عرف تشكيل الحكومة المنتظرة مخاضا عسيرا وشدا وجذبا تميزا بالتقاطب الحاد بين الأساليب القديمة في تشكيل الحكومات وبين مقتضيات التطبيق الفعلي للدستور الجديد بدءا بتعيين رئيس الحكومة وانتهاء بهيكلة الحكومة واستوزار شخصيات بعينها . فقد تميزت المرحلة حتى الآن بتقديم رسائل متبادلة ، بين حزب العدالة والتنمية والقصر بلباقة "محترمة " وتقدير من الجانبين لخطورة المرحلة أفضيا إلى تعامل مرن مع المعادلات المطروحة حتى الآن ؛ مما يجعل باب الأمل لدى العديد من المغاربة لا يزال يسير في الاتجاه الإيجابي خاصة بعد قطع الشك باليقين في ثلاث محطات مفصلية : محطة الانتخابات والحياد الإيجابي الذي تخللها ، ومحطة تعيين الأمين العام للحزب في منصب رئيس الحكومة جريا على العرف ، ومحطة تكليف القيادي في الحزب مصطفى الرميد بحقيبة العدل حسب ما تناقلته الصحف. المعادلات الصعبة : 1- على مستوى المؤسسة الملكية : المعادلة 1 بين الحفاظ على النظام وضمان السلم الاجتماعي : حرص القصر على تقديم تنازلات أولية عن بعض سلط الملك خاصة فيما يتعلق بالتدبير المباشر للملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصعود إلى الطابق الثاني من خلال المجالس العليا في خطوة استباقية تمت فيها الدعوة إلى تعديل الدستور في إطار المحاور التسع الذي تضمنها خطاب الملك ليوم 09 مارس 2011 من أجل استيعاب تداعيات الحراك العربي على المملكة ، والتحكم في سقوف المطالب الشعبية ؛ وقد نجح بشكل كبير في فك المعادلة بما ضمن سلما اجتماعيا مقبولا في عمومه . المعادلة 2 بين الحفاظ على المكتسبات القديمة في تشكيل الحكومات وعدم المجازفة : نجحت المؤسسة الملكية حتى الآن في الإمساك بالخيوط العامة للعبة من خلال حصر الدستور لصلاحيات رئيس الحكومة في سلطة الاقتراح والإبقاء على سلطة التعيين للملك بالنسبة للوزراء مما يفسح المجال لا حقا أمام كل التوقعات خاصة بعد هدوء رياح الربيع العربي ، كما نجحت في عدم المجازفة بتدخلات مباشرة كتلك المعتادة في تشكيل الحكومات السابقة على غرار ما حصل من عدم احترام العرف في تعيين الوزير الأول من الحزب الحائز على المرتبة الأولى سنة 2002 ، و مع وزير أول سابق الذي تم تسليمه لائحة الوزارء الذين سيشتغلون معه في باحة مسجد ليلة السابع والعشرين من رمضان من طرف أحد مستشاري الملك ، وفرض أسماء على أحزاب باسمها دون أن يكون لها انتماء سابق ، واعتبار وزارات خط أحمر يمنع الاقتراب منها ؛ عدم المجازفة هاته ستجعل هامش المناورة لدى الحركات الاحتجاجية في تضاؤل مطرد ،وتصبح معه شعارات من قبيل " الانتخابات عليك وعلي مسرحية" غير ذات جدوى ، بل تعطي مصداقية أكبر لبدعة الاستثناء المغربي بصورة الإيجاب على المستوى الداخلي كما الخارجي. المعادلة 3 تدبير الزمن وعدم إقبار الانتعاش السياسي هل من إمكانية ؟ فك هذه المعادلة ستجيب عنه الشهور والسنوات المقبلة خاصة بعد ولادة الحكومة "الرشيدة" فيما إذا كان التغيير سيكون جوهريا تترجم فيه قيم العدل والكرامة ومحاربة الفساد والاستبداد وتحقيق المساواة أمام القانون من أعلى هرم السلطة حتى أدناها على أرض الواقع، ويضمن استمرارية الانتعاش السياسي النسبي المسجل حاليا ؛ أم أنه تناوب أشخاص على قيادة القطار نفسه وإلى الوجهة نفسها وليس تغيير عقليات وأنماط تدبير بغية كسب المزيد من الوقت وتجاوز منطقة الخطر. 2- بالنسبة لحزب العدالة والتنمية : حاول الحزب منذ تفعيله سنة 1996 تدبير الفرص والتهديدات التي اعترضت مساره السياسي بواقعية مبالغ فيها أحيانا ، وبتدرج مطرد جعلاه ينكفئ كلما اشتدت الريح لكنه إذا سكنت اعتدل كخامة الزرع مما مكنه من الصمود بل النمو والتغلغل في الحياة العامة حيث ارتفع عدد فريقه النيابي من 14 نائبا سنة 1997 إلى 107 سنة 2011 رغم أشكال التدخل المختلفة التي عرفتها معظم المحطات الانتخابية لتحجيم موقعه . وقد ساهم الربيع العربي بالطبع في هذه النتيجة وأيضا في الرفع من سقف خطاب الحزب دون الوصول إلى المستوى الذي رفعته حركة 20 فبراير فيما يخص الملكية البرلمانية ؛ حيث انحسر إجمالا في محاربة الفساد والاستبداد في الدوائر الحكومية وما دونها، ويكون بذلك قد احتل موقعا وسطا بين مطالب حركة 20 فبراير وواقع الحال؛ مما أهله حاجة وضرورة للقيادة ولضمان السلم الأهلي بشكل كبيروذلك ما أكدته صناديق الاقتراع وتكليف الحزب برئاسة الحكومة. ولأداء هذا الدور وجد الحزب نفسه أمام معادلات صعبة من قبيل: كيف يمكنه كسب ثقة القصر بأدنى الأثمان السياسية ؟ كيف يمكن الحفاظ على تماسك الحزب ووحدته في مقابل عدم استعداء المؤسسة الملكية وعدم التفريط في فرصة التغيير ؟ كيف يمكن الحفاظ على مصداقية الحزب بالنظر لتطلعات الرأي العام وتشكيكات المخالفين لتوجهه وتربص المناوئين ؟ كيف يتم الحفاظ على الائتلاف الحكومي الرباعي دو ن مساس بالمستحقات التي أفرزتها نتائج الانتخابات ؟ في سبيل حل هذه المعادلات وجد الحزب نفسه أمام فرص عديدة على رأسها تتويجه من طرف الهيئة المصوتة بفارق كبير في نتائج الانتخابات الأخيرة ، كما دعمت توجهه فرصة داخلية غاية في القوة متمثلة في ما راكمه من تقاليد على مستوى التدبير الداخلي للملفات وصناعة القرار : من مأسسة وعمل جماعي وتماسك انتقلت كلها بالأداء الحزبي من الفردانية والمزاجية إلى القرار الجماعي والالتزام للقرارات والمعيرة حيث تشهد بذلك العديد من محطات الحزب سواء من خلال احترامه لمواعيده الانتخابية أو التداول على القيادة أو في نوعية القرارت المتخذة أوتدبير الاختلاف إذ أضحى هذا المنهج جزءا من كينونة وهوية الحزب مما أسعفه في المنازلة من موقع قوة سياسية فعلية وليست ديكورا سياسيا للتأثيث أو حليفا مدجنا. وبالمقابل وجد الحزب نفسه أمام تهديد متمثل في واقع سياسي لم يعرف إلا القرار الفوقي المألوف والمنتقى على المقاس فيما يتعلق بالتعيين في المناصب السامية خاصة والسياسات العمة والخاصة ، ولم تراكم فيه مرونة من الأطراف كلها ما يجعل المتتبع يستنتج عدم إرساء أية شراكة حقيقية في تشكيل وتسيير الشأن العام ،ويقر بوجود تبعية ذيلية ينصهر فيها الأنا بالآخر لكن في اتجاه وحيد . كما وجد نفسه أمام تهديدات أخرى خارج مؤسسة الحزب في طريق أداء الحزب للدور المنتظرمنه وتتمثل في العادات التي راكمتها بعض الأحزاب وخاصة المتعاقبة على تسيير الحكومة من عدم تركيم تقاليد تعزز من أدوار المؤسسات الحزبية في صناعة القرارالداخلي والوطني ما أنتج ثقافة اللامبالاة وضعف الإحساس بالمسؤولية وانعدام التنافس الشريف وغياب المساءلة والمحاسبة وأداء أدوار بالوكالة وهلم جرا. وقد استطاعت قيادة العدالة والتنمية لحدود الساعة تدبير تلك المعادلات بطريقة ناجحة واستفادت من الدروس الصعبة على هذا المستوى حيث تمكنت من احترام منهجها في اعتماد القرار الجماعي والمعيرة سواء تعلق الأمر بقرارها الاستباقي بالعودة للمجلس الوطني في حال عدم اختيار الأمين العام للحزب رئيسا للحكومة - مما يعني طرح قرار المؤسسة الملكية على طاولة النقاش - أوبالنسبة للاستوزار والمستوزرين مخافة فرض استوزار أسماء بعينها دون قرار داخلي من مؤسسات الحزب كل ذلك مع الحفاظ على استقرار الحزب وتماسكه . وردا للجميل فقد بادر الحزب بمعية حلفائه إلى تخصيص القصر بوزارات الأمانة العامة للحكومة وإدارة الدفاع الوطني والأوقاف نظرا لحسساسيتها حسب ما أوردته المصادر الصحفية . وعموما إن كللت التجربة بالنجاح في خطوتها الأولى كما يأمل العديد من المغاربة فالفضل في ذلك يرجع إلى التعامل الجاد مع اللحظة التاريخية من طرف القصر مما سيسهم في تجاوز الإرث الشمولي والتعاطي مع المرحلة بما تقتضيه إرادة الشعوب خاصة مع ما بدأت تعرفه الدول العربية من ديمقراطية حقيقة وتوزيع عادل للسلطة والثروة وخيرمثال على ذلك تونس حاليا؛ كما يعود الفضل إلى طريقة تدبير الملف من طرف الحزب طوال فترة المشاورات مما يمكن معه الحكم ابتداء من أن المغرب أصبح من الدول السائرة في طريق الديمقراطية ولا إمكانية للتراجع إلى الخلف ، وأنه سيحقق الاستقرار والنمو باعتبارها هدفا فوق الجميع .