياسي    الاتحاد الإفريقي يعتمد الوساطة المغربية مرجعًا لحل الأزمة الليبية    وسط صمت رسمي.. أحزاب مغربية تواصل الترحيب بقرار المحكمة الجنائية وتجدد المطالبة بإسقاط التطبيع    برنامج الجولة الخامسة من دوري أبطال أوروبا    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    الشرطة توقف مسؤولة مزورة بوزارة العدل نصبت على ضحايا بالناظور        الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز 'بوينغ 787-9 دريملاينر'        توصيات لتعزيز التمكين النقابي للمرأة    بورصة البيضاء تفتتح تداولات بالأخضر    العالم يخلد اليوم الأممي لمناهضة العنف ضد النساء 25 نونبر    جماعة أكادير تكرم موظفيها المحالين على التقاعد    صنصال يمثل أمام النيابة العامة بالجزائر    أرملة محمد رحيم: وفاة زوجي طبيعية والبعض استغل الخبر من أجل "التريند"    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء        تقرير: جرائم العنف الأسري تحصد امرأة كل عشر دقائق في العالم    تيزنيت: شبان يتحدون قساوة الطبيعة وسط جبال « تالوست» و الطريق غير المعبدة تخلق المعاناة للمشروع ( فيديو )    لماذا تحرموننا من متعة الديربي؟!    النفط يستقر عند أعلى مستوى في أسبوعين بدعم من توترات جيوسياسية    إيرادات فيلمي "ويكد" و"غلادييتور 2″ تفوق 270 مليون دولار في دور العرض العالمية    أسعار الذهب تقترب من أعلى مستوى في ثلاثة أسابيع    "الكاف" يقرر معاقبة مولودية الجزائر باللعب بدون جمهور لأربع مباريات على خلفية أحداث مباراتها ضد الاتحاد المنستيري التونسي    مدرب مانشيستر يونايتد يشيد بأداء نصير مزراوي بعد التعادل أمام إيبسويتش تاون    أونسا يوضح إجراءات استيراد الأبقار والأغنام        استيراد الأبقار والأغنام في المغرب يتجاوز 1.5 مليون رأس خلال عامين    مهرجان الزربية الواوزكيتية يختتم دورته السابعة بتوافد قياسي بلغ 60 ألف زائر    تقرير : على دول إفريقيا أن تعزز أمنها السيبراني لصد التحكم الخارجي    6 قتلى في هجوم مسلح على حانة في المكسيك    رياض مزور يترأس المجلس الإقليمي لحزب الاستقلال بالعرائش    تحالف دول الساحل يقرر توحيد جواز السفر والهوية..    تصريحات حول حكيم زياش تضع محللة هولندية في مرمى الانتقادات والتهديدات    الإمارات تلقي القبض على 3 مشتبه بهم في مقتل "حاخام" إسرائيلي        انطلاق حظر في المالديف يمنع دخول السجائر الإلكترونية مع السياح    بسبب ضوضاء الأطفال .. مسنة بيضاء تقتل جارتها السوداء في فلوريدا    جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فلافل وقنابل
نشر في هسبريس يوم 08 - 01 - 2012

على هامش تفجير منطقة الميدان بدمشق
حكيت قصّة قبل شهور عن الشخص الدمشقي الذي صادفته يقدّم فلافل على هامش معرض صغير في إحدى المدن المغربية. كان الشخص المذكور صاحب محلّ لبيع فلافل في الميدان. وقتها أثار استغرابي أنه يقدّمها بثمن الهامبرغر. حتى أن أحد الزبائن تراجع إلى الخلف فور أن علم بثمن الساندويتش الواحد بينما هي أكلة الفقراء في سوريا. حينئذ أدركت إلى أي حدّ يبلغ الطموح السوري الحقيقي؛ إذ بوسائل متواضعة يستطيع ابن الميدان أن يقطع المسافات ويشارك في معارض دولية بمنتوجه من الفلافل ، ولا شيء يضعف همّته. فأمثال بائع الفلافل هذا هم الذين يشكّلون أغلبية الشعب السوري في طموحهم وحرصهم على النجاح. وهؤلاء هم آخر من يفكّر في زعزعة استقرار النّظام. في الميدان يوجد نشاط كثيف يجعل حاراتها أشبه بخلية نحل، الكلّ يسعى إلى ورشه ولا صوت يعلو فوق صوت طلب الرّزق. بين فلافل الميدان اللّذيذة الأصيلة وقنبلتها الغادرة الدّخيلة هذه الأيام، حافة سحيقة تؤكّد على أنّ شيئا ما أخطأ الزّمان والمكان. فلا النّظام يرضيه أن يقتل أمنه ولا الساكنة يهمّها أن تقتل أهلها. فالمنطقة التي تنام بسلام تحت الجسر لم تكن يوما مظنّة للأعمال القذرة. ففوق الجسر كما تحته توجد حركة كبيرة لا تسمح بالعبث. لقد مضت شهور بكاملها عملت وسائل الإعلام بأسلوب تنسيقي ممنهج في سبيل حجب حقيقة وجود تنظيمات مسلّحة فرضت نزول الجيش إلى مناطق التّوتر في درعا وجسر الشغور وحمص وحماة وعديد من المدن والمحافظات السورية .
ومقابل الحقيقة تم تلفيق صورة كاريكاتورية عن الجيش السوري بكونه يواجه المظاهرات السلمية بالسلاح الحيّ والثّقيل. لكن ما أن استنفذ التضليل أغراضه حتى تمّ الاعتراف بوجود مسلّحين، لكن بعد أن فبركوا لهم قصة الجيش الحرّ المنشق والمدافع عن المدنيين. اعترفت واشنطن على لسان خارجيتها بوجود مسلّحين في حالة دفاع عن المدنيين ثم سرعان ما اعترفت على لسان هيلاري كلينتون بأنهم جيدي التدريب والتسليح، وحينها لم يبق أمام الجزيرة وأخواتها سوى أن تعترف بوجود مسلّحين ، لكن هذه المرّة برسم الجيش الحرّ بعد أن فصّلوا لباسا عسكريا للقاعدة والإخوان والهاربين من الخدمة العسكرية والبلطجية والذّبيحة وذوي السوابق والهاربين من العدالة وآخرين ينتظرون على الحدود التركية واللبنانية من سائر الجنسيات، في محاولة لعرقنة سوريا. ففي المطبخ الخلفي يتمّ التحضير هذه الأيّام لآلاف من المسلّحين من بقايا القاعدة فيما عملية الاستقطاب ماضية على قدم وساق، يتمّ إعدادهم على الحدود التركية واللبنانية لخوض حرب استنزاف ضد سوريا. هناك إرادة لتجميع كل بقايا القاعدة في هذه البؤرة. ففي لبنان تمّ الكشف عن مخطّط قواعد تدريب للقاعدة، بينما بدت تركيا محجّا للتنسيق والاستقطاب من مختلف المناطق، وهناك إرادة قطرية وغربية للزّج ببعض الثوار الليبيين في الشّأن السّوري لتحقيق هدفين: أولا نقل تجربة الثورة المسلحة إلى سوريا ، ومن جهة ثانية للتّخلّص من عبئ الثوار لا سيما المقاتلة وإشغالهم بمعارك استنزافية وإبعادهم عن الدّولة. وهو شكل من الاحتواء المزدوج تقوم به أطراف اللعبة اليوم في ليبيا في محاولة تآمرية ناعمة ضدّ ثوار المقاتلة.
فبعد التفجيرات الأخيرة التي استهدفت مركز الأمن في كلّ من كفرسوسة وما قامت به ضد الشرطة وقوات حفظ النظام في الميدان، بتنا أمام مرحلة جديدة من الحرب على سوريا، من خلال خوض حرب إرهابية استنزافية تنال من عمق دمشق. وبعد أن تبرّأ ما يدعى الجيش الحرّ المنشق من هذه العملية، وبعد أن أصبح من الصعوبة نسبة مثل هذه الأعمال إلى النظام نفسه كما هي أحجية الإخوان والمجلس الوطني، فإنه لا محالة كلّما طال زمن اللعبة الدولية والإقليمية حول المسألة السورية كلما انفضحت فصولها.
وفي هذه المرّة لا بدّ من الاعتراف بوجود جماعات إرهابية مسلّحة تشكّل تهديدا أمنيا لسوريا فيما تفسد على الشعب مساره في الانتقال الديمقراطي والإصلاحات. ففي يوم الجمعة 6 يناير 2012م، قام انتحاريّ باستهداف سيارتين للشرطة وقوات حفظ النظام بسيارة مفخخة في منطقة الميدان بدمشق، قضى على إثرها 26 شهيد من قوات الأمن والمدنيين العزّل فيما تجاوز عدد الجرحى السّتين جريحا. من يا ترى المستفيد من هذه العملية؟
بالتّأكيد تعرف منطقة الميدان خرجات في أوقات متفرّقة لمتظاهرين منذ اندلاع الأحداث السورية. زرت الميدان مرّات عديدة لأقف على حقيقة ما يجري هناك واكتشفت أنّ الأمر لا يعدو في بداية الأمر أن يكون خرجات ذات طبيعة احتقانية توجد في سائر البلاد العربية؛ خرجات محدودة وفي أوقات معيّنة وعادة تستغلّ المساجد ويوم الجمعة حيث يتكاثر عدد النّاس. وهي خرجات لا تدوم سوى فترة وجيزة ثم تختفي كالسّراب. الملفت للنّظر أنّ الأمن لا يصل في العادة إلى المنطقة في الوقت المناسب. وعادة ما يتركون لحالهم في غياب تامّ للأمن. وقد تعرّفت على مواطنين يواجهون تحرّشا من قبل بعض الزعران كما تدلّ العبارات التي يستعملونها وطريقة التهديد الذي ينفّذونها. وأمام اعتداءاتهم المتكرّرة لم يكن الأمن يحضر على الرّغم من شكوى بعد المعتدى عليهم من سكّان الحيّ واستنجادهم بالأمن. أحد الفاعلين في أولى المظاهرات التي عرفتها منطقة الميدان شرح لي الكثير من مظاهر الاستياء من النّظام . وحينما تحدّثت عن ضرورة الحوار، كان موقفه مبني على الخوف من أن ينقلب الموقف ضدّه مما يعني أنّ قسم منهم مضى في المظاهرات بسبب انعدام الثّقة. لكن الملفت أيضا هنا أنّه أخبرني وهو من أعرق ساكنة الميدان وشاهد على الأحداث ومنسّق فيها بأنهم لاحظوا أن أغلب من كان يحضر فيها وجوه غريبة من خارج الميدان.
فثمّة مجموعات تتحرّك في مناطق مختلفة وتريد أن تظهر أنّ الأمور في تقدّم وليس في تراجع. حتى هذا المواطن الذي بدا عليه الكثير من الجدّية كان يرفض التّدخّل ويرفض المغامرة بالاستقرار السّوري. هناك تراجع في معدّل الخرجات البريئة التي تريد الإصلاح، وبدا أنّ الأمر بات يتعلّقا بخرجات احتقانية وكيدية وانتقامية وأخرى لأناس محكومين بسيكولوجيا الحشد والتحريض ولا يعطون أهمية لخطورة الحدث وهناك أخطاء يتم استغلالها إلى أقصى حدود من الدّعاية. لقد استهدفت التفجيرات الأخيرة منطقة الميدان. وكعادتها ومن دون تحقيق هرعت المعارضة غير الآبهة بحرمة دماء المواطنين إلى اتهام النظام بافتعال هذه الحادثة، على أساس أنها رسالة استعطافية للجامعة العربية قبيل صدور التقرير الأولي بعد أيام لبعثة المراقبة التّابعة للجامعة العربية. والغريب أن هذا التفسير الذي لا يستند إلاّ على النوايا هو الرّاجح لدى الكثير من الجهات بما في ذلك واشنطن التي استنكرت العملية دون أن تشير إلى غريمتها التّاريخية: القاعدة. ويبدو أن أصحاب هذا التفسير باتوا مولعين بهواية استغباء العالم. ذلك لأنّ النظام السّوري كأيّ نظام مهما حاول أن يفتعل أعمال تخريبية من هذا القبيل فهو لا يملك انتحاريين على طريقة القاعدة. وأيّا كان الأمر، فالنّظام لا يمكن أن ينفّذ عمليات من هذا القبيل ضدّ قوّاته الأمنية، لأنّ من شأن هذا أن يضعف معنوياتها ويجعل الشّك يدبّ في صفوفها. والغبي وحده من يقدم على هذه المسرحية. وحينما نقارن بين معدّل ذكاء النظام بذكاء المعارضة هذه الأيّام ندرك أنّ النّظام الذي دوّخ العالم وخرّب مخطط التّدخل مدّة تفوق العشرة أشهر، هو بلا شكّ نظام غاية في الذّكاء. بينما لا زالت المعارضة تراكم من غبائها قبل أن يتوزّع قادتها على رصيف العواصم ويعودوا إلى عهد المجاهيل. ثم من قال أن سوريا تستعطف الجامعة العربية، ومن قال أن سوريا تثق أصلا في الجامعة العربية لا سيما وقد نشطت المجموعة النّافذة في الجامعة منذ الإمضاء على البروتوكول في أن تشكّك في أداء مراقبيها وتستهين بكفاءاتهم.
لقد دعا رئيس برلمان الجامعة إلى سحب المراقبين من سوريا فيما لم تكتف الجزيرة بنقل وقائع الأحداث الجارية بعد دخول المراقبين لأنها مرفوضة من الدّخول إلى سورية، فالتحريض زاد حتى بعد دخول المراقبين والتشكيك استمر ليس هذه المرة في التزام النظام بتمكين المراقبين من الحركة بين المدن والمحافظات، بل باتت تشكّك حتى في كفاءة المراقبين حسب ما ذهبت إليه الرئاسة القطرية للجامعة العربية. وحتى قبل أن تنقل الصّورة كما هي بات ثمة إحساس لدى أطراف معروفة داخل الجامعة العربية أن الوفود لن تخرج هذه المرة من سوريا دون أن تتعرّف على ما كانت تخفيه وسائل الإعلام الإقليمية والدّولية. على الأقل هناك قسم من هذه الوفود سيكون له رأي مختلف تماما. وهذا القدر من المعلومات هو بالنتيجة لن يكون أكبر تهويلا مما شاهدوه من مزاعم وسائل الإعلام وفي مقدّمتها الجزيرة ومزاعم المعارضة في الخارج. تعتبر الهجمة على الوفود والضّغط المستمر على أدائهم رسالة تحريضية ، لأنهّ لا يوجد بعد ذلك من سيناريو غير الانقلاب على الحقيقة والذّهاب بالملف السوري إلى مجلس الأمن. وفي مثل هذه الحالة نتساءل ما الذي سيحدث بالفعل؟ إن التهديد بمجلس الأمن يعني أن الأطراف الإقليمية التي حاولت أن تقدّم نفسها حلاّل مشاكل وصانع أحداث في المنطقة لن تستمر في إقناع الطرف الأمريكي بمدى نجاعتها بعد أن فشلت في العراق ولبنان وغيرها من البلدان العربية. سيكون ذلك إعلان فشل هذه الأطراف التي لا تتعاطى مع المشكلات العربية من منطلق الحرص على المصلحة العربية بقدر ما تؤدّي وظيفة إقناع واشنطن بقدرتها على اللعب والتأثير في المنطقة رغم صغر حجمها الجغرافي وقصر عمرها التّاريخي وخفّة وزنها في معيار الأمم. فمن مجلس الأمن بدأت حكاية الملف السوري.
ولا ندري كيف سيعود الملف مرة أخرى إلى المجلس بعد أن عجز هذا الأخير عن أن يمرّر قرارا بإدانة سوريا ، بل والذي أظهر قوّة سوريا الدّولية بعد قيام روسيا والصين معا بالاعتراض. واليوم تقول روسيا: إن عادوا عدنا. وأنها مصمّمة على أن تقدّم عشرين فيتو عند الاقتضاء ضدّ أي إدانة أممية لسوريا. التّدخّل في سوريا بات قضية في غاية التعقيد. إنها قضية تبدأ من مضيق هرمز إلى قزوين والبلقان إلى جبال الأناضول إلى فلسطين ولبنان إلى الخليج.. هذه هي المنطقة التي ستعرف ارتدادات مباشرة لأي مغامرة للتّدخّل، لشدّة ترابط عناصر هذه المعادلة. فالنّظم التي تمت الإطاحة بها لم تكن مرتبطة هذا الارتباط العضوي، ولا كان لها دور في مركزة هذه القوى والأوراق. هذا شأن العراق الذي كان معزولا حتى من قبل حلفائه الذين رفضوا انضمامه إلى مجلس التعاون الخليجي حتى في الوقت الذي كرّموه بوسام حارس البوابة الشرقية. والأمر نفسه بالنسبة إلى ليبيا، فلقد كان هذا النظام التهريجي معزولا من الشعب ولا تربطه بالقضايا الإستراتيجية العربية أي رابطة عضوية . إن التدخل لا يتم إلا بالنسبة لدول معزولة، بينما سوريا هي اليوم أكثر من ذي قبل في قلب المعادلة الصعبة في المنطقة فضلا عن أن ملايين من الشعب السوري تؤيّد النظام ولا أحد يجبرها على النزول اليوم إلى سبع بحرات وساحة الأمويين وساحة بغداد وغيرها من سوح المدن السورية ومحافظاتها. ولا يمكن تصور استقرار للمنطقة من دون استقرار الوضع في سوريا. هناك اليوم عشرات من وسائل الإعلام التي سمح لها بدخول الأراضي السورية منها العربية ومنها الدّولية.
هناك ضغط شديد تمارسه بعض الأطراف في الجامعة العربية على البعثة. وهناك تحريض وتوجيه تمارسه تلك الأطراف بل بعض الموفدين الإعلاميين أنفسهم. قبل شهور لاحظنا أن بعض وسائل الإعلام الغربية التي شاركت في وفد للاطلاع على الأوضاع في سوريا ، كانت تتجاهل بعض المشاهد المؤثّرة لا سيما في حماة. وسبق وتحدّثنا عن تجاهلها لنقل صور الأطفال شهود العيان الذين أخبرونا حينها بتفاصيل ما كان يفعله بعض المخرّبين الذين أحرقوا مقرّا للأمن وراح ضحيته 18 شخص كانوا يقضون واجبهم الوطني داخل المؤسّسة. ولا كانوا حتّى ينقلوا كم كذبت الجزيرة علينا ونحن في عين المكان. أحد شغّيلة الإعلام في الجزيرة يتحدث عن أن الأمور باتت واضحة في سوريا، لكنه يقصد الصور المشوّهة التي تنقلها هذه القناة لتضليل الرّأي العام وهي جزء من معركة كبيرة تخوضها قطر من موقع الجزيرة ومن موقع رئاسة الجامعة العربية ومن موقع احتضانها للمعارضة السورية، لكن ما لا يدخل في هذا الوضوح هو عدم اعتراف هذه الأخيرة بوجود مسلّحين وأعمال إرهابية تستهدف استقرار سوريا. لقد واجهت عديد من البلدان العربية ظاهرت الإرهاب والتخريب وطالبت بشجبها كما رفضت كل أشكال نسبتها إلى تدبير النظام نفسه. لكنّ الجميع لا يريد أن يقرّ بأن ما يقع في سوريا هو من مسؤولية جماعات مسلّحة. فكل شيء في سوريا بات مشيطنا بصورة تتجاوز الخيّال.
مؤيدو سوريا هم شياطين حتى لو كانوا أغلبية الشعب، وأعداؤها ملائكة حتّى لو كانوا من القاعدة.. فالجيش السوري لم يعد وطنيا لأن الجزيرة وأخواتها قدّمته في صورة كاريكاتورية لوحش يشرب دم المدنيين، بينما هناك جيش ملائكي منشق من الهاربين من الخدمة العسكرية و مسلّحي القاعدة هم الوطنيون.. والسياسيون الرافضون للتدخل هم أذناب النظام بينما الشرفاء هم الذين يتقاضون أجورهم بالدولار واليورو والعملات الخليجية.. عشرات من المتظاهرين هم الشعب السوري بينما ملايين السوريين الرافضين للتدخل والمدافعين عن وحدة واستقرار واستقلال بلدهم هم أبواق النّظام..القاعدة في سوريا باتت داعية الديمقراطية والإصلاح ووراءها حلفاء من دول لم تحلم مجتمعاتها حتى اليوم بالديمقراطية.. هناك إذن نوع من الملهاة السوداء تدور فصولها على ركح عربي مهتزّ. الحملة الممنهجة التي خاضوها ضدّ الجيش السوري ليس مبالغة فحسب بل مبيّتة وكيدية تستهدف ضرب معنوياته وتجريده من أي تعاطف عربي عند خوض أي معركة في المستقبل سواء ضدّ إسرائيل أو في مواجهة أي تدخّل افتراضي من قبل الغرب. ويحسب لهذا الجيش أنّه لم يعرف انشقاقا حقيقيا حتى وإن انفتحت أمامه جيوب لاستقطابه وأنجز له وعاء تحت عنوان الجيش السوري الحرّ ليملؤه، فلقد ظلّ مستميتا في قطع دابر الإرهاب المتسلّل من الحدود التركية واللبنانية والأردنية والعراقية. فالقاعدة التي تسلك عليها القاعدة هي أنه كلّما رحل الاهتمام الأمريكي إلى منطقة ما إلاّ وقالت له القاعدة خذني معك. قبل ما يقرب من 17 سنة لاحظت عسكريا في دمشق برتبة عالية يحمل كيسا به قطعتين من فلافل من الحجم الصغير. قلت لصديقي: إنّني لا أكاد أفهم، عسكري برتبة عالية ويكتفي في غدائه بفلافل ومن الحجم الصّغير في حين نظرائه في دول أخرى يتحرّكون فاره السيارات ويسكنون أفخم البيوت ويتناولون فاخر الطعام، مع أنّ الإنسان السوري شغّيل ويحب المال والكسب والحياة؟!؟ هل يمكن أن يصمد مثل هذا الشخص حينما تعرض عليها آلاف الدولارات من قبل إسرائيل؟! كان ذلك مجرّد تساءل حول ظواهر لها نظائر. لكن هناك ما لا يمكن شراؤه بالمال والمغريات، هناك جيش سوري مفعم بالاعتقاد بقضيته الوطنية، وهناك رقابة وجدانية وثقافية وروحية يمارسها الشّعب تجاه قوات يسمّيها حماة الدّيار. الجيش في سوريا لا يشترى ولا ينشقّ، وهو وطني يتّسع لكافّة الطوائف والأجناس السورية. وهو يدرك سلفا أنّ مهمّته هي ملاحقة المسلّحين لا المتظاهرين. وهذا ما حدّثنا عنه كلّ جرحى الجيش السوري الذين التقينا بهم، وهم من كل الطوائف والمحافظات. فمعنوياتهم مرتفعة وهم جرحى. وحسّهم السّيّاسي عالي. وحبّهم لبشّار مشحون بعواطف تعكس شعورا بأنّه منهم وبأنّ المصير واحد وبأنّ استهداف الرّئيس هو استهداف لحرمة الوطن. فهو ليس ديكتاتورا ولا إلها كما تقدّمه الصور الكاريكاتورية لخصوم سوريا، ففي سوريا تستطيع أن تتحدّث عن معالي الوزير الفلاني وسعادة المسئول الفلاني، بينما أدناهم يمكن أن ينادي على بشّار بالأخ الرئيس. ولا يمكن أن ينادى ديكتاتور بالأخ. وهي الصّفة التي بات يرفضها حتى إخوان مسلمي سوريا الذين ذاقوا عبارات معالي وسيادة وسعادة فلان. فهي حرب لم تضع أوزارها تخوضها سوريا ضدّ الإرهاب بنفسها ومن دون تنسيق. بل هناك أطراف دولية تدعم هؤلاء المسلحين وتدين سوريا عن حضور الجيش. واليوم بعد نزول البعثة العربية إلى سوريا ازداد منسوب التفجير لأنّ الجيش لا يمكن أن يبرّر للمراقبين في الشوارع أنّ حضوره أساسي أدى إلى إفشال الكثير من محاولات التفجير حتى في ساحات كبرى مثل السبع بحرات. ولا شيء يمكن إقناع خصم مصمّم على تدمير سوريا؛ فإذا عزّز الأمن حضوره ضدّ المتوقع قالوا لا شيء هناك غير المظاهرات السلمية، وإذا أخلى الميدان ووقع ما وقع من أعمال تخريبية نسبوها إليه.
اليوم يتأكّد بالملموس أنّ لا مخرج لسوريا سوى بالحوار الوطني. وبأنّ الفرصة الذّهبية للعرب كانت هي القيام بدور الوساطة بين النظام والمعارضة لتهدئة الوضع. مع أنني أعتقد أن دور المعارضة في الخارج باهت وضعيف لولا أن عملت أطراف إقليمية ودولية على إعادة إنتاجها. في موضوع سوريا لا يمكن الحديث عن موقف شخصي لدولة عربية ما مهما بلغ احتقانها. ذلك لأنّ الأمر يتعلّق بتوازنات. وأمام قوّة الموقف والأوراق التي تملكها سوريا ستضطر هذه الأطراف إلى ابتلاع ريقها أمام الوضع الجديد الذي يتم تدارسه في الدّوائر الكبرى للقرار الدّولي. هنا لا بدّ من توقّع تغييرا في اللّهجة ، كما أنّ ابتسامات وانحناءات كثيرة ستظهرها أطراف عديدة أمام بشّار الأسد. كان أحرى أن نتساءل كم عدد ضحايا أولئك الذين أقحموا أنفسهم في مسار التحوّل المطلبي والإصلاحي السّوري بلغة القتل والدّم، وكم تآمروا على بلدهم وكم حلموا بأنّ يقيموا إمارات تكفيرية أو يحملوا على دبابة الناتو إلى الحكم كما يحلم غليون وأضرابه؟! ومع ذلك يبدو أحيانا أن القضية هي أبسط مما نتوقّعه، فثمة أطراف إقليمية تجاوزت مرحلة خيبة الأمل وهي تسعى للابتزاز من أجل الضّغط على سوريا بأنّ تقبلها طرفا في ترتيب أوضاع ما بعد الأزمة، لأنّ السوريين سيحتفظون بذكريات الزمان المرّ، وبأنّ ذات يوم مرّ قزم من هنا وملأ الدّنيا ضجيجا كما قاد حربا قذرة مع العمالقة قبل أن يصاب بالشيخوخة السياسية المبكّرة ويتحوّل إلى مومياء صغيرة في متحف عربي!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.