لوّحت لسائق التاكسي بالتوقّف. عندما فتحت الباب فوجئت به يرشّ عطرا رديئا يكاد يدمّر خياشيم الأنف. قبل أن أسأله عن سبب ما يفعله، طلبت منه أن يفتح النوافذ قليلا، لأن العطر دمّر كل الهواء المتاح. تخيّلت أن مخمورا تقيأ بشكل لا إرادي في التاكسي، وهو أمر اعتاد عليه سوّاق سيارات الأجرة، لذلك يضطرّون للتوقف وتنظيف السيارة، حتى لا ينزعج الزبائن الجدد. المفاجأة أن سائق التاكسي، انفجر ضاحكا عندما سألته وحتى قبل أن يجيبني على سؤالي الفضولي، وأضاف إلى ضحكته ما هو أغرب، أخبرني أنه أنزل للتّو ثلاثة "عْزَاوة" أي أفارقة سود، وأن روائح صنانهم لا تحتمل. الصادم في هذه الحكاية ليس التقزّز من ذفر آباط الأفارقة والاحتفاظ بقارورة عطر في التاكسي، للحالات الإفريقية المستعجلة، لكن كلمة "عْزاوة" العنصرية تصمّ الأذنين أكثر من الصنان الذي يكتسح الأنف. لم يتوقّف سائق التاكسي عن سرد سلسلة من الكليشيهات العنصرية حول السود الأفارقة "الخَنِزين"، حسب تعبيره الغوغائي، وهم يكتسحون بلدنا السعيد. لم أحتمل كلامه، طبعا، واعتقدت لحظة أنه هولندي وليس إفريقيا مثلهم. حاولت أن أحكي له حكاية بسيطة وقعت لي في كندا، عندما استقبلت إفريقيا للعمل في القسم الذي كنت أرأسه، كان هذا الرجل الطيب قادما للتوّ من إفريقيا، وحاملا لعربة من الشهادات العلمية العليا ويتحدّث بفرنسية أنيقة أفضل من الكيبيكيين، لكن كل ذلك لم يشفع له، عندما انتبه المدير الكندي إلى رائحته المسيئة لصورة الشركة أمام الزبائن، اضطررت للمغامرة والتدخل، واستدعيت الإفريقي إلى مكتبي، وقلت له بشكل حميمي حتى لا أجرح كبرياءه، أنني إفريقي مثله، وأننا نحن الأفارقة لا ننتبه إلى روائح جسدنا القوية بحكم مطبخنا المتبَّل بشكل قوي، وأنه مجبر لشراء- فور خروجه من العمل- عطر أو مطهّر لروائح الإبط، لأنه معرّض للطرد، وأنه إن فعل ذلك، سأغامر للدفاع عنه حتى لو اقتضى الأمر أن أفقد عملي. ما أجبرني اليوم، على إثارة هذا الموضوع، الريبورتاج العنصري الذي نشرته الزميلة "المساء" يوم الخميس الماضي، بعنوان مغرض: "كتائب من المهاجرات السريات ينشرن السيدا في المغرب". لم أكن أتصوّر أن يمرّ هذا الخطأ المهني والأخلاقي دون أن ينتبه إليه الزميل عبد الله الدّامون الذي أعرفه وأحترم تاريخه المهني المشرّف. وصف الأفريقيات بكلمة "كتائب" كأنهن في غزوة حربية ضدنا لنشر السيدا، تثير الكثير من التساؤلات، خصوصا لتوازي ذلك مع حملة مداهمات الشرطة، هذه الأيام، لبيوت الأفارقة. لم ينتبه كاتب الريبورتاج، إلى أن بدايات التعامل الأولى مع وباء السيدا وانتشاره في العالم، تمّ إلصاقه بالأفارقة والعالم الثالث، الأخطر من ذلك، أن مختبرات الغرب الأبيض العلمية، دبّجت تقارير عنصرية للبحث عن جذور المرض، وروّجت لفرضية وقحة، تقول بأن المرض انتشر عند القردة وانتقل بعد ذلك إلى الأفارقة، وهذا يذكّر بفيلم "تارزان" والكليشيهات الغربية التي صنعت صورة عنصرية عن السود الذين ينطّون بغباء فوق الأشجار كالقردة، مقابل الأبيض الذي يقتحم الأدغال بذكاء. هنا يمكن الرجوع إلى كتاب مهم صدر عن دار "لارماتان" سنة 1989 بعنوان: "السيدا الوباء العنصري" لكاتبه روني ساباتييه، ويقول في افتتاحيته: "عبر مرّ التاريخ، أثارت أخطر الأوبئة المعدية مثل الطاعون والجدري والسيفيليس وحتى الأنفلوانزا، نفس أوبئة الاتهام ضدّ أولئك الذين كان سلوكهم "مختلفا"". ويضيف الكاتب :" عندما تتهم جماعة، جماعةً أخرى بأنها مسؤولة عن مشكلة، تكون النتائج جدّ وخيمة." ويشرح كيف أن اليهود والساحرات تعرّضا لمجازر في أوروبا القرن الرابع عشر لاتهامهم بأنهم سبب "الموت الأسود" أي الطاعون. أخطر الاتهامات العنصرية، سيروّجها هتلر في العشرينيات من القرن الماضي، حول اليهود والشيوعيين ومثليّي الجنس، وجميع "غير المرغوب فيهم" اجتماعيا، بأنهم سبب الركود والكساد الاقتصادي في ألمانيا، مما أدى إلى مجازر للإبادة والدخول في حرب عالمية. عندما نقرأ ريبورتاج "المساء" الإنشائي والعنصري، ننبّه كاتبه، أن المعلومات والإحصائيات حول السيدا بالمغرب يلفّها الكثير من الغموض والسرّية، لنبني عليها خلاصات بهذه الخطورة، ونفتقر إلى تحقيقات ميدانية سوسيولوجية حول ظاهرة هجرة الأفارقة السود، فعدد 160 مريضا أفريقيا بالسيدا ضمن آلاف المهاجرين المقيمين بشكل سري أو قانوني، من العيب استعارة لغة الحرب ووصفهم "بالكتائب" والوباء المكتسح. وننبّه الصحفي، أن شبكات دعارة بناتنا المغربيات، المنتشرة في الغرب والخليج، يتمّ التعامل معها بنفس المنطق الاحتقاري والعنصري، وإغفال بعدها الاجتماعي. فالأفارقة في المغرب، تحوّلوا إلى غيتوهات فقر خطيرة، وهذا البعد الإنساني لم يلتفت إليه الصحفي، أيضا لم ينتبه أن بداية تدفّقهم في المغرب، وراءه ملف سياسي معقّد أجّج صراعنا مع اسبانيا والاتحاد الأوربي. وفي النهاية، هؤلاء يعيشون اليوم، نفس وضعية المهاجرين السريين المغاربة في الغرب، والأخطر من ذلك، أن أبناء هؤلاء المولودون هناك، من حقهم المطالبة بمواطنتهم المستحقة، كما أن أبناء الأفارقة المولودون في أحيائنا الشعبية، هم أبناؤنا ومغاربة مثلنا، أم أن هذا "تابو" لا يستحقّ المتابعة الصحفية الجريئة. ملاحظة: يمكن قراءة الريبوتاج وتصفحه على موقع "المساء": http://issuu.com/almassae/docs/almassae1643