بالنظر إلى تاريخ الصراع الإسلامي الصهيوني الذي شهدته أرض فلسطين وما يجاورها، نلمس الاستعلاء الصهيوني المستقوي بالقوى الغربية البريطانية ثم الأمريكية وغيرهما، صراع لم يعرف في العقود الماضية أدنى توازن بين طرفيه، حيث كانت جيوش الأنظمة العربية تعيش تحت نير الاستعمار، ومن حاز على الاستقلال كان ذا جيش هش لا يستطيع مواجهة عدو متوحش يحمل في جيناته كل خلايا الفاشية. أما المقاومة الشعبية، فلا ننكر جهودها الجنينية الأولى، إلا أنها كانت ضعيفة، يقودها عز الدين القسام وخلايا الإخوان المسلمين وغيرهم. استمر الضعف في الصف الإسلامي طيلة الستينيات والسبعينيات وجزء من الثمانينيات، وفي المقابل، عرفت الحركة الصهيوينة قوة وطغيانا خارقا لكل الأعراف والقوانين، من حيث التقتيل والتهجير والتوسع في أراضي الجوار المستباح. منذ نهاية الثمانينيات، عرفت المقاومة العربية تطورا ملحوظا، إن على مستوى جنوبلبنان أو على مستوى فلسطين، حيث اشتعلت الانتفاضة التي أقلقت جنود الاحتلال ومستوطنيه، وأفقدتهم لذة الحياة. لم تجد المقاومة الحقيقية دعما قويا من أغلب الأنظمة العربية والإسلامية، بل مع الأسف، وقفت تلك الأنظمة ضد عملياتها، وانخرطت مع القوى الغربية ضد العمليات الاستشهادية التي شكلت تحولا نوعيا في الصراع، وعقد قادة العالم كله مؤتمر شرم الشيخ الشهير ضد الإرهاب. في هذا السياق، انقلبت هوية الكيان الصهيوني الغاصب، من دولة توسعية، إلى دولة انكماشية، حيث فقَدَ –اضطرارا لا اختيارا- قطاع غزة والضفة الغربية، إضافة إلى اندحاره من جنوبلبنان قبل الموعد المحدد، كل ذلك بفعل قوة المقاومة وعزيمتها التي لا تلين. رغم الانكماش الذي عرفه الكيان التوسعي، فإنه كان يحافظ على كبريائه، وكان ناجحا في تسويق جيشه ومعداته بكونه الجيش الذي لا يقهر، لذا كان لا يسمح للمقاومة بأن تتجاوز الحدود، فكان يرد الصاع صاعين إذا مُسَّ في "أرضه" أو في عنصر من عناصره، وكان يحرق الأرض ومن عليها. لكن الأمور تغيرت في الحقبة الأخيرة، خصوصا في الحرب الأخيرة مع غزة، وفي حرب تموز مع حزب الله بلبنان، حيث ذاق الكيان الصهيوني من المآسي ما لم يذقه في تاريخه، ومرغت كرامته في التراب، بل تطور الأمر إلى أفظع من هذا، وهو ما تجلى في الآتي: 1 - الهدنة المفاجئة في غزة في أول أيام رمضان 1440/2019، وموافقة إسرائيل على شروط المقاومة، بوساطة مصرية لإدخال الدعم القطري. رغم الشعارات التي رفعها نتنياهو والدعم العلني الذي حظي به من ترامب، إلا أن الكواليس كانت على العكس من ذلك، حيث فوجئ الكيان الغاصب بتوقيت ضربة المقاومة، ففضلت أمريكا وإسرائيل التهدئة، لذا عملا على إنجاح مهمة الوسيط المصري. 2 - إسقاط حزب الله لطائرة إسرائيلية مسيرة في شتنبر 2019، وبعد يوم واحد، أسقطت كتائب القسام طائرة مسيرة ثانية في غزة، وهذه الطائرات تستعمل للتجسس، لأنها مزودة بكاميرات عالية الدقة، كما تستعمل للاغتيال والتفجير. وعملية إسقاط الطائرات الإسرائيلية تعدُّ معاملا جديدا في معادلة الصراع مع العدو، لم تكن في السابق. وقد أحدث ذلك مفاجأة في الأوساط العالمية. 3 - لم يبق حزب الله مكتوف الأيدي أمام توغل الطائرة الإسرائيلية للأراضي اللبنانية، واعتبر ذلك بمثابة إعلان حرب، وردّ في العمق الصهيوني بضرب آلية عسكرية في أفيفيم. هذه العملية وحدها، يجب التوقف عندها لدراستها وقراءة مؤشرات التحول في الصراع: أولا: حزب الله لم يكتف بالتنديد الخطابي، وبادر إلى الرد العسكري. ثانيا: لم يكن ردّ المقاومة على شكل ضرب المصالح الصهيونية في لبنان أو في منطقة أخرى في العالم، بل كان في العمق الإسرائيلي. ثالثا: وهذا هو الأهم، لم يكن باستطاعة إسرائيل أن تترك حزب الله دون رد، لكنها في الوقت نفسه لا تستطيع الرد كما تعودت في السابق، لأنها قد تتحكم في بداية المعركة، ولا تستطيع التحكم في إنهائها، خصوصا أنها في فترة انتخابات، وأن خصوم نتنياهو له بالمرصاد في الحالتين معا، في حالة عدم الرد، قد يستثمرون ضعفه ضده. وفي حالة الرد، قد يستثمرون الضحايا الذين سيسقطون ضده. لكن، ما العمل؟ رابعا: لم يكن أمام "الغطرسة" الصهيونية إلا الرد بواسطة مائة قذيفة في الأراضي الخلاء، حيث لم يقع جراءها أي ضحية. بخلاف ردود الصهاينة السابقة، التي تدمر الأرض والنسل. هذه المؤشرات كلها، تدل على توازن جديد بين المقاومة والعدو، أو يمكن أن نقول بأن العدو عرف ضعفا ملحوظا مقارنة مع ماضيه، وأن المقاومة عرفت تقدما نوعيا مقارنة مع ماضيها. هذه المعطيات الميدانية، يجب ألا نستحضرها وحدها، بل يجب ان نستحضرها مع ما يقع في الساحة السياسية العالمية من أحداث ذات صلة بالقضية، مثل خضوع بريطانيالإيران وإطلاق ناقلتها النفطية المحتجزة في جبل طارق، وكذا إسقاط إيران لطائرة تجسس مسيرة تابعة للجيش الأمريكي، وهذه العملية وحدها يجب أن نقرأها وفق الآتي: أولا: لا تمتلك أية دولة في منطقة الخليج أو الشرق الأوسط الجسارة على مس أية آلية أمريكية بأذى، لذا كان إسقاط الطائرة رسالة قوية لأمريكا الراعي الرسمي لإسرائيل. ثانيا: لم تردّ أمريكا على هذه العملية بأي اعتداء عسكري، مثل ما مارسته في السابق على ليبيا أو على العراق. مما يعني الإقرار بتفوق معين لإيران، وأن القيام بعمل عسكري ضدها ليس فسحة للعم سام. بناء على هذه المعطيات، نخلص إلى أن تحولا عميقا وقع في موازين القوى في الشرق الأوسط، يفرض علينا التنبه إليه، واستثماره ودعمه. زوال إسرائيل: إلى مرج الزهور، أُبْعِد الشيخ بسام جرار سنة 1992 رفقة عدد من القيادات الفلسطينية الإسلامية، وهناك تأمل في القرآن الكريم، واستنبط بقراءة حسابية من عدد حروف آيات بعينها نبوءة زوال إسرائيل سنة 2022، وهي النبوءة التي سرت بذكرها الركبان. لم يكن الإمام المجاهد سيدي أحمد ياسين يتحدث عن مجرد زوال إسرائيل، بل كان يتحدث بوثوقية عن قرب زوالها، وصرح بذلك أكثر من مرة بعد الخروج من سجون الاحتلال في أكتوبر 1997، بناء على تأمل سَنني في القرآن الكريم، ملخصه أن الله تعالى وضع للشعوب والأمم موازين وقوانين، منها أن تغير الأجيال في الأمم والشعوب يتم في 40 سنة، وقد وقع ذلك في فلسطين في السابق، لما أمر الله بني إسرائيل بالدخول، رفضوا، وقالوا لموسى: "فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ". وبعد الأربعين سنة، تغير الجيل الجبان، وظهر جيل آخر قوي. والشعب الفلسطيني في 1948 هزم وضاعت معظم بلاده وشرد، وفي 1987 بعد أربعين سنة، دخل معركة جديدة في الانتفاضة غيرت المعادلة وأصبحت الموازين التي تراها. وبعد أربعين سنة أخرى، أي حوالي 2027، سيقوم الشعب الفلسطيني بتحرير أرضه. بعيدا عن حسابات الشيخ جرار، أو تأملات الشيخ ياسين، وبعد استحضار المعطيات السابقة، مثل انكماش إسرائيل، وقوة المقاومة، وتغير موازين القوى الإقليمية والعالمية، وبعد استحضار السنن الكونية في اندحار جميع أنواع الاحتلال ولو طال الزمن، يمكن لنا أن نطمئن إلى تحقق زوال إسرائيل، وهو ما يحتم على الفاعلين العرب والمسلمين أن ينخرطوا في هذا الورش، وأن ينالوا شرف المشاركة فيه، وذلك من خلال وضع خطط عملية لتحقيقه، كما وضع الصهاينة الأوائل خططهم العملية لتأسيس دولتهم. خارطة طريق نعترف في هذا المقام بالجهود الجبارة التي تقوم بها حركات المقاومة الوطنية والإسلامية بفصائلها المتنوعة والمتعددة، إلا أن عملها الدؤوب والبطولي لا بد أن يعرف حاضنة سياسية ومجتمعية من الأمة، وهو ما ينبغي استحضاره في هذه المرحلة الدقيقة من الصراع، حيث يجمل بالجمعيات والأحزاب والهيآت الوطنية والإسلامية في عموم العالم الإسلامي، وفي ديار المهاجَر، أن تستحضر القضية الفلسطينية بأفق إزالة إسرائيل، وأن تسطر برنامجا نضاليا متعدد الجوانب، على المستويات الثقافية والإعلامية والسياسية والرياضية وغيرها. أقول هذا وأسطره لأن القضية الفلسطينية والتفاعل معها عرف فتورا في العالم الإسلامي منذ الربيع العربي 2011، حيث انغمست الفعاليات المجتمعية في الحراكات القطرية وما تلاها من ارتدادات وثورات مضادة، أنهكت القوى، وأربكت الحسابات. ينبغي للفعاليات المجتمعية المرتبطة بقضايا الأمة وهمومها تكثيف الجهود أكثر من أجل إرجاع القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمامات، وذلك وفق أجندة مضبوطة ومحكمة لكل تنظيم أو هيأة على حدة، مع التنسيق بينها في خارطة طريق موحدة، يمكن أن تبدع فيها طرائق وأشكالا لم تعهدها، خصوصا أن الوضعية الحالية أفضل بكثير من السابق، لأن وسائل الإعلام كانت في العقود السابقة تُحكِم حصارها على الفعاليات المرتبطة بالقضية، وهذا ما صار متجاوزا اليوم، بفعل وجود وسائط التواصل الاجتماعي المساعدة على البث الحي أو غيره. ومن القضايا التي لا يجوز إغفالها في العمل المنظم الهادف إلى إزالة إسرائيل من الوجود: ضرورة الانفتاح على اليهود غير الصهاينة والتعاون معهم، مثل منظمة ناطوري كارتا التي تنادي بضرورة إزالة دولة إسرائيل، ومثل بعض الرموز والشخصيات الموجودة في العالم العربي، مثل سيون أسيدون في المغرب. ولا ينبغي أن تكون العلاقة مع هؤلاء مجرد علاقة تكتيكية، بل يجب تعميقها وترسيخها لأنهم من أهل الكتاب الذين أمرنا أن نتعامل معهم كما نتعامل مع سائر المسلمين بالقسط والبر "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ". التعريف بحركة مقاطعة إسرائيل (BDS)، وهي حركة عالمية، تنشط بالأساس في أوربا وكندا، وتنخرط فيها كبار الشخصيات العلمية والثقافية والرياضية، بل تعدت الأشخاص إلى مؤسسات أكاديمية كبرى ومرموقة ذات إشعاع عالمي، وقد أثمرت دينامية هذه الحركة عزل إسرائيل ثقافيا وسياسيا واقتصاديا في بعض الأحيان، لدرجة أن إسرائيل باتت تعتبر هذه الحركة من أهم الأخطار التي تحدق بها... هذه الحركة ينبغي التعريف بها وتقريب نضالها إلى الشعوب العربية ليعرف العامة قبل الخاصة أن إسرائيل كيان منبوذ عالميا وليس إقليميا فحسب. أهمية الاعتماد على معجم خاص أثناء الحديث عن الكيان الصهيوني، مثل : الكيان الغاصب، السرطان، الشر المطلق، الكيان العنصري، الدولة الإرهابية، الكيان الفاشي، إلخ، ويمكن إيراد نصوص الغربيين الذين يتحدثون عن فاشية هذا الكيان وإرهابه، بل إن اليهود أنفسهم يعتبرون دولة إسرائيل كيانا فاشيا، مثل جماعة Hashomer Hatzair التي أعلنت في اجتماع للهاجانا سنة 1946: "النازي نازي، سواء أكان يهوديا أم غير يهودي، وإنه لشعور زائف عند اليهود أن يدينوا النازية ويرضوا بالفاشية اليهودية". وينبغي ألا نستهين بالحرب المعجمية، لأن لها أثرا في تكوين الوعي الجمعي للمواطن العربي، كما لها أثر سلبي بالغ على شعور ووجدان الصهاينة. تجنب الحديث عن عملية السلام، وجعْل ذلك سيمفونية خاصة للأنظمة العربية، وينبغي التذكير بأن القضية الفلسطينية لم تستفد شيئا مما يسمى عمليات السلام، يقول الكاتب الأمريكي توماس سواريز في خاتمة كتابه (دولة الإرهاب): "عندما يُطلب من الفلسطينيين أن يتنازلوا، فإن ما يعنيه ذلك أن يُعطوا أكثر مما أعطوا، ولكن ما دام الهدف السياسي الصهيوني الأصلي الذي لا يقبل التغيير لم يتحقق بكامله بعد، فإن [عملية السلام ليست سوى خدعة لكسب الوقت] كما كانت دائما، أما الحل فيتطلب تفكيك الظلم، ليس بالعودة إلى العام 1967، بل إلى العام 1947". عدم إغفال الجانب الفني، مثل المقاطع المسرحية القصيرة، ونشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكذا المقطوعات التي تتغنى بالقضية وبالأمل في إنهائها، والرسم الكاريكاتوري وغيره، والقصائد الشعرية. تنظيم دوريات في شتى أنواع الرياضات تحت يافطات القضية، وتخصيص جوائز محفزة للمشاركين والفائزين. اليقظة ضد كل أنواع التطبيع مع الكيان العنصري، ومحاربتها وفضحها. دون أن ننسى فعاليات أخرى ذات أهمية بالغة، كخطب الجمعة ودروس الوعظ والإرشاد، والأنشطة الطلابية الدورية. بهذه الفعاليات التي يمكن برمجتها في كل بلد ومحلة صغيرة أو كبيرة، نرجع للقضية راهنيتها، حتى يستمر الوعي بها، ويسهم كل من جهته وموقعه في شرف إزالة كابوس اسمه إسرائيل، يرون ذلك بعيدا، ونراه قريبا إن شاء الله تعالى.