أول مرة التقيت فيها الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، الذي وافته المنية عن عمر ناهز 86 عاما، كان في مقر سفارة الإمارات العربية في باريس في العام 2007، بمناسبة احتفالها باليوم الوطني الإماراتي. كان الرجل غادر لتوه قصر الإليزيه بعد 12 عاما قضاها فيه كرئيس لفرنسا لولايتين متتابعتين، الأولى حين انتخب عام 1995 إثر تفوقه على الاشتراكي ليونيل جوسبان، والثانية عام 2002، بعد مواجهة غير مسبوقة مع زعيم حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف آنذاك جان ماري لوبن، حين حشد الفرنسيون كل قواهم من أجل التصويت بكثافة لجاك شيراك، ليس حبا فيه، بل لقطع الطريق على مرشح اليمين المتطرف. بعد انتخاب نيكولا ساركوزي رئيسا لفرنسا في العام 2007، شرع جاك شيراك وعائلته في حزم حقائبهم وأمتعتهم قبل أيام معدودات من نهاية فترة حكمه التي ستكتب نهايتها الجولة الانتخابية الثانية للانتخابات الرئاسية في السادس من مايو. وأحيطت مقدمات الرحيل بكثير من الكتمان في ظل انهماك فرنسا بالحملة الانتخابية للمرشحين المتنافسين في الدور الثاني آنذاك، اليميني نيكولا ساركوزي والاشتراكية سيغولين رويال. لكن هيئة المعاشات كسرت هذا الكتمان بإعلان قائمة تضم قيمة التقاعد الخاص بشيراك وتسعة آخرين من كبار رجال الدولة. ولا يتجاوز التقاعد الذي سيحصل عليه رجل الإليزيه عقب 12 عاماً أمضاها في القصر الرئاسي 5250 أورو، وهو مبلغ يخضع لاقتطاعات ضريبية ويقل كثيراً عن دخل طبيب عادي. غير أن الوضع المالي لشيراك بعد مغادرته الرئاسة الفرنسية أنقذته المناصب الأخرى التي تولاها، بينها عمدة العاصمة باريس ورئيس الحكومة في عهد الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، فارتفع إجمالي التقاعدات التي يفترض أن يحصل عليها إلى 18800 أورو. لكن شيراك - مثله في ذلك مثل الرئيس الأسبق فاليري جيسكار ديستان - لم يتقاض كل هذه المعاشات فور التقاعد، فهما في نظر القانون لازالا يشغلان منصبا في المجلس الدستوري، الهيئة القضائية العليا التي تضم في تركيبتها رؤساء فرنسا السابقين، على أن يصرف التقاعد لهما بمجرد التوقف عن مزاولة أشغال أي منصب. خلال الدردشة التي جمعتني بشيراك خلال لقائي معه، حاولت أن أفهم كيف يعيش الرجل مرحلة ما بعد مغادرة السلطة، فأخبرني حينها بأنه أرسل كلبه إلى مزرعة في الريف الفرنسي بعد أن هاجمه ثلاث مرات. كان شيراك حزينا على تقلب نفسية كلبه "سومو" رغم أنه عضه في بطنه أثناء إقامته معه في شقته في باريس، وكان تفسيره للهجوم بأن الكلب أصيب بحالة اكتئاب جراء مغادرته قصر الإليزيه. حسب ما فهمته من شيراك خلال الدردشة الجانبية معه أن "سومو" خضع للعلاج من الاكتئاب بعد رحيل الأسرة من قصر الإليزيه واضطراره للعيش في شقة ضيقة، وهو المتعود على الركض والطواف في حدائق قصر الإليزيه الكبيرة؛ لم يتكيف مع الوضع الجديد، فحوله الاكتئاب الحاد من كلب لطيف إلى مهاجم شرس. سألته عن حياة تقاعده فأجاب أنه يعاني حياة التقاعد الجديدة بعد مغادرته الرئاسة، لكن على ما يبدو أن "سومو" الكلب عانى أكثر منه على حد قوله، والسبب من وجهة نظره أنه لا يملك إمكانيات لاستئجار بيت بحديقة كبيرة. كثيرون لا يعرفون أن شيراك رغم المناصب الرفيعة التي تولاها قيد حياته لم يكن يمتلك شقة خاصة به، وحين غادر الرئاسة الفرنسية في العام 2007 لم يذهب إلى الشقة التي أقام فيها منذ مغادرته قصر «الإليزيه»، بعد انتهاء ولايته الرئاسية الثانية، بل إلى شقة مستأجرة تقع في حي «سان جيرمان» في باريس، ومهيأة لاستقبال نزيل يستخدم الكرسي المتحرك. أقام شيراك وأُسرته في القصور التي تخصصها الدولة الفرنسية للمضطلعين ببعض المناصب التي كان يتقلدها، ولم يملك عمدة باريس منزلاً فيها وهو الذي ترأس بلديتها لنحو 18 عاما. ونظرًا لعلاقة الصداقة الشخصية والعائلية التي ربطته مع رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري، انتقل شيراك وزوجته برناديت إلى شقة تقع في «رصيف فولتير»، على الضفة اليسرى لنهر «السين»، وضعها رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري تحت تصرفه. أقام الزوجان ضيفين هناك منذ 2007، لكن وجود الشقة في طابق علوي وفي بناية من المعمار التقليدي لم يعد يناسب احتياجات الرئيس المريض. ورغم متاعبه الصحية، لم يقطع جاك شيراك الصلة بمدينة مغربية وقع في غرامها، هي مدينة تارودانت، جنوب المغرب؛ كان يزورها بمعية زوجته بيرناديت شيراك كل عام تقريبا، خاصة في عطلة نهاية العام، ويحرص بانتظام على قضاء عيد الميلاد فيها، فقد تعلق بالمدينة لتردده الدائم عليها لزيارة جده المدفون في ترابها. وفي كل نهاية عام، كان سكان مدينة تارودانت في المغرب تغمرهم الفرحة لاستقبال من أطلقوا عليه لقب "الروداني جاك شيراك" نسبة إلى اسم المدينة، الذي يأتي كل عام لإحياء احتفالات عيد الميلاد بالكنيسة الكاثوليكية المتواجدة بحي أقنيس بتارودانت. شيراك يعتبر أكثر الشخصيات الدولية المترددة على مدينة تارودانت، أكثر من نجوم السينما العالميين، حيث يقيم في مزرعة وضعها العاهل المغربي الملك محمد السادس تحت تصرفه؛ أما القداس الديني الذي كان يقيمه فيها فكان يحضره عدد مهم من المواطنين الفرنسيين المقيمين في المدينة، وبعض السياح من الديانة المسيحية، ممن يترددون على المغرب لقضاء عطلة أعياد الميلاد بالمغرب. وتشهد الكنيسة ليلة الاحتفال إجراءات أمنية مشددة، كما أن مراسيم الاحتفال كانت تتسبب في اختناق كبير في حركة المرور، ما يخلف باستمرار موجة استياء لدى سكان المدينة وزوارها لضيق الشوارع والأزقة. ولأن المغرب ظل الوجهة المفضلة للرئيس الفرنسي الأسبق الراحل، كان يستمتع بطبيعته وطقسه الصحو الجميل قبل أن تلم به الوعكة الصحية، وتجبره على مغادرة تارودانت التي عشقها لتلقي العلاج في فرنسا، فخصص الملك محمد السادس طائرة خاصة لنقله إلى باريس، ومع ذلك شغل موضوعه الشارع المغربي الذي يكن الكثير من الود لصديق المملكة الأول في فرنسا. علاقة شيراك مع المغرب والأسرة الملكية تعتبر من أنجح العلاقات في تاريخ المملكة منذ عهد الملك المغربي الراحل الحسن الثاني. وظلت مكانة شيراك محاطة بالتقدير والعناية اللازمة التي يكرم بها الملك محمد السادس ضيف المملكة وحليفها التاريخي في فرنسا. وتعلق قلب الرئيس الفرنسي وزوجته برناديت أيضا بمدينة أكادير الساحلية، التي صار يفضل تمضية أوقاته فيها، بدل سواحل الجنوب الفرنسي، نظرا لجوها الدافئ المناسب لظروف الرئيس الصحية، بالإضافة إلى كرم الضيافة التي يحيطه بها الملك محمد السادس، والتي بلغت حد وضع القصر الملكي في المدينة بكامله تحت تصرفه للإقامة فيه. رحل جاك شيراك "رجل السلام" المثقف، الراقي الذي أحب لبنان والمغرب والإمارات والسعودية ومصر وفلسطين والعراق وكل العالم العربي من قلبه، فدعم القضايا العربية في كل المحافل الدولية، ووقف إلى جانب العالم العربي في أحلك الظروف، فهو الذي حشد الجهود الدولية لإعادة بناء لبنان، ومارس ضغوطا دولية لانسحاب الجيش السوري من لبنان بعد ثلاثين سنة من الاحتلال، ووقف سدا منيعا أمام انفصال الصحراء عن المملكة المغربية، وعارض الغزو الأمريكي البريطاني للعراق وغيرها من القضايا.. رحل رجلٌ عظيمٌ من رجال الجمهورية الخامسة وداعا جاك شيراك.. * صحافي وإعلامي مغربي مقيم في باريس