من الواضح جدا أننا نوجد اليوم أمام دينامية سياسية جديدة، متنوعة ومثيرة للجدل، تتميز بالغليان و الاحتجاجات و الرجات الثورية و ضعف التشكيلات السياسية المنظمة، كنتاج لتحول جذري في زمن يخضع لمتغيرات متعددة، لا يمكن تفسيرها بصورة ميكانيكية، و لا يمكن استثناؤها من تأثير التراكمات { الكمية و الكيفيةّ} الاقتصادية و السياسية و الثقافية، التي قادتنا إلى التحولات الكبرى. وإذا كنا في غالب الأحيان نلجأ إلى الماضي لتفسير كل ما نعجز على فهمه في الحاضر، و نستشهد بالعظماء والزعماء و الأقوياء و الشهداء، فهذا ليس عيبا إذا كنا ننتج أفكارنا حول ظواهر كونية و مقولات إنسانية، بعيدا عن إستراتيجية الهيمنة، و نوجه معرفتنا نحو الإصلاحات الضرورية للمساهمة في تطوير نظرة مستقبلية ندافع من خلالها على اختيارات و مواقف و أهداف مناسبة لزمننا السياسي. إن القلق الذي نعيشه اليوم، ربما قد يكون قلقا ناتجا عن العلاقة بالماضي. ذلك الماضي الذي أسرنا فيه أنفسنا، حتى حرمنا من حريتنا و من كل أنواع الإبداع و امتطاء شهوة الحقيقة. كل واحد منا بات لا يريد رؤية حقيقة الوضع الذي وصلنا إليه، إلا من خلال النفق الذي اعتقلتنا فيه العولمة الاقتصادية،و الهيمنة الأمريكية و اليمين المتطرف و اليسار الراديكالي، و كأننا في لحظة عجز مطلق، غير قادرين على تبني استراتيجيات نوعية لخلق معالم ثقافية و سياسية لبناء مجتمعات جديدة. لقد تميز النصف الثاني من القرن الماضي بظهور حركات اجتماعية جديدة، كحركات الاتحادات الطلابية في العالم، و حركات نسوية، وثقافية و قومية و اثنيه..الخ، كان لها حضورا متميزا في الحياة السياسية، بل كانت أحيانا بمثابة قوى سياسية في حد ذاتها، قريبة من أحزاب و مجموعات سياسية و لوبيات الضغط أحيانا، و متصارعة معها أحيانا أخرى. و كان ينظم لها فئات واسعة، سياسية و غير سياسية بصورة مباشرة، و استطاعت المساهمة فيما يسمى بلغة علم الاجتماع السياسي ب"الإنتاج الذاتي" للمجتمعات الحديثة. ساهمت كذلك في تغيير أنظمة سياسية و اجتماعية بكاملها، حتى باتت تهدد سياسات محلية ودولية برمتها مثل الحركات الاجتماعية في ستينيات القرن الماضي لطلاب بوليفيا و فنيزويلا و كوبا و اليابان و الولاياتالمتحدة {حركة اس دي اس } و أوروبا {ايطاليا و اسبانيا وبرلين تمرد ماي 68 فرنسا} و الصين،الخ. من دون أن ننسى الفوران ألتلاميذي و الطلابي المغربي الذي دام ما يزيد عن عشرين سنة. لكن الإجراءات القمعية قلمت أظافرها و بقيت الأزمة مفتوحة رغم خيبات الأمل. ورغم ما تعرضت له الحركات الاجتماعية الأخر، كحركة السود في الولاياتالمتحدة، و الحركات الديمقراطية الراديكالية في أمريكا اللاتينية، واستمرار الحركات القومية الانفصالية في سكوتلاندا و كيبيك و في جهات أخرى من العالم، ظل هذا "الإنتاج الذاتي" للمجتمعات قادرا على إثارة الحماس و ضمان مشاركة جماهيرية قوية و التزام سياسي متواصل. لم تكن السياسة آنذاك تعني فقط الانتخابات أو الانتماء الحزبي، بل كانت تعني أيضا أن يخترع كل واحد من هؤلاء المستقبل. إن المذهب الذي اخترعت الحركات الاجتماعية في تلك المرحلة كان يدور حول شعار التحرر الوطني، و تحرر النساء والشباب، وحول المدرسة، ضد بنى الرأسمالية و البيروقراطية و الستالينية، وهو ما شعرت بأهميته أعدادا كبيرة من الناس. ورغم ما تلا هذه المرحلة من أزمة وانسداد الآفاق، ظل البحث عن مستقبل ممكن في ظل ثنائية الجذب والصراع بين الحركات الاجتماعية التي استمرت في عدائها للأحزاب السياسية متهمة إياها بالبيروقراطية، وبين الأحزاب السياسية التي كانت تعتبر الحركات الاجتماعية مجرد حركات تشويشية غير مسؤولة. لكن وراء هذه العلاقة الملغومة بينهما كان النقاش يدور حول ما إذا كان التناقض الرئيسي بين الرأسمال والعمل قادرا لوحده أن يخلق الشروط الموضوعية للثورة. لقد ساهمت بعد ذلك أزمة الماركسية بسبب انهيار الإمبراطورية السوفياتية في إزاحة العديد من الأحزاب الشيوعية من الخريطة الحمراء، وانتقال الامبريالية البريطانية إلى الهيمنة الأمريكية و تراجع الإيديولوجيات القائمة على مطلب "إسقاط الدولة البورجوازية"، وانقسام حركة الطبقة العاملة و الاضطراب وعدم الاستقرار والتقلب في تنظيم المصالح السياسية والتعبير عنها من دون أن ننسى التحول الكبير الذي لعب دورا أساسيا في تغير الوعي لدى فئات واسعة من الناس، ألا وهو ثورة العلوم والتقنيات، ما أدى بالفكر الاجتماعي أن يتجاوز مواضيعه الكلاسيكية مثل موضوع العمل و الربح الرأسمالي و الصراع الطبقي. فطالما تم الاعتقاد أن أطروحة ماركس قابلة للتحقيق في جميع الظروف ولدى جميع الأحزاب في العالم، وأن الهندسة المركزية التي كان ماركس مبدعا لها كانت تتوهم بأن الطبقة الوسطى الوضعية، واللائكية والوطنية قادرة على فك ارتباطها من السلطة المركزية التي كانت بين أيدي الأوليغارشية والكنيسة. إن هذا النوع من السلطة لم يتغير بشكل جذري، ففي العديد من دول العالم احتفظت الكنيسة بدورها بل ونسجت تحالفات قوية مع طبقات اجتماعية بما فيها قوى سياسية منحدرة من الحركة العمالية. لكن في أغلب البلدان التي دخلت العالم الصناعي، كان المنظور الاقتصادي هو الذي قادها إلى ذالك. هذه المرحلة يعتقد العديد من المفكرين أنها انتهت خصوصا في روسيا وفي أوروبا التي عانت الكثير من دمار الحرب العالمية الأولى والثانية ومن الفاشية الايطالية والنازية الألمانية باعتبارهما إيديولوجيات الموت، ما أدى إلى ثورات مضادة وضعت حدا لفكرة التقدم الذي يضع ثقته في الاقتصاد. لقد قسمت الثورة الروسية أوروبا إلى قسمين، وأصبح بعدها العالم منغلقا في دكتاتورية رأسمالية، أو لينينية، أو ماوية، وضاعت معها أحلام التطور السريع و تجاوز "الندرة" واستمرار "الوفرة". مرحلة عاشت فيها العلوم الاجتماعية هي الأخرى حصارا موجها بفكر هدام، حيث تم اعتبارها وعيا مزيفا، يجب تكذيبه. وكانت النتيجة قلة المرجعيات العمالية ومرجعيات حركات التحرر والحركة النسائية، وأصبحت كليات العلوم الاجتماعية مهجورة وجانبا مهما من أنشطتها اتجه نحو الفلسفة، والجانب الآخر نحو العلوم الاقتصادية. وبعدها شهد العالم سقوط الأنظمة الشمولية في وسط وشرق أوروبا، والانتشار السريع لتكنولوجيا الإعلام و التواصل، وبدأ رفع الحضر على الفكر الاجتماعي ورفع الحصار على كل ما يحاصر باستمرار كل محاولة إدخال الضوء داخل الوقائع الاجتماعية. اليوم لم تعد الثورة تستهوي أعدادا غفيرة من مؤيديها، والدليل على ذلك هو ما حصل من تقدم في البلدان الصناعية الكبرى والمتوسطة من إصلاحات بفضل أدوات الديمقراطية التمثيلية وتعبيرات الحركات الاجتماعية من أجل الحد من الفوارق وتحقيق العدالة الاجتماعية. لقد أظهرت العديد من الدول الحداثية تقبلها لفكرة التغيير الاجتماعي واستجابتها لحقوق العمال و المستضعفين و تحسين أوضاعهم الاجتماعية والإنسانية، بعد صراعات طبقية مريرة، وهو ما أكد بالملموس أن طريق الإصلاح الاجتماعي اختيار مقبول بدل الاختيار الثوري كما حددت معالمه في الماضي. إن مفهوم الاشتراكية قد فقد الكثير من معناه في المرحلة الحالية رغم التقدم الذي تحقق بفضلها في العديد من المجالات، ورغم دعمها للعديد من الحركات الاجتماعية، لكنها خلفت إرثا ثقيلا ورهنت ممارسته كثيرا بالفكر الشمولي، ومركزية الدولة وتأميم الملكية ورفض كل قوانين السوق الايجابية لصالح تلبية حاجات الطبقة العاملة... إن ما يحدث من حولنا من متغيرات يستدعي التمييز بذكاء بين الإصلاحية اليمينية والإصلاحية اليسارية. الأولى تريد التراجع عن المكتسبات المادية والحقوق الاجتماعية التي تحققت بفضل نضالات الإصلاحية اليسارية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتعتبر الدولة الاجتماعية والمكاسب الاجتماعية، والتشريعات والقوانين، وخاصة تلك المتعلقة بقانون الشغل عثرة في وجه قانون السوق والمنافسة. وهكذا تنخرط الإصلاحية اليمينية في الدفع بالمبادرة الفردية إلى الأمام باسم الحرية على حساب المساواة. أما الإصلاحية اليسارية فتعترف بالسوق وبالمبادرة الفردية لكن ضمن تقويم اجتماعي وليس ميركانتيلي صرف. اليوم لا بد من وقفة تأملية ودراسية من أجل أن نختار بين الحنين للشمولية وبين اللبرالية المتوحشة، وبين نظام العدالة الاجتماعية والمساواة والديمقراطية وضمير المواطنة وشروط أحسن للحياة، وتناغم بين التقدم الاقتصادي والاجتماعي، تلك القيم الكبرى التي نجد مرجعيتها في المساواة و الحرية والتضامن، والتي رسختها العديد من التجارب عبر الحوار الاجتماعي من دون أن ننسى الصراعات الاجتماعية. إن التحول الذي حصل، لم يكن نتيجة أزمة اقتصادية أو اجتماعية حادة. إن ما تغير هو نظرتنا للأشياء، ونوعية الكلمات التي نختارها للحديث عن التحولات التي تفرض علينا في محيطنا. و بالتالي فنحن مطالبين بتغيير منهجيتنا في العمل، لأن الأفكار التي كانت سائدة في الماضي القريب، باتت اليوم تدق الأبواب من دون أي تجاوب معها، وهذا ما زاد من تعميق الهوة التي تفرق بين عالم السياسة والمجتمع وعالم المعرفة والثقافة. إننا نسير اليوم في اتجاه عدم مراقبة الحريات الفردية {الجنسية و غيرها}، والاعتراف بالاختلاف مع حماية الأقلية، والعودة إلى الجماعة، بعدما كنا نعتقد أننا حققنا أشواطا كبيرة في الانتقال إلى المجتمع. كما أن تعريف الخير والشر لم يعد مصدره مؤسسات وقاموس الدين و اللائكية. كل هذه التحولات عنوان لتغيير عام. اليوم ما هو مطلوب هو الاعتراف للأفراد والجماعات بقدرتهم على حمل وتملك القانون الذي يجب أن يعترف بهم ويحترمهم بالقوانين والقيم المنتشرة من خلال المؤسسات. وهذا ما يجعلنا أمام حقوق و مطالب جماعات أو أفراد يطالبون بحقوق تخصهم لوحدهم، ما يجعلنا أمام العودة كذلك للفرد الذي يريد أن يحدد مصيره بنفسه، الفرد الحامل للمشروع و للوعي التشاركي، وليس الفرد الأناني الذي لا يفكر سوى في منفعته المادية. هذا التحول العميق في المجتمع يجعلنا أمام اختيارات ثقافية لها حضورها في الصراعات المجتمعية. ما يحصل اليوم في المغرب لا يبتعد كثيرا عن هذا السياق، حيث حقوق كل المواطنين لم تعد تقبل أي تمطيط أو انتظار، ويبقى النقاش حول التعليم مدخلا أساسيا لفتح الحوار مع الشعب المغربي، وذلك لمنح كل طفل فرصة بناء ذاته، وإلا سنجعل من المدرسة عاملا من عوامل إنتاج اللامساواة و الفوارق الاجتماعية، إن لم نأخذ بعين الاعتبار العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية لكل فرد بعين الاعتبار من أجل مساعدة الضعفاء والمعدومين على التمدرس وفتح المجال لتكافؤ الفرص، فسوف لن يخلق النور أبدا في مغربنا. بعد قضية التعليم، تأتي قضايا كبرى مهمة مثل تبعية المرأة، وإقصاء ثقافات الأقليات الدينية و الثقافية والجنسية. ثم هناك قضية البطالة، ومشاكل التمدرس، ومشاكل التغطية الصحية... فالتاريخ لم يعد سلما نستعمله للوصول، اليوم نحن من يختار بين الحرب وبين السلم، بين اليتوبيا والشعوذة، و بين تطبيق عملي للأفكار من أجل تغيير حياتنا الشخصية والجماعية في ظل الاعتراف بالأفراد كمواطنين متساوين فيما بينهم، لكن مختلفين عن بعضهم البعض. اليوم نعيش نهاية أفكار قديمة، والبعض منا يريد إعادة إنتاجها... اليوم ربما كل فكرة قائمة على الثورة بالعنف من أجل السلطة لم تعد تجد أي إقبال عليها. لكن الفكر الاجتماعي يظل محاصرا من طرف " الأحزاب الوارثة" التي تنتج خطاب الهيمنة على النساء لتحكم سيطرتها على جزء مهم من التنشئة الاجتماعية، وهي التي تجدد و تطور بقاءها اعتمادا على ترجمة تراث السلف، وتحارب بالعنف المادي{كما حصل في الجامعات طوال سنوات الثمانينات و التسعينات} والرمزي كل الأفكار الجديدة. هذه النخبة المهيمنة صنعت مثقفين و"مكونين" لرأي عام يخدم مصالح الدولة القائمة من دون أن تكون الطبقة البورجوازية، أو الشرائح الاجتماعية الأكثر غنى، من يقوم بمهمة نشر تمثلات الحياة الاجتماعية. *أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب بمكناس