بحلول الأربعاء 23 أكتوبر 2019، يكون قد مر أسبوع كامل على اندلاع ما يوصف هنا في لبنان ب"ثورة 17 تشرين الأول"، وهي حدث غير مسبوق بوطن الأرز، ولا يمكن مضاهاته إلا بالانتفاضة الكبرى التي وقعت بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري سنة 2005، وكانت سببا مباشرا في إنهاء الوجود السوري بلبنان. أكثر من مليوني لبناني نزلوا إلى الشارع وأغلقوا منافذ الطرقات الرئيسية التي تربط بين مناطق وجهات البلد. جاؤوا من كل شرائح وفئات وطوائف المجتمع، شباب وأطفال ونساء وشيوخ، الكل يهتف بهتافات الغضب الساطع وينادي "ثورة.. ثورة"، مطالبين في صرخة جماعية بإسقاط النظام، الكل يزحف إلى الساحات الكبرى في بيروت العاصمة، وفي طرابلس وصيدا وصور، وفي بعلبك والنبطية، وفي كل محافظاتلبنان ومناطقه. الحناجر لا تتعب ولا تكل. تحت العلم الوطني، تجمع اللبنانيون من كل التيارات والمذاهب يرفعون الصوت ضد الفساد، يصرخون من جوعهم ومن ألمهم على تحويل بلاد الأرز إلى وطن محروق بالإهمال والصفقات لأهل السلطة وأمراء النهب، الورثة الشرعيين لأمراء الحرب الأهلية التي اجتاحت لبنان على مدى خمس عشرة سنة. جيل جديد يجد نفسه بلا أمل، تحرك من أجل بناء مستقبله، والسلطة تراوغ للدفاع عن موقعها، والمواجهة تتزايد، الشعب في الساحات والسلطة تتمترس خلف قلاعها المحصنة، والمتظاهرون مصرون على هزم ورحيل المنظومة السياسية المتهمة بالفساد والسرقة وهدر المال العام ونشر وتثبيت التفرقة الطائفية بين أبناء الشعب اللبناني الواحد. وسط احتداد الغضب والثورة، استطاع الناس تحويل الأزمة إلى رقص وموسيقى وأهازيج ونكت وطرائف ساخرة، وكأنهم يترجمون على أرض الواقع ما سطره العلامة ابن خلدون قبل قرون حين كتب في "المقدمة": "إذا رأيت الناس تكثر من الكلام المضحك وقت الكوارث، فاعلم أن الفقر قد أقبع عليهم، وهم قوم بهم غفلة واستعباد ومهانة، كمن يساق للموت وهو مخمور". فما هي حقيقة ما يجري في بلد جبران خليل جبران ووطن فيروز؟ الدكتور خالد العزي، أستاذ باحث بالجامعة اللبنانية ناشط بالمجتمع المدني، تحدث لهسبريس ليسلط بعض الضوء على مناخ الانتفاضة اللبنانية الكبرى ومآلها، قائلا: "هذه الانتفاضة هي نتيجة طبيعية للحالة التي يعيشها الناس بسبب الفقر المسيطر على كافة الشرائح، وهي تعبير عن وجع الشارع، فالناس سئموا من هذه الطبقة السياسية التي أوصلت البلاد إلى هذا الحد من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والتأزم السياسي". ونفى الدكتور العزي الاتهامات التي توجه إلى المتظاهرين بكونهم مدفوعين من جهات خارجية، قائلا: "هذا التحرك الشعبي انطلق من مجموعات دعت إليه، كما شاهدنا، ربما هناك من يريد استخدام الحراك لصالحه من أجل الضغط للقبول بالميزانية وترك الضرائب التي كانت مقررة ومطروحة. ربما هناك تهديدات من هنا وهناك، لكن الشارع بات لا يبالي، من يشاهد هذا التدفق الكبير صوب الساحات، ومن يرى الناس والأجيال الطالعة التي تقف في هذه التظاهرات من الطلاب ومن ذوي الأعمار المتراوحة ما بين 15 و30 سنة، وهؤلاء هم فاقدو العمل، وهم أصلا إذا عادوا إلى بيوتهم لن يستطيعوا تأمين أكلهم وشربهم، وبالتالي هم لن يخسروا أي شيء، ولذلك سيبقون في الشارع حتى تتم الاستجابة لمطالبهم وحاجاتهم من خلال تقديم معالجة حقيقية، وقد تكون المعالجة بالصدمة، والصدمة قد تترجمها استقالة الحكومة". وحول استقالة حكومة سعد الحريري التي تطاب بها الجموع المحتشدة في الشوارع، قال الدكتور العزي: "الاستقالة كان من شأنها امتصاص غضب الشارع، ولكن كما يبدو، فإن تمسك حزب الله بالحكومة الحالية هو نوع من وضع الحريري في موقع حرج وإحراقه، فطرابلس أحرقت الزعامة السنية التقليدية بانتفاضتها التي أعلنتها بهذه الطريقة المنظمة والمميزة التي تعانق كل المدن وتصرح بأنها هي إلى جانبهم وتقف معهم، ونزعت عنها صفة (الإمارة)، وعجز الحريري عن تقديم خدمات لهذه المدينة التي تعد من كبرى الحواضر اللبنانية". وتابع الباحث اللبناني أن "الحريري ليس بيده أن يستقيل، بل يحاول فقط أن يقول للجميع إنه يحافظ حتى النهاية على التسوية الرئاسية التي أبرمت منذ ثلاث سنوات وأدت لإنهاء فراغ رئاسة الجمهورية بانتخاب ميشال عون وتشكيل الحكومة برئاسته، وإنه يعمل على القيام بإصلاحات. وربما نستشف من حديث سعد الحريري أنه مع المتظاهرين ومع الشارع، لكنه مغلوب على أمره، ولا يستطيع الاستقالة لأنه تحت التهديد. وربما نقطة أخرى، هو يفهم جيدا أن خروجه من الحكومة لن يعيده إليها مرة ثانية، لأنه فقد كل شيء. وربما أن المعطيات التي لديه ولدى مستشاريه تقول إن هناك انفتاحا سعوديا وخليجيا على سوريا، وانفتاحا روسيا على الخليج، وهناك محاولة تعويم بشار الأسد ودعمه، من خلال عملية إعادة الإعمار، والحريري يرغب في الاستمرار في الحكومة بشكل يضمن له البقاء ليكون حاضرا ضمن حسابات هذه التسوية عبر الشركات المبنية بلبنان". وعن سؤال حول آفاق ومآل الحراك في لبنان، أوضح الدكتور خالد العزي أن "الساحات احتلها اليوم الشعب، ولن تتزحزح منها هذه الكتل الكبيرة من الجماهير التي أصبحت تعتبر أن وجودها في الساحات هو وجود للتغيير، أما الدولة فهي الآن مرتبكة وتبحث عن مخرج، وربما ستحاول امتصاص النقمة بطريقة إطالة عمر بقاء الجمهور في الشارع حتى يتعب ويقرر الانسحاب، لكن الجمهور من جانبه يعتبر أيضا أن عمليات الضغط والبقاء والتسكير (إغلاق منافذ الطرقات) بالمناطق سيشكل ضغطا شعبيا كبيرا على الحكومة، والطرفان اليوم في عملية عض الأصابع". في انتظار التطورات التي ستكشفها الأيام المقبلة، يبقى اللبنانيون في حالة تأهب واستنفار على أمل أن يحقق المتظاهرون مطالبهم وينتزعون حقوقهم في الشارع، ويحاسبون من كان السبب في إفقارهم وتجويعهم وسرقة موارد دولتهم من أحزاب السلطة الطائفية.