المجال السياسي هو مجال الممكن، لأن السياسة في أصلها –أو كما يحلو للبعض تسميتها- هي: "فن الممكن" فكثير من الأشياء يظنها عموم الشعب مستحيلة. لكن بفضل حنكة بعض السياسيين يصير المستحيل ممكنا، بل أحيانا بفضل المكر السياسي وبعض الأفكار الخبيثة تقع المعجزات. إن انسداد الأفق السياسي داخل البلاد يخلق أزمة قد تأتي على الأخضر واليابس، لكن مع بعض الدهاء يستطيع مسؤولي البلاد تدبير الأزمة داخليا، فإن تعذر ذلك، يتم اللجوء إلى تصريفها خارجيا، لكي تعود بالنفع الداخلي في آخر المطاف تماما مثل التجارة، ومن التجارة الاستيراد والتصدير. والمثال على ما قلنا هو ما يقع في هذه الأثناء، حيث لا يخفى على متتبعي الشأن العام في الشرق الأوسط أن نتنياهو يعيش أزمة سياسية لم يسبق لها نظير. حتى أصبحت شعبيته تحت رحمة منافسه "بيني غانتس" الذي يكاد يسحب البساط من تحت أرجل نتنياهو، الذي فشل بداية في التفوق عليه انتخابيا، ثم فشل في تشكيل الحكومة، ليقوم الرئيس "ريئوفين ريفلين" بتكليف "غانتس" بتشكيل الحكومة المقبلة بعد شهر من تاريخ 23 أكتوبر2019. وإن كان هذا يعني شيئا فإنه يعني باختصار فشل نتنياهو وموته السياسي إسرائيليا، وكانت أمامه أيام معدودات ليتحول إلى "رئيس سابق" ومن يدري لربما يجد في انتظاره عدة قضايا فساد في رفوف المحاكم الإسرائيلية. لكن الذكاء السياسي لنتنياهو حدا به إلى افتعال أزمة خارجية، تذر عليه تعاطفا وتكتلا داخليا وخارجيا، تتجلى هذه الأزمة في اغتيال "بهاء أبو العطا" قائد سرايا القدس (الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي) داخل منزله مع زوجته في غزة بقصف جوي مخابراتي، إضافة إلى استهداف "أكرم العجوري" عضو المكتب السياسي للحركة نفسها، لكن هذه المرة القصف فشل في اغتياله بمنزل في دمشق. طلعتان جويتان للسلاح الحربي الإسرائيلي كانتا كفيلتين بصرف الأنظار عن الاحتقان السياسي الذي تعيشه إسرائيل داخليا وشعبية نتنياهو السائرة نحو الحضيض، وأفوله الحتمي. فبعد الهدنة والهدوء الذي كان يسود المنطقة إقليميا، سيشتعل الوضع من جديد، فبديهي أن فصائل المقاومة الفلسطينية ستعمد إلى الرد على استهداف قادتها وتبعا لقاعدة مثير الاستجابة (Cause; effet) فإن ضربة إسرائيل ستستفز المقاومة.. مما يعطي تهديدا وتوعدا يهز أمن الإسرائيليين ليوحد الصف الإسرائيلي بكل أطيافه السياسية خلف نتنياهو من جديد وهكذا يجدد هيبته منتهية الصلاحية، وهذه هي الغاية الأولى. أما الغاية الثانية فتتجلى في جلب التعاطف والدعم الأمريكي تجاه إسرائيل كواجهة لكن تجاه نتنياهو تحديدا . وهكذا ضرب عصفورين بحجرة واحدة اغتيال قيادي في وقت ميت من صراع انتخابي يستجلب: تعاطفا وطنيا وآخر دوليا إضافة إلى إلهاء عموم المواطنين داخل إسرائيل والشرق الأوسط بشكل عام بقضية اغتيال جاءت في سياق وزمان ليس لها من نفع إلا على نتانياهو وشعبيته وكاريزمته السائرة نحو الأفول. والضحية في آخر المطاف هو الشعب الفلسطيني الذي تم جره جرا، لحل أزمة سياسية إسرائيلية (داخلية) أليست هذه متاجرة بهموم الشعب الفلسطيني واستغلال لأزمات من أجل صعود أسهم الأصوات في سوق الانتخابات الإسرائيلية.