تقول المسكوكة المغربية "اسمعْ حسّو طيّحْ نصّو"، وهي العبارة التي تلخص حال مجموعة من الزجّالين الذين صدّقوا بأن شِعرية الزجل تكمن في تركيم عدد هائل من مفردات لغة "المرڭد" في تصور خاطئ لمفهوم التوظيف اللهجي داخل نسق فني اسمه الزجل، الذي بحكم التصاقه بالعاميّة ظنّه البعض حائطا قصيرا يسهل النطّ عليه والقفز. لا يتعلق الأمر في شِعرية الزجل بهذا التفكير البسيط في توظيف اللهجة المحلية اقتصارا واحتكارا وحصرا، مما يدفع المبدع إلى نوع من الشوفينية اللغوية القاضية بالقضاء على شعرية المقول. وهي أيضا القاضية على القارئ البسيط بالسقوط في الإعجاب المجاني بهذه اللهجة أو تلك من زاوية الاندهاش بالمختلف، أي باندهاش القارئ الحسّاني بلهجة المبدع الدكّالي والقارئ الأمازيغي بلهجة المبدع الشاوي... وغير ذلك من أمثلة غنية تفيد تنوعا وتعددا ولا تفيد خلافا. وسيتحول هذا القارئ البسيط بحكم تركيم مفهوم القراءة عنده إلى قارئ انتقائي يصبح مالكا لعين ذوّاقة تدفعه دفعا إلى المساءلة. وأول المساءلة عنده، هل الزجل هو حشد مفردات "المرڭد" في القصيدة أو في الديوان بشكل كمّي عددي يتحول فيه الإبداع إلى دوائر مغلقة لا نخرج من ضيقها إلا بوضع حاشية شارحة للديوان، وحتى إن أمكن ذلك فالأمر في غاية الإرهاق لعملية القراءة المنسابة والمتدفقة؟ وللتصحيح والأمانة، نقول: إن المسألة لا ينبغي أن تؤخذ على عواهنها من حيث تعميم الإسقاط والإلقاء بالأحكام في جزافية غير مسؤولة. المسألة نسبية جدّا ولكنها منتشرة وفي تزايد وتكاد تحول بعض الإبداع إلى آلية جافة ناشفة من طلاوة الخلق. من هنا ضرورة التوضيح حتى لا نُقَوَّلَ ما لم نُرِد قوله. إن توظيف اللهجة الغابرة والغائرة في تربة "المرڭد" تتوزع إلى صنفين: صنف يستعملها تلقائيا استجابة من المبدع لطبيعة النشأة والتكوين، وهنا تشرئب هذه المفردات المحلية عائمةً عوما جميلا في مجال الإبداع، وتتحول إلى علامات سيميائية قادرة على الإضاءة بشكل فني لمجاهيل المتن الزجلي وقادرة على احتضان كل أشكال الانزياح والتصوير والخلق الفني، انطلاقا من إحساسنا – نحن القراء – بدخول هذه المفردات في نسغ الإبداع، وعدم إقحامها قسرا في جسد القصيدة أو الديوان. والصنف الثاني، يقهر اللغة ويلوي لها عنقها باحثا عن كل شاردة في اللهجة المحلية بحيث يصبح همّ المبدع في هذا السياق هو التعجيز المزدوج. فهو من جهة يظن أنه أتي بالمعجز من المعاني عبر توظيف حشد كبير من لغة "المرڭد" كما يظن أنه بهذا التوجه يقدم متونا في غاية الجمالية لأنها أخلصت للهجة المحلية وأعجزت المتلقي المسكين الذي لا نتصوّر سفره في ربوع الديوان باحثا عن إمكانيات فكّ هذه المغاليق وتلكم التهويمات التي يقترفها المبدع لحاجات في نفس "يعقوب"، إذ سرعان ما يلقي القارئ بالديوان في سلة المهملات مادام هذا الديوان قد استعصى على الأفهام وقاوم رغبة القارئ في التلقي المتفاعل. لنتصور مثلا أنّ زجّالا حسّانيا يستعمل هذه العبارة في زجله: "الڭْزَانَة مَا تنْفَعْ إيلَا الحَق ازْوَا" أو مبدعا عبْديا ينْظِمُ قائلا: "الْكُرتْ مَا يْعَمّرْ خَرُّوبَة والمْشَارطْ مَا يَكْرَهْ نُوبَة" أو زجّالا من منطقة جبالة يقول مثلا: " ڭلْبِي طَنّة وكفّكْ برْجاغْ" أو مبدعا من الشمال الشرقي يوظّف ما يلي: "مَا انْبَلّعْ طاقَة اعْلَى حُبّكْ النُّو" أو غير ذلك من الأمثلة الذاهبة هذا المذهب... فماذا عسى قارئا من مناطق مختلفة عن هذه الأحزمة اللغوية اللهجية الغارقة في المحليّة أن يفعل إزاء هذا الذي يبدو له استغلاقا فيما هو وضوح وبداهة عند المتكلمين به المحليّين؟ ينبغي أن يُقرأ الإشكالُ في إطار جماليات التلقي حيث لا مندوحة من استحضار الآخر في عمليات الصوغ والبناء، وهي مسألة ذات حدّين؛ يتعلق الأول باستحالة تصور مبدع يبدع في شرطٍ قاهر هو استحضار جميع أشكال المتلقين كي يستجيب لرغباتهم، انطلاقا من مراعاة تكويناتهم اللهجية، فهذا أمر لا يستسيغه عقل ولا يقبله منطق. والثاني يتعلق بتصور المبدع وهو يمارس نوعا من الاستعلاء على الذائقة العامة التي تفرض عليه تلقائيا الاستجابة للأقل الضروري من إمكان تحقق التفاعل الإيجابي معها، في إطار الوعي بالتعدد اللغوي داخل منطق التواصل لا القطيعة، وداخل منطق الاختلاف لا الإقصاء. هكذا، فالأمثلة أعلاه تتحول في غياب شرطية التلقي إلى نوع من الشوفينية اللغوية، فلن يستوعب المثال الأول إلا حساني غابر في عمق اللهجة الحسانية، ولن يفهم خطاب المثال العبدي إلا من يدور في حزام اللهجة داخل منطقة عبدة ودكالة، ولن يدرك كُنه المثال الجبلي إلا جبلي قح، ولن يتفاعل مع المثال الوجدي إلا متلق من منطقة الشمال الشرقي. إن المستساغ في هذه الإشكالية لا يمكن أن يكون حلّاً سحريا نستحضر فيه عصا سحرية نضرب بها على بحر الزجل كي ينفلق نصفين، كي نعبر في سلام إلى وحدة زجلية وطنية لهجية؛ فهذا غير معقول البتّة، الأمر موكول إلى استعداد المبدعين في مجال الزجل للتحلي بالأقل الضروري من التواصل والتفاعل والمرونة في توظيف المحليّ توظيفا لا يقهر خصوصية القصيدة المحلية ولا يؤثر على خصوبتها، وفي الآن نفسه لا يعزل المتلقي المتعدد في ربوع هذا الوطن عزلا مجانيا. فالنتيجة الحتمية لهذا التغول في الاستعمال واحدة، هي العزلة الإبداعية والغناء خارج السرب والتطبيل في عرس لا فرح فيه. نون حاء