هن ثلة من النساء والفتيات من أعمار مختلفة، أتين من بعض الأحياء الشعبية لمدينة تارودانت التاريخية، ومن قرى ومراكز حضرية ناهضة تقع ضواحي حاضرة سوس العالمة، غرضهن المشاركة في احتفال استثنائي طالما تطلعن لرؤيته يتجسد على أرض الواقع. فكرة الاحتفال ظلت تختمر لشهور متتالية، وذلك بتزامن مع مجهود كبير لجمع متون الشعر الغنائي النسائي الروداني الذي يشكل مكونا أساسيا من مكونات الموروث الثقافي اللامادي الغني والمتنوع، الذي تزخر به مدينة تارودانت وضواحيها، والذي ظل مهملا لعقود متتالية حتى كاد يعصف به الزمن في غياهب النسيان. في خضم الزحف الجارف للغناء المبتذل، وطغيان وسائل التواصل الاجتماعي على انشغالات المراهقين والشباب والكهول على حد سواء، وربما حتى وسط فئة عريضة من المتقدمين في السن، بادرت جمعية "بحاير الداليا" للتراث والثقافة برئاسة الشابة هند الحسايني، الطالبة الباحثة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير، بإطلاق مشروع لانتشال هذا الموروث الثقافي من مستنقع اللامبالاة، فكان ميلاد الملتقى الأول للغناء النسائي، المنظم مؤخرا في مدينة تارودانت تحت شعار" من السلف إلى الخلف". على الرغم من كون فاجعة وفاة ثمانية أشخاص في ملعب لكرة القدم بمنطقة تزيرت الجبلية ضواحي تارودانت ألقت بظلالها على المنطقة، كما على الصعيد الوطني، مما أدى إلى إلغاء جميع مظاهر الاحتفال التي كانت مقررة في إطار فعاليات الملتقى، إلا أن تنزيل الشق الثقافي من البرنامج المقرر في إطار هذه التظاهرة كان خير مترجم للأهمية البالغة لمشروع إحياء وتثمين الغناء النسائي في تارودانت وضواحيها. حضرت النسوة المنتسبات لفرقة "بحاير الداليا" للغناء النسائي بتارودانت، اللواتي يحملن نعت "الشيخات"، وعلى رأسهن الممارسة البارزة لهذا الفن الشعبي الأصيل فاطمة تعيسيت، حضرت أيضا المجموعات الغنائية النسائية "الجيلاليات"، و"البناصريات"، و"البرحيليات" (نسبة إلى منطقة أولاد برحيل)، إلى جانب المجموعات النسائية الأخرى المنتمية لمناطق "أحمر سيدي بن ميمون" و"أحمر أيت كروم"، و"أولاد يحيى"، و"أولاد جلال"، وغيرها. تحدثت هؤلاء النسوة بتلقائية متناهية عبرن من خلالها عن الحسرة التي تعتصر قلوبهن جراء ما آلت إليه الفنون الغنائية النسائية التي كاد يطويها النسيان لولا الولع المتجذر في أوساط بعض الأسر التي توارثت هذا الفن جيلا بعد جيل، كما حكت ذلك بعض النسوة اللواتي أدلين بشهادات مؤثرة في شريط وثائقي عرض بالمناسبة. عبرت النساء/الفنانات، سواء في الشريط الوثائقي أو في الشهادات التي أدلين بها، بعفوية قل نظيرها، عما كابدنه من عناء وحرقة من أجل الاستمرار في إقامة جلسات للغناء النسائي، خاصة منها تلك التي يتزامن تنظيمها مع منتصف شهر رمضان الأبرك، مع ما يستوجب ذلك من تكاليف مادية غالبا ما كن يقترضن لتوفيرها، بالرغم مما يترتب عن ذلك من إثقال كاهلهن بالديون التي قد يطول أمد تأديتها إلى حين اقتراب موعد حفل السنة الموالية. كشفت شهادات النسوة أيضا الصعوبات المختلفة التي كانت تقف حجر عثرة أمام الحفاظ على الموروث الغنائي النسائي وإحيائه، من قبيل صعوبة التلقين الشفاهي من الفم إلى الأذن، حيث كانت المتون الزجلية تنقل من الجدات إلى الأمهات أو إلى الحفيدات، وانتظار حلول المناسبات الدينية أو بعض المناسبات الأسرية ليلتئم جمع النساء الذي كان ومازال يشكل المناسبة الأساسية لتنظيم جلسات الغناء النسائي. وبالرغم من كل هذه الصعوبات، لم يخل اللقاء الثقافي المنظم في إطار فعاليات الملتقى الأول للغناء النسائي بتارودانت من حديث متفائل حول بارقة الأمل الكبير الذي فتحه المشروع الرائد الذي تقف وراءه جمعية "بحاير الداليا"، والذي يستفيد من دعم الصندوق الدولي للثقافة والتراث، التابع لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، وكذا من طرف وزارة الثقافة والاتصال قطاع الثقافة. ومن أولى تمرات هذا المشروع، الذي يروم جمع وتحقيق وتوثيق المتون الزجلية للغناء النسائي في تارودانت وضواحيها، صدور كتاب بعنوان "روح أبراز، كنوز من تاريخ رودانة" من توقيع الأستاذ حسن الناصيري والباحثة هند الحسايني، ساهمت في جمعه ثلة من الطالبات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير، إلى جانب نخبة من النساء المنشدات من أعمار مختلفة. وإذا كان صدور هذا الكتاب بمثابة نفض لغبار النسيان عن الغناء النسائي في تارودانت وضواحيها، باعتباره أحد مكونات الموروث الثقافي والفني اللامادي لحاضرة سوس، إلى جانب فنون "الدقة"، و"حمادة" و"عبيد كناوة" و"أحواش" و"تاسكوين" وغيرها، فإن هذه الباكورة تشكل توطئة للانطلاق بهذا الموروث الثقافي والفني من ضيق المحلية نحو آفاق عالمية، لاسيما بعدما اجتاز هذا المشروع خطوات كبيرة أصبح معها مؤهلا ليندرج ضمن قائمة التراث اللامادي الإنساني المعتمدة من طرف اليونسكو. *و.م.ع