ما بين متشائم وغير مهتم وفاقد للأمل، يترقب المغاربة الإعلان عن اللجنة الاستشارية التي ستشتغل على مشروع النموذج التنموي الجديد، والذي ينتظر منه معالجة مأزق التنمية البشرية والاستجابة لحاجيات الكثير من المغاربة الذين عانوا ومازالوا يعانون من الفقر ومن التوزيع غير العادل للثروة، الشيء الذي لم يعد يخفى على أي أحد، إذ أصبح موضوع العديد من التقارير الوطنية والدولية التي أبانت عن أن البرامج والسياسات العمومية التي اتبعها المغرب منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، لم تمكنه من الولوج إلى مصاف الدول المتقدمة والخروج من براثين التخلف والفقر والحاجة. إن الإقرار الرسمي بفشل النموذج التنموي يستدعي لزاما الوقوف عند الأسباب الحقيقية لهذا الفشل وما يجب أن يتبعه من محاسبة، وبالتالي تحديد المسؤولية وإنزال الجزاءات، وحتما مراجعة الخيارات السياسية والاقتصادية التي تم نهجها. ودون التفصيل في أسباب بقاء بلدنا متقهقرا في ذيل الترتيب الدولي لمؤشرات التنمية، فسنحاول في هذه الورقة التركيز على تعريف التنمية البشرية وأسس نجاحها، وكذا التركيز على الأولويات الضرورية التي تحكم مصير أي نموذج تنموي، وغيابها مرادف لفشل سبق لنا أن عشناه في النماذج السابقة، مع الإشارة إلى بعض التجارب والنماذج الرائدة والتي أثبتت أن الفقر والتخلف والفساد ليسوا قدرا محتوماً ويمكن الاقتداء بها أو استخلاص أهم نتائجها في أفق بلورة نموذج مغربي خالص. هناك تعريفات كثيرة ومختلفة لمصطلح التنمية البشرية، ولكننا اخترنا مفهوما أكتر شمولاً واتساعاً، يجعل من الإنسان / المواطن مركز اهتمامه، التنمية البشرية هي تطوير مهارات الإنسان، وقدراته حتى يتمكن من الوصول بمجهودهِ إلى الارتقاء بمستوى مرتفع من الإنتاج والدخل. إن التنمية البشرية المبتغاة لبلادنا هي التي تمكن المغاربة من توسيع أفق خياراتهم من خلال تحقيق المستوى المعيشي اللائق، تحقيق الوصول إلى المعرفة، وتمكين المواطنين من الحياة المديدة والصحية، وهذا كله لن يتحقق دون تهيئة الظروف والشروط الأساسية والتي تشمل تعميم المساواة والعدالة الاجتماعية والمشاركة في الحياة السياسية والحياة المدنية، توفير الأمن وحقوق الإنسان، والعمل على الاستدامة البيئية. إن الركائز الأساسية لأي نموذج تنموي والتي دونها لن نصل ببلادنا إلى مصاف الدول المتقدمة هي التي تقر وتحترم حرية الإنسان، هي تلك التي توسع خياراته وترفع من إمكانياته ومستواه المعيشي وتجعله في صلب أي سياسة تنموية. وحتى يستوعب القاري الكريم لماذا ارتأينا تبني هذا المفهوم للتنمية، فذلك راجع بالأساس إلى اعتبار جل التقارير الوطنية والدولية أن المواطن المغربي الحلقة الأضعف في كل البرامج التنموية، فرغم اعتماد العديد من البرامج التنموية ورصد الميزانيات الضخمة، فمازال المغرب يقبع في ذيل الترتيب العالمي. ففي تقرير التنمية البشرية لعام 2016 الذي يصدره برنامج الأممالمتحدة الإنمائي، احتل المغرب الرتبة 123 عالميا من أصل 188 دولة، وقد جاء المغرب في صنف الدول التي تشهد تنمية بشرية متوسطة. وقد تفوقت علينا بلدان تشهد نزاعات داخلية كالعراق وليبيا، وأخرى في عمق إفريقيا منها رواندا وبوتسوانا. و هذا ما تم رصده كذلك من خلال مؤشر الفقر متعدد الأبعاد، الصادر عن برنامج الأممالمتحدة الإنمائي لنسب الفقر بالمملكة في مجالات متعددة، سواء تعلق الأمر بالصحة أو التعليم أو مستوى المعيشة، مقدرا نسبة المغاربة التي تعاني من الحرمان الشديد ب45.7 في المائة فحسب هذا التقرير، 13.2 في المائة من المغاربة معرضون للفقر متعدد الأبعاد، فيما 25.6 في المائة منهم يعانون من الفقر المرتبط بالصحة، و42.1 في المائة يعانون من فقر التعليم، فيما 32.3 في المائة يعانون من الفقر المرتبط بمستوى المعيشة. كما جاء في تقرير المندوبية السامية للتخطيط أن ما يقارب مليون و685 ألف شاب مغربي تتراوح أعمارهم ما بين 15 و24 سنة، لا يعملون ولا يدرسون ولا يتابعون أي تكوين أي حوالي شاب من كل أربعة، وأشارت الدراسة إلى أن الشابات هن الأكثر تضررا. إن الإشكالية الحقيقية والتي يجب أن نبحث لها عن إجابات عميقة وبراغماتية، هي لماذا فشل النموذج التنموي الحالي في التوزيع العادل للثروة والدخل وهل يكمن المشكل في النموذج التنموي أم في النموذج السياسي؟ أم هما معا؟ نعتقد أنه من أسباب الفشل، أن النموذج التنموي المغربي الحالي لا يستهدف المواطن المغربي ولا يجعله في صلب وكنه اهتمامه. إن مشكلة النمو في المغرب هي أنه نمو غير عادل يحتكر نتائجه الربحية فقط رأس المال، هو كذلك نمو عقيم، لا يخلق الكثير من فرص الشغل. فمتى لم تشمل التنمية الطبقات المعوزة والمهملة والتي تعيش في وضع هشاشة فإن مصيرها هو الفشل. إن الخروج من أزمة النموذج التنموي الحالي يتطلب حتما التقدم نحو تعميم التنمية البشرية والأخذ بعين الاعتبار عوامل ومظاهر التهميش التي عانت منها مجموعات وفئات عديدة من المغاربة، حيث تجمع جل الأبحاث والتقارير التي تصدرها المنظمات الدولية والهيئات الحكومية وغير الحكومية المهتمة بالتنمية البشرية، أن التعميم هو جوهر أية استراتيجية تنموية، فلابد من أن تكون شروط التنمية متاحة للجميع كالشباب غير المتعلم وغير المتكون، والنساء، والأشخاص في وضعية إعاقة، لكن الملاحظ حالياً أن ثمار النمو ليست لجميع المغاربة، كما ليس لكل المناطق والجهات الحظوظ نفسها للخروج من الحاجة والتهميش والإقصاء في تجسيد صارخ للفوارق الاجتماعية والمجالية. ولعل تجاوز الوضع الحالي أمر ممكن في الحالة المغربية إذا ما تم تغليب ثقافة الالتزام الأخلاقي بالعدالة الاجتماعية والمجالية حيث ينبغي أن يرى المغاربة أنفسهم جزءا من وحدة وطنية متماسكة، وليس أجزاء في خريطة تتصارع عليها الجماعات والمصالح. نعتقد أنه دون الحرص على مجموعة من الشروط واستحضارها أتناء إعداد النموذج التنموي الجديد فلن يكتب له النجاح ولعل أبرزها الفكرة الأساسية التالية: "العمل على إيصال ثمار النمو إلى الجميع وفي كل المناطق ومن أجل ذلك فإن الاستراتيجية المنتظرة يجب أن تبنى على ركائز أساسية، متكاملة ومتآزرة بحيث تؤدي إلى تحريك التشغيل، والشمول المالي، والاستثمار في أولويات التنمية البشرية، والتدخلات المتعددة الأبعاد والعالية التأثير". ومن أجل تنزيل مضمون هذه الفكرة، يمكن مثلا اتخاذ عدة تدابير لتعزيز وتسهيل الولوج إلى التمويل لصالح الطبقات الفقيرة والمهمشة، ولنا في تجربة محمد يونس، مؤسس بنك جرامين Bank Grameen والحاصل على جائزة نوبل للسلام عام 2006، مثال حي على ما يمكن للمؤسسات المالية أن تقوم به عندما توظف مقدارا من المواطنة والمسؤولية الاجتماعية لأدوارها فتجربة يونس في بلاده جديرة بالدراسة للاستفادة منها ونسخها مع إخضاعها للواقع المغربي حتى تؤتي ثمارها، فبفضل بنك الفقراء، استطاع محمد يونس أن يخرج الآلاف من الفقراء إلى الكفاف. إن فتح المجال البنكي أمام الأشخاص الأكثر هشاشةً سيمكن العديد منهم الخروج من الفاقة إلى الكفاف وتجعله يملك القدرة على التأثير في كل ما يتصل بحياته. وهو ما نفتقده في الحالة المغربية حيث أشار بنك المغرب إلى أن من بين العوامل المعيقة للتنمية الشاملة عدم تمكن القطاع المالي من تطوير منتجات مالية بديلة تلائم احتياجات الأفراد ذوي الدخول المحدودة وفي المناطق البعيدة، وكذلك ارتفاع وغلاء سعر الفائدة. تتلخص فكرة محمد يونس في شرط أساسي هو التفكير في الاقتصاد بمنطق جديد، وأن نعترف بأن النموذج الرأسمالي الحالي المتحكم في اقتصاديات العالم نموذج أناني وفردي ومدمر للبيئة، ولا يفكر في الضعيف والفقير. فالأمر بالنسبة لمحمد يونس لا يحتاج إلى دبلوم في الهندسة، أو المعلوميات، أو إلى رأسمال كبير. بل تحتاج جل المقاولات فقط إلى فكرة تنطلق منها، مع جهد في الابتكار لتحقيق القيمة المضافة، وهذا هو المطلوب من أي شركة. بعد ذلك، إذا نجحت، فإنها تطور أنشطتها وتوسع عملها، فتخلق فرص عمل، وتوسع دائرة المستفيدين، وتطور الاقتصاد المحلي، وتراكم الخير. هذا الكلام ليس نظريا، بل جربه محمد يونس في أوغندا التي يحكي لنا عنها باعتبارها نموذجا طور الاقتصاد الاجتماعي، وأعطى مثالا رائعا عن ذلك: «ملايين المقاولات الصغيرة التي تشتغل في أوغندا لا تخلق، فقط، مناصب شغل، ولا تخرج الملايين من الفقر فحسب، بل إنها أيضا تربي الثقافة المقاولاتية (l'esprit d'entreprise) التي تعتمد على الذات، وتقبل بالمخاطرة، وتستثمر في الوقت والموارد والذكاء، وتتطور مع الوقت… يقول محمد يونس: "أسسنا في أوغندا شركة اسمها Golden Bees تعنى بمساعدة الفلاحين على تأسيس مقاولاتهم وتطويرها، وتشتغل في الغالب في الميدان الزراعي وتربية النحل، فوجدنا أن الفلاحين المعزولين في قراهم لا يتوفرون سوى على فلاحة معيشية، يأكلون منها ولا يصدرون شيئا إلى المدن ولا إلى الخارج. ولأن المحصول محدود والنسل يتكاثر، صارت الفلاحة أحد أسباب فقر هؤلاء، عوض أن تكون سبب غناهم، فماذا فعلنا معهم؟ أولا، نقلنا إليهم خبرات جديدة لتطوير المحصول الزراعي، وساعدناهم على الوصول إلى أسواق المدن وكبريات الفضاءات التجارية في العاصمة، ومولنا بناء دكاكين صغيرة يبيعون فيها محاصيلهم مباشرة للمستهلكين، دون المرور بشبكة الوسطاء الذين يمتصون قسطا كبيرا من العائد، وثالثا، أخبرناهم بأن العسل الذي ينتجونه منذ آلاف السنين مطلوب في أسواق عالمية في أوروبا وأمريكا وكندا، وأن العسل ليس إلا نصف المنتج الذي يمكن تسويقه، وأن الشهد الذي يضع النحل فيه العسل يمكن بيعه أيضا لمعامل مستحضرات التجميل، ولمختبرات الأدوية، فيما كان الفلاحون الأوغنديون لا يستغلونه على الوجه المطلوب. كل هذا أعطى نتائج مبهرة في فترة وجيزة، حيث تضاعف دخل الفلاحين عدة مرات، وتوسعت أنشطتهم، وانخرط أبناؤهم في مسلسل للتكوين في التسويق والإدارة وتطوير المقاولات، خاصة على الأنترنت الذي يوفر اليوم إمكانات هائلة للاقتصاد الاجتماعي، وكل هذا لم يكلف إلا القليل من المال الذي ساعدت به Golden Bees، ثم استردت جزءا منه بعد ذلك لمساعدة مشاريع أخرى في المنتجات اليدوية". ماذا أعطى محمد يونس لهؤلاء الفقراء ليخرجوا من فقرهم ومن عزلتهم ومن هشاشتهم؟ أولا أعطاهم الفكرة «l'esprit d'entreprise»، ثانيا المعلومة، ثالثا الخبرة، رابعا المساعدة على الوصول إلى السوق وإلى البنية التجارية «La structure commerciale» من أجل تحرير الطاقات، والباقي كان موجودا في القرية وفي تجارب أهلها… تعمدنا أن نبسط بشيء من التفصيل تجارب محمد يونس، لكونها تزخر بالعبر وتتعدى البعد الاقتصادي الضيق إلى جعل التنمية مسالة ذات بعد شمولي، تجعل الإنسان في صلب وعمق انشغالاتها، وقد بينت هذه التجارب أن أهم شروط النجاح هي الانطلاق من احتياجات المواطنين و البحت معهم عن أنجع الحلول والعمل معهم على تطبيقها، وكما يقول المغاربة " معاً كلشي ممكن" إن ما يعوزنا في المغرب ليس البرامج التنموية والتي يمكن القول إننا نعاني تخمةً منها، فإننا مازلنا نعاني الهشاشة والفقر والعوز؛ ولعل من الأسباب الرئيسية لفشل هذه البرامج وما يترتب عنه من هذر للأموال العمومية يكمن في نظرنا في الارتجالية التي تطبع العديد منها، إضافةً إلى تغييب المعنيين بالآمر وعدم وجود تشخيص دقيق ورصين. ونستحضر أيضا تجربة رواندا، هذا البلد الإفريقي الذي خرج بالكاد من حرب أهليةٍ مدمرةٍ كلفته أكتر من مليون ضحية وتدميرٍ شبه كامل لبنيته التحتية. رواندا هي نموذج ملهم لدولة إفريقية نجحت في تحقيق مجموعة من أسرع معدلات ومؤشرات التنمية في القارة الإفريقية، وزيادة فرص العمل، وتنويع الاقتصاد، وتعزيز مصادر الدخل الفرد والقومي، لتقدّم نفسها كمعجزة اقتصادية إفريقية ملهمة. ما يهمنا في حالة هذا البلد الإفريقي هو كيف تمكنت رواندا من تطويق آثار الحرب الأهلية وإرساء حالة من التقدم الاقتصادي وتعزيز التنمية المستدامة بعد أن كانت إحدى دول القارة الإفريقية التي كان ينظر إليها الإعلام كبلد لا يعرف عنه إلا الأوبئة والحروب الأهلية الدموية؟ الجواب يأتينا على لسان بول كاغامي، الرئيس الرواندي، الذي يجمل أسس المعجزة الرواندية في تمكين النساء وتعليم الشباب وتحفيز الأجيال الصاعدة على تحمل مسؤولية بلادهم وإدماجهم في تحقيق التغيير. وفي هذا السباق أبرز الرئيس الرواندي أنه استثمر في صحة وتعليم المرأة، إذ بدأت النساء المتعلمات في المشاركة في الاقتصاد، وأشار كاغامي إلى أن 52 في المائة من سكان بلاده من النساء. وأضاف: "إذا قمنا بتهميش 52 في المائة من سكاننا فلن تكون هذه الخطوة ذكية ولن تقودنا إلى الأمام". كاغامي أكد أن وقت مغادرته قيادة البلاد سيأتي، وآنذاك سيكون على الشباب تقرير ما يجب فعله، وسيختارون في ما بينهم من يحمل المشعل. وأفاد المسؤول الرواندي أن بلاده أرسلت الشباب للدراسة في الخارج، عاد منهم 70 في المائة، وهم الذين يتولون تدبير شؤون البلد. ولفت إلى ضرورة الاستثمار في الخلف، الذي يمكنه تحمل مسؤولة البلد والمضي به نحو التقدم. وأوضح الرئيس الرواندي كاغامي: "بعد الإبادة الجماعية كنا نبحث كيفية تجاوز الوضع، وكانت سنغافورة مثالا جذابا لنا من نواح كثيرة، مثل الاستثمارات والعلوم وكيفية الاستثمار في مواطنيها وتجارتها". واعتبر كاغامي أن الفلسفة وراء النموذج الرواندي يمكن تطبيقها في كل مكان في إفريقيا وخارجها. وحول تغيير العقليات، أشار كاغامي إلى أن "بلاده اعتمدت على فتح نقاشات في جميع أنحاء الوطن مع الشعب وإخباره بالمشاكل وما يمكن عمله لمعالجتها". وذكر كاغامي أن "المحن التي واجهتها رواندا كانت صعبة، وهو ما يجعل النموذج الرواندي قابلا للعمل في العديد من الظروف"، وشدد على أنه "سينجح لأنه يعتمد على جعل الأشخاص في قلب كل شيء ويعمل على إشراكهم". وأكد الرئيس الرواندي على أهمية استعادة الشعور بالأمل والتفاؤل كلما ضاع، مشيرا إلى أن هذا الأمر بالغ الأهمية لنجاح أي بلد. ودعا في هذا السياق إلى نبذ نبرة الانهزامية والتشاؤم، التي قال إنها تسم النقاشات السياسية في إفريقيا وتشكل كابحا كبيرا أمام استغلال الإمكانيات الكبيرة المتوفرة والمقومات المشتركة، التي يمكن الارتكاز عليها في بناء مستقبل إفريقي. إن النمو الاقتصادي وسيلة هامة لتحقيق التنمية البشرية، ولكنه ليس الغاية، بل الغاية هي التنمية البشرية أي تنمية الإنسان وذلك ببناء الإمكانات البشرية. كل ذلك من أجل حذف واحد ووحيد هو التمكين الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي للمواطنات والمواطنين المغاربة. *فاعل جمعوي أستاذ الاقتصاد وعضو مؤسس لحركة معاً