من الشائع القول إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. وهذا ما يعرف بمبدأ "قرينة البراءة"، الذي ينص عليه الدستور وقانون المسطرة الجنائيّة؛ لكن لو أردنا أن نشرح هذا المبدأ بدقة رجال القانون وبعض الفقه لقلنا: إن المتهم بريء ليس لأنه لم يجرم؛ بل لأن الأدلة غير كافية لاتهامه وإدانته، فقد يكون مجرماً ولكن لا توجد أدلة تدينه. أمّا "البراءة المطلقة"، فليست مطروحة أمام بعض الأجهزة القضائية التي يقتضي عملها أن تنظر بعين الاتهام للمشتبه به؛ وهذا عمل الشرطة القضائيّة والنيابة العامّة. وبالتّالي؛ فإن من يطلب من وكيل الملك ألا يتهم أحداً، كمن يطلب منه ألا يقوم بمهمته؛ فالنيابة العامة تظلّ خصماً، إلا أنّها "خصم شريف"؛ لأنها تنوب عن المجتمع، وترفع الدعوى العمومية من أجل صيانة القانون وتطبيقه. بيد أن الشرطة القضائية تقع في الخطأ حين تقتفي أثر فرضية واحدة بعينها، في حين أنه ينبغي عليها أن تجمع مختلف الأدلة وتترك ترجيح الفرضية الأكثر احتمالاً لقاضي التحقيق [الحسين شمس الدين، الخطأ القضائي في المادة الجنائية، دار الآفاق المغربية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2019، ص: 63]. وفي جميع الأحوال، فإن المتهم غير مطلوب منه أن يأتي بأدلة براءته، لأن البراءة هي الأصل؛ لكن على النيابة العامة أن تأتي بأدلة الإدانة للمحكمة، وعلى المتهم أن يبين تهافت هذه الأدلة وعدم قوتها، ودائما الأفضلية تكون للمتهم، لأن الشك يفسر لصالحه خدمة لمبدأ " قرينة البراءة". إن النيابة العامّة هيئة تدافع عن الحقّ العام، وهي هيئة تتشكل من قضاة ويطلق عليها الفقه تميزاً لها عن هيئة قضاة الأحكام أو القضاء الجالس بالقضاء الواقف. وقد كانت سابقاً تمثل السّلطة التنفيذيّة، وكان وزير العدل هو رئيسها الأعلى. وهكذا كنا أمام إشكال قانوني، إذ كيف يكون القضاء مستقلاً وفقاً لما جاء في أسمى القوانين وهو الدستور والنيابة العامة خاضعة للسلطة التنفيذية؟ وقد جاء الحل بخلق مؤسسة رئاسة النيابة العامة التي يتولاها الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض. جاء في المادة الأولى من القانون المتعلق بنقل اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ما يلي: "تطبيقاً لمقتضيات المادة 25 من القانون التنظيمي رقم 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة يمارس الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بصفته رئيساً للنيابة العامة، سلطته على قضاة النيابة العامة التابعين له بمختلف محاكم المملكة. وفي هذا الإطار، يمارس قضاة النيابة العامة مهامهم واختصاصاتهم المنصوص عليها في التشريعات الجاري بها العمل تحت سلطة وإشراف ومراقبة رئيس النيابة العامة ورؤسائهم التسلسليين". كما نصّت المادة الثانية من القانون نفسه على أن رئيس النيابة العامة يحل محل وزير العدل في ممارسة الاختصاصات الموكولة لهذا الأخير المتعلقة بسلطته على النيابة العامة. وهكذا، أصبح رئيس النيابة العامة هو المشرف الوحيد على عمل النيابة العامة، وعلى مراقبتها وتتبع عملها في إطار احترام مضامين السياسة الجنائيّة؛ غير أنه يحق لنا أن نتساءل: من يمكنه أن يسائل النيابة العامة على ممارستها وعن عملها في المادة الجنائية؟ سابقاً، كانت النيابة العامة خاضعة لوزير العدل، وكانت المساءلة تأتي من السلطة التشريعية، وربما كانت هذه المساءلة من المسائل الإيجابية القليلة في خضوع النيابة العامة لوزير العدل، على الرغم من أنها كانت تخل بمبدأ استقلال السلطة القضائية الذي نص عليه الفصل 107 من الدستور. أما اليوم، فسؤال المساءلة عن الأخطاء التي قد تقع في تتبع السياسة الجنائية يفرض نفسه بقوّة، خاصة أن هذه المساءلة لم تعد بيد ممثلي الأمة تحت قبة البرلمان. نقطة أخرى؛ يورد الأستاذ الحسين شمس الدين في كتابه المشار إليه أعلاه أن العدالة لا تحب الاعتراف بأخطائها، لأن الاعتراف يمس بهيبتها. ففي فرنسا مثلا، لم يتم الإقرار رسمياً إلا بأقل من عشرة أخطاء قضائية فقط خلال سبعين سنة. وحين تسيس قضية أو يسيس فعل جرمي من الممكن أن يقع فيه أي شخص بحكم أن الإنسان غير معصوم من الوقوع في الجرمية كما يؤكد علماء الإجرام فإن الخاسر الوحيد هو المتهم؛ لأن العدالة في هذه الحالة تُوقَعُ في الخطأ، بسبب كثرة الأقاويل والضغوطات والشائعات التي يشكلها الرأي العام. وهنا تظهر خطورة الرأي العام، وقدرته على تضليل العدالة. قال المحامي بول لومبار: "لا تسمعوا إلى الرأي الذي يطرق باب هذه القاعة، إنه عاهر تجذب القاضي من الكم، يجب طرده من القاعة"، ثم يؤكد أن الرأي العام عندما يدخل إلى المحكمة فإن العدالة تخرج منها. هذا وقد قيل: كل معلق صحافي هو ادعاء عام [المرجع السابق، ص ص: 49 50]. إن الرأي العام، في تقديرينا، يؤثر سلباً على الكثير من القضايا، خصوصاً عندما تُتَناول هذه القضايا من الناحية السياسية وليس من الناحية القانونية. اليوم، ونحن أمام قضية الصحافية هاجر الريسوني وعلاقتها بجريمة الإجهاض، نكون أمام دعويين: دعوى تشكك في موقف النيابة العامة وتعتبره موقفاً سياسياً وترى بأن الصحافية مجرد ضحية تعاطفها مع توجه سياسي معين، ودعوى ثانية تؤكد وقوع الجريمة وتسعى إلى إثباتها من خلال الأدلة. وبين الدعويين توجد تيارات سياسية وأفراد مستقلون وإعلام وصحافة... وكل هؤلاء يعبرون عن مواقفهم من القضية، فيقف بعضهم مدافعاً عن دعوى ضد دعوى أخرى. والواقع، وكما جاء في الفقه الجنائي، أن لا أحد متأكد بشكل يقيني من وقوع الجريمة أو عدم وقوعها سوى الشخص الذي اتهم بها؛ فالحقيقة في الادعاء الجنائي محمولة في صدر المتهم وحده. أما الشاهد الذي لا تخطيء شهادته فهو شاهد صامت، إنه مسرح الجريمة. وبالتالي؛ فالمهمة الأصعب بيد القضاء هي مهمة اكتشاف الحقيقة، وإذا كانت مهمة القضاء الواقف هي الاتهام والإدانة من أجل الدفاع عن الحق العام ومن أجل احترام القانون، فإن مهمة القضاء الجالس هو إصدار الحكم العادل، وهذا يقتضي منه أن يفكر في القضية بشكل متأن، وأن يحدد من المتهم الرئيسي فيها ومن المساهم والمشارك... وللأسف، فكثيراً ما يختفي منطق القانون وصوته أمام السياسة وأمام الفتنة التي تخلقها. *مجاز في القانون الخاص جامعة عبد المالك السعدي/ تطوان