ترتج بيروت وسائر مدن لبنان على وقع احتجاجات منذ منتصف أكتوبر، أجبرت رئيس الوزراء على الاستقالة وهزت الثقة في اقتصاد كان واقعا بالفعل في أزمة. ينصب غضب المحتجين على الفساد المفترض لساسة لبنان من زعماء الطوائف المهيمنين على مقدرات البلاد منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين 1975 و1990. ما خطب الاقتصاد اللبناني؟ يصدر لبنان أقل القليل ويستورد بكثافة، في حين ينوء اقتصاده بأحد أضخم أعباء الدين في العالم نتيجة لسنوات من عدم الكفاءة والهدر والفساد. قبل عشر سنوات، كان الناتج المحلي الإجمالي ينمو بين ثمانية وتسعة بالمئة سنويا. لكنه تباطأ تباطؤا حادا لأسباب عدة، من بينها أثر الحرب في سوريا والاضطرابات الحاصلة في المنطقة عموما وتقلص تدفقات رؤوس الأموال القادمة من الخارج. النمو الاقتصادي، الذي ظل عالقا بين واحد واثنين بالمئة لعدة سنوات، توقف تقريبا هذا العام. ورغم هذا، تواصل الحكومة الاقتراض. وفي حين يبلغ الناتج المحلي الإجمالي 55 مليار دولار، فإن الدين العام يصل إلى حوالي 150 بالمئة من الناتج الإجمالي، بما يعادل 85 مليار دولار. وفي ظل ندرة مصادر النقد الأجنبي، يعتمد لبنان على مغتربيه لتحويل الأموال إلى النظام المصرفي، ليعاد تدويرها في تمويل الواردات وعجز ميزانية الدولة. لكن رغم تزايد أسعار الفائدة، شهدت هذه التدفقات تباطؤا. أفضى هذا إلى شح الدولار وضغط على الليرة اللبنانية التي ضعفت في سوق سوداء بزغت خلال الأشهر الأخيرة. وبدأ ضعف الليرة يرفع الأسعار. ويذهب الجانب الأكبر من الإنفاق الحكومي لخدمة الدين وسداد أجور موظفي أجهزة الدولة المكدسة بالمعينين لدوافع سياسية. البنية التحتية فقيرة. يعاني لبنان من انقطاعات يومية في الكهرباء ويعتمد على مولدات خاصة باهظة التكلفة لسد الفجوات. وخدمات الهاتف المحمولة عالية التكلفة. تبلغ نسبة البطالة بين من هم دون الخامسة والثلاثين 37 بالمئة. ورغم سنوات من التحذيرات بشأن ضرورة الإصلاح وكبح العجز، لم تحرك الحكومات ساكنا. ما خطب السياسة اللبنانية؟ يتهم المحتجون النخبة السياسية باستغلال موارد الدولة لمصالحهم الخاصة عن طريق شبكات محسوبية تتداخل فيها المصالح الاقتصادية والسياسية. وعلى عكس دول عربية عديدة، لا يخضع لبنان لحاكم واحد قوي بل لعدد من الزعماء والأحزاب المهيمنين على طوائفه المتعددة. وتتوزع المناصب بالمحاصصة على 18 طائفة معترفا بها رسميا. والبرلمان مقسم مناصفة بين المسيحيين والمسلمين. يجب أن يكون رئيس الوزراء مسلم سني والرئيس مسيحي ماروني ورئيس البرلمان شيعي. ويقول المنتقدون إن هذا النظام أبقى الطبقة الحاكمة في السلطة للأبد وسمح للساسة بوضع مصالحهم الشخصية فوق مصلحة الدولة. ولا يطالب المحتجون بالإطاحة بالنخبة فحسب، بل وبإصلاح النظام أيضا. يقول مهند الحاج علي، الباحث المقيم في مركز كارنيجي للشرق الأوسط، "هناك نخبة سياسية أنانية لم تعترف بعد بالتغيرات ولا بمدى صعوبة الوضع.. يريدون التركيز على تربحهم الشخصي من النظام." انقسامات لبنان السياسية تجعله منكشفا أيضا على التدخلات الخارجية التي لطالما أججت أزمات داخلية. ومنذ انسحاب القوات السورية من لبنان في 2005، كان العديد من أزماته السياسية ناتجا عن التوترات بين إيران، التي تساند حزب الله الشيعي، من ناحية، ودول الخليج العربية المتحالفة مع الولاياتالمتحدة، والتي ساندت الحريري، من ناحية أخرى. ماذا بعد؟ لأن الاحتجاجات تفتقر إلى الزعامة ولأنها تنطوي على طيف واسع من المطالب، فإن الاستجابة لها ليست سهلة. لذا لاقت حزمة أولى من الإجراءات التي عرضها الحريري رفضا مدويا، ليطالب المتظاهرون بتغييرات أعمق. ويعقد الزعماء السياسيون بمن فيهم الحريري مناقشات خلف الأبواب المغلقة لتشكيل حكومة جديدة. يتمثل أحد الأفكار في أن تتشكل الحكومة الجديدة جزئيا على الأقل من خبراء يمكنهم الفوز بثقة الرأي العام والمضي في الإصلاح. لكن رغم مرور أسبوع على استقالة الحريري، لا توجد بادرة انفراجة سريعة. وكان تشكيل الائتلاف الحكومي المنقضي نتاج مفاوضات استغرقت تسعة أشهر. وسيخيب أمل المحتجين المطالبين بإصلاح حكومي شامل وانتخابات جديدة إذا ضمت أي حكومة جديدة وجوها قديمة. وسيسعى البعض على الأقل لمواصلة المظاهرات. كتب هيكو ويمين، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية، يقول في تحليل حديث له "إذا ساد هذا المزاج واستمرت المظاهرات بالوتيرة والحجم الحاليين، فقد يكون البلد بصدد فترة قلاقل طويلة الأمد.. لا توجد زعامة سياسية بديلة ولا معارضة حقيقية للأحزاب الحاكمة." وسيؤدي مزيد من التدهور الاقتصادي، بما في ذلك خطر خفض حاد لقيمة العملة، إلى تفاقم التوترات الاجتماعية. وقال الحاج علي "هذا مجتمع خاض حربا أهلية قبل 30 عاما فحسب،" مبديا قلقه من أن العوامل التي غذت ذلك الصراع ربما تعتمل من جديد. وتابع "هذا البلد جاس بنا في الظلمة من قبل، ولست أرى مخرجا لتفادي شيء كذلك."