تحل اليوم الأربعاء الذكرى الرابعة والأربعين للمسيرة الخضراء؛ وهو حدث عاشه 350 ألف مغربي ومغربية من مختلف جهات المملكة تطوعوا للتوجه نحو الصحراء استجابةً لدعوة الملك الراحل الحسن الثاني. وقد شكلت هذه المسيرة حدثا عالميا كبيرا استرعى مختلف دول العالم، وأيضاً الإعلام الوطني والدولي الذي كان شاهداً على تطورات متسارعة في تلك الفترة تهم المغرب وإسبانيا والجزائر. وللوقوف على ظروف الإعلان عن المسيرة من لدن الملك الراحل الحسن الثاني وحيثياتها، نستضيف في هذا الحوار علي ابن ستيتو، الصحافي المغربي الذي واكب المسيرة من أولها إلى آخرها. كما يحكي تفاصيل الاستعداد لها وكيف مرت ظروف هذه المبادرة الاستثنائية. وابن ستيتو هو صحافي من مواليد الخمسينيات بإقليم تازة، هناك قضى طفولته قبل أن ينتقل إلى تاوريرت ثم وجدة لمتابعة دراسته الابتدائية والثانوية، وبعد ذلك إلى الرباط للالتحاق بالجامعة. وبعد حصوله على الإجازة في الحقوق سنة 1974، التحق بوكالة المغرب العربي للأنباء في الرباط في إطار الخدمة المدنية، وهناك سقط في عشق مهنة الصحافة. كانت بدايته من المسيرة الخضراء سنة 1975، لينطلق بعد ذلك في ملاحقة الأحداث والتطورات داخل المغرب وخارجه، حيث تابع ملف الصحراء في كواليس منظمة الوحدة الإفريقية، وواكب عدداً من القمم العربية، قبل أن ينتقل سنة 1985 إلى القاهرة رئيسا لمكتب الوكالة. أصدر، نهاية شتنبر من سنة 2018، مذكراته بعنوان: "مذكرات صحافي رحلة في الزمان والمكان"، يستحضر فيها الأحداث التي تابع مجرياتها على مدار أربعة عقود كاملة من المغرب إلى مصر ثم تونس. كيف جاء الإعلان عن المسيرة الخضراء سنة 1975؟ لما جرى الإعلان عن المسيرة الخضراء قالوا إنها مجرد مزحة لا يمكن أن يصدقها العقل، كانت هناك حالة من الترقب والتكهنات حول ماذا سيفعل المغرب. كان المراقبون، من إعلاميين ودبلوماسيين، يتابعون هذه التطورات من خلال الخطب والتصريحات التي كان يدلي بها الملك الحسن الثاني من حين إلى آخر. كان المراقبون يحاولون قراءة ما يُهيئ المغرب لمواجهة الملف في انتظار صدور قرار محكمة العدل الدولية حول الصحراء، وبقي الأمر على هذا الحال والتصعيد مستمر من الجانبين الإسباني والجزائري. كانت إسبانيا قد حاولت، في البداية، أن تُخرج سيناريوها يتمثل في إقامة حكم ذاتي للصحراء، حيث أقامت جماعة صحراوية محلية بدعوى أنها تمثل الصحراء، وأقامت هيئة سياسية يتزعمها الصحراويون الذين كانوا يتابعون دراستهم في إسبانيا.. وهكذا، هيأت السيناريو لتكون الصحراء تابعة لها تحت غطاء الحكم الذاتي؛ لكن تلك المساعي فشلت في آخر المطاف مع تدهور الموقف الداخلي في إسبانيا بسبب أوضاعها، خاصة مع انتقال الحكم من الدكتاتور فرانكو إلى الملكية. كل هذه العوامل جعلت الجو مشحوناً والترقب شديداً إلى أن جاء أكتوبر سنة 1975 عندما فوجئت الأوساط الإعلامية بأن دُعي الإعلاميون المتخصصون في تغطية الأنشطة الملكية إلى التوجه على وجه السرعة إلى مراكش، حيث كان يقيم الملك الراحل الحسن الثاني. وقد توجه الإعلام العمومي، من وكالة أنباء وإذاعة وتلفزة، إلى مدينة مراكش دون أن يعلم أي أحد ماذا سيقع. يوم 16 أكتوبر صدر قرار محكمة العدل الدولية، لكن الصيغة التي صدر بها وعُمم على وسائل الإعلام الدولي لم تكن واضحة بما فيها الكفاية ليعرف المتتبع والمراقب والإعلامي هل القرار لصالح المغرب أم لإسبانيا.. وكنتيجة لذلك، بقي الترقب والحيرة سيد الموقف إلى أن أعلن الملك في خطابه بأن المحكمة أنصفت المغرب وأكدت على وجود روابط بيعة، باعتبارها عنصرا شرعيا بين القبائل الصحراوية والسلاطين الذين تعاقبوا على حكم المغرب. انطلاقاً من هذا الأمر، قال الملك عبارته خالدة: "وأمام ذلك، لم يبق أمامنا شبعي العزيز إلا أن نتوجه صوب صحرائنا". كيف كان وقع الإعلان الملكي عن المسيرة الخضراء؟ وكيف تم التنقل إلى الصحراء؟ كان هذا الكلام بمثابة قنبلة إعلامية وسياسية فاجأت الجميع. بعد خطاب الملك، انتقلنا عبر شاحنات وحافلات إلى مدينة طانطان، حيث كان المبيت هناك بالنسبة للقافلة قبل أن تصل في اليوم الموالي إلى طرفاية، وفي ضواحيها أقامت السلطات معسكراً كبيراً منظماً عبارة عن مربعات، خصص كل مربع خُصص لإقليم من الأقاليم حتى يكون هناك نوع من التنظيم؛ لأن الأمر يتعلق ب350 ألفا من المتطوعين والمتطوعات، من بينهم أكثر من 35 ألف امرأة، لقد كان الأمر أشبه بمغرب مصغر. قبل الدخول إلى الصحراء، كان هناك نوع من الانتظارية. وقد ملأ المتطوعون فراغاتهم بالعديد من الأنشطة الثقافية والفلكلور واللوحات الفنية، وتقاطر على طرفاية المئات من الصحافيين من مختلف أنحاء العالم، خصوصاً من إسبانيا على اعتبار أنها كانت المعنية المباشرة بما يحدث. على الجانب الآخر، كانت الآلة الدبلوماسية المغربية تشتغل، حيث استقبل الملك في مراكش وفوداً من الأممالمتحدة؛ أبرزها كورت فالدهايم، الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، الذي وصل على عجل إلى المدينة، إضافة إلى وفود من إسبانيا، فكان جواً محموماً على جميع المستويات. مساء يوم الخامس من نونبر، طُلب من الصحافيين الموجودين في مدينة طرفاية أن ينتقلون على وجه السرعة إلى أكادير بواسطة جسر جوي أقامته القوات المسلحة الملكية بواسطة طائرات عملاقة C-130، ذهبنا في المساء ولما وصلنا انتقلنا إلى مقر البلدية حيث وجه الملك خطابه. كيف كان تفاعل الجزائر مع هذه الاستعدادات؟ كان التخوف من جانب ردود الأفعال التي كانت ستأتي من الجزائر، إذ تحدثت آنذاك تقارير بأن الجزائر كانت تحشد قواتها في ضواحي تندوف في الحدود مع الصحراء، وطلبت اجتماعاً عاجلاً مع إسبانيا في مجلس الأمن، وادعت أن ما سيقدم عليه المغرب يمثل تهديداً خطيراً للوضع في المنطقة. كيف كانت إشارة الانطلاقة للمسيرة الخضراء؟ صباح يوم السادس من نونبر، توجه الجميع إلى المنطقة الحدودية التي يطلق عليها "الطاح" على بُعد حوالي 10 كيلومترات من مدينة طرفاية. وحوالي الساعة العاشرة صباحاً، رأينا الموكب الرسمي يتقدمه الوزير الأول آنذاك أحمد عصمان ومعه مجموعة من الشخصيات الحكومية وزعماء الأحزاب السياسية، إضافة إلى وفود عربية؛ من بينها السودان السعودية والإمارات والكويت كانت تظهر لنا من خلال أعلامها. في لحظة من اللحظات، كان عصمان كان ينتظر الإشارة التي ستصله عبر الراديو المحمول، سمع قريبون منه صوت الملك الحسن الثاني يقول: "باسم الله مرساها.. عصمان خد المقدمة".. وكانت تلك الإشارة التي ننتظرها، وتعالت الزغاريد والصيحات، وصدحت الأغنية الوطنية التي أصبحت مشهورة، بعد ذلك أدى المتطوعون ركعتين كما كان أوصاهم الملك في خطابه. بعدما دخلنا الصحراء، لم يكن هناك أمامنا لا جنود ولا حواجز عسكرية، إلا بعض الطائرات المروحية التي كانت تحلق من حين إلى آخر كانت تحلق على مسافة قريبة، وإن كانت عسكرية فإنها كانت مكلفة بتصوير ما يجري. في اليوم الثاني، تقرر أن يعود المتطوعون شمالاً بعد أن بدأت تظهر بوادر تليين الموقف الإسباني بعد اشتغال الآلة الدبلوماسية على أشدها، بعد أن هدأت العاصفة تمكنت المساعي والتحركات الدبلوماسية التي كان يقودها الملك شخصياً؛ مما أدى إلى دفع إسبانيا إلى طاولة المفاوضات. بعد ذلك، عاد المتطوعون يوم 9 نونبر، وألقى الملك خطاباً قال فيه إن المسيرة قد أعطت أكلها. بحكم معايشتكم لهذه المسيرة، كيف ترونها كمبادرة وفكرة؟ المسيرة أعتقد، كما يرى العديد، أنها لم تكن مجرد خطة تكتيكية لاسترجاع الصحراء؛ بل كانت للملك رؤية إستراتيجية ثاقبة، وكان يقصد أن يجعل المغرب في انعطافة تاريخية بعد استرجاع الصحراء لتكون هناك مسيرة جديدة من الإصلاح والحداثة، لينتقل المغرب إلى مصاف الدول المتقدمة بفكر جديد وقناعة جديدة.