في الثاني من شتنبر الجاري، قام بابا الفاتيكان بيرغوليو فرانسيس بتعيين 13 كاردينالا جديدا، ينتمون إلى العديد من دول العالم، عشرة منهم لهم حق التصويت على البابا المقبل؛ وهو التعيين الذي لم يمر مرور الكرام، بل أخذ حيزا مهما من التحليل والشرح من طرف العديد من المحللين، بدءا من توقيت التعيين ووصولا إلى بْرُوفايلات الكرادلة الجُدُد، وهو الأمر الذي حمل معه العديد من التأويلات والكثير من الرسائل المُشفرة. إن التعيين جاء في يوم صادف اليوم العالمي للصلاة أي ثاني شتنبر، وهو تاريخ غير بعيد عن انطلاق الجولة الرسولية لبابا الفاتيكان لإفريقيا من 4 شتنبر إلى 10 منه، والتي ستشمل دول كل من مدغشقر وجزر موريس والموزمبيق، هذه الأخيرة تعيش على اتفاق سلام هش وأيام حملات انتخابية في بلد افريقي مزقته ظروف طبيعية قاسية ونزاعات مسلحة دامت أربعين سنة. كما أن التعيين الرسمي للكرادلة الجُدد أصحاب القبعات الحمراء سيتم يوم 5 أكتوبر 2019، أي مباشرة بعد يوم واحد من أشغال اجتماع سيُخصص للحديث عن الأمازون كرئة العالم. كما سبق أن أعلن البابا فرانسيس إقامة قُداس صلاة خاصة للمهاجرين الفارين من الحروب من أجل مستقبل أفضل سواء في أوروبا أو أمريكا، يوم 29 شتنبر الحالي. لقد رسمتْ رسائل تعيينات القبعات الحمراء الجُدد رغبة الفاتيكان في الحفاظ على توازناته على المستوى العالمي من خلال تعيين أساقفة من دول الجنوب (الكونغو وكوبا وغواتيمالا واندونيسيا...) وكذا ترسيخ عالمية الكنيسة الكاثوليكية، والاهتمام أكثر بمشاكل دول الجنوب من خلال طرح ملفات الهجرة واللجوء والتغيرات المناخية وحوار الأديان وخاصة مع الاسلام. ويظهر هذا التوجه من خلال "بْرُوفيلات " الكرادلة الجُدُد واشتغالهم على محاور استقبال المهاجرين والاهتمام بالفئات الهشة في مجتمعاتهم، ودفاعهم عن رفع الحدود أمام المهاجرين، وعن ملفات البيئة والتغييرات المناخية وأيضا تشجيع حوار الأديان. وتكفي إطلالة خفيفة على لائحة الكرادلة الجُدُد، حيث نجد بينهم رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان، وآخر عن الدائرة الفاتيكانية للتنمية البشرية المتكاملة وغيرهم. ومن جهة أخرى، فقد أجمع العديد من المراقبين على أن البابا بيرْغُولْيُو فرانسيس قد قلب موازين اختيار بابا الفاتيكان المقبل بتعيينه لعينة من الكرادلة لها الانشغالات نفسها وتدافع على ترسيخ نفس المبادئ، (أي الانفتاح على حوار الأديان والمهاجرين والبيئة)، ضد تيار العنصرية وسياسة الحمائية الوطنية، وسيصبح «تيار الانفتاح» يتوفر على قوة عددية بحيث يُشكلون الآن 52 في المائة من الجسم الناخب (الكرادلة) لبابا الفاتيكان المقبل. تعيينات بدلالات كثيرة كالثمانيني مونسنيور مايكل لويس فيزغجيرالد، الذي سبق للبابا بينيديث السادس عشر أن أبعده سنة 2006 من محيطه، وأيضا رئيس أساقفة بولونيا المونسنيور ماتيو ماريا زوبي المعروف بقربه للمهاجرين ودفاعه عن حوار الأديان خاصة مع الإسلام، وهو أيضا مسؤول وناشط في "جمعية سان إيجيدْيُو"؛ وأسقف بُولونيا هذا يجد نفسه في تماه تام مع توجهات البابا فرانسيس خاصة في القضايا ذات الطابع الاجتماعي. كما أن تعيين المونسنيور ماتيو زوبي، وهو الإيطالي الوحيد، ضمن الكرادلة الجدد يشكل انتصارا لجمعية «سان إيجيدْيُو» وما تقوم به منذ تأسيسها سنة 1968 بروما من أعمال اجتماعية وأعمال الوساطة لحل النزاعات المسلحة في أكثر من مكان في العالم بالجزائر وكوسوفو وإفريقيا الوسطى، بالإضافة إلى تنظيم لقاءات دينية وتقديم خدمات إنسانية خاصة للمهاجرين. بالإضافة إلى ذلك، إن تعيين الإيطالي مونسنيور ماتيو زوبي جاء لتعويض الكاردينال كارلو كافارا المتوفى سنة 2017 والذي كان يُمثل إلى جانب كل من رايْمُونْد بْروك وفالتير برامولير وجُواكيم ميزينر، تيارا معارضا لتوجهات بابا الفاتيكان فرانسيس بيرغوليُو؛ مما يؤكد نية البابا فرانسيس في تغليب تيار الانفتاح على المهاجرين وعلى حوار الأديان والحفاظ على البيئة، في مواجهة تيار المحافظين المتشددين داخل أسوار الفاتيكان بروما وأيضا في التأثير في اختيار بابا الفاتيكان في المستقبل. ومن بين المعينين الجُدد، نجد مونسنيور كريستوبال لوبيز رُوميورُو، وهو رئيس أساقفة الرباط بالمغرب، وهو ينتمي إلى "مجتمع ساليسيان “ الذي أسسه سان جُون بُوسْكو سنة 1859، وهو مجتمع أو عائلة تهتم بالتربية وتعليم الشباب والتكوين المهني والفلاحي. وقد تعرف المغاربة على مونسنيور روميرو أثناء زيارة البابا فرانسيس الأخيرة للمغرب في مارس الماضي، كما عُرف باهتمامه بحوار الأديان ومتابعته لوضعية مُهاجري جنوب الصحراء بالمغرب. لكل هذا، فإن هندسة التعيينات الأخيرة لحاملي القبعات الحمراء بالفاتيكان يوم 2 شتنبر كانت دقيقة في اختياراتها ورسمت معالم أولويات المرحلة القادمة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ورسمت أيضا ملامح البابا القادم أو الساكن في القصر البابوي بروما بعد فرانسيس بيرغوليو. وقد اعتبرت هذه التعيينات ضمنيا بمثابة رد على كل هجمات معارضيه داخل الأوساط الكاثوليكية، كما استغل الإصدار الأخير للكاتب والصحافي الفرنسي بجريدة "لاكروا" نيكولا سنيزي بعنوان «كيف تُريد أمريكا تغيير البابا» للرد على منتقديه وهو في طريق رحلته نحو إفريقيا يوم 4 شتنبر بالقول "إنه لشرف لي أن يهاجمني الأمريكيون". ويظهر أن هاجس "عالمية الكاثوليكية " وترتيب البيت البابوي الداخلي في المستقبل يشغل بال مهندسي سياسات الفاتيكان، سواء من خلال تعيينات الكرادلة الجُدد، أو من خلال برمجة زيارة البابا للإمارات في فبراير 2019، ثم المغرب في مارس من السنة نفسها مع حرص البابا على زيارة معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، باعتباره مصدرا لنموذج منفتح ووسطي يحترم قواسم العيش المشترك؛ وهو ما جعل الحبر الأعظم يقول "إننا ندرك في الواقع مدى أهمية التنشئة الملائمة للقادة الدينيين في المستقبل"، وهو الأمر الذي يُؤهل المغرب أن يكون شريكا قويا سواء للفاتيكان أو لغيره من المؤسسات الدولية في مجال حوار الأديان، ولاعبا رئيسيا لحل معضلات الهجرة والتغييرات المناخية.