من هو الصحافي؟ هل يحدد باعتماد ما ينص عليه قانون الصحافي المهني؟ وبأي معيار يمكننا أن نحدد الصحافي من غيره؟ وهل الصحافي هو نفسه في أي زمان وفي أي مكان؟ هل له السلطة الرمزية نفسها رغم اختلاف وسائل التعبير الإعلامي والتقني؟. وأكثر من ذلك، هل الصحافي هو ذاك الذي يحرر المادة الخبرية بتوظيف خبرته ومعرفته بحدود وطبيعة الأجناس الصحافية؟. أم يمكننا أن نعتبر كل من يشتغل في حقل الصحافة والإعلام والتواصل صحفيا؟. هل الصحافي هو ذاك المرتبط بخصوصية عمله أولا، وبالأسئلة الحارقة المطروحة عليه، والمرتبطة بالقضايا المجتمعية الأخرى؟. انها مجرد تساؤلات، تخرج عن النطاق الضيق للتعريف الذي ينص عليه قانون الصحافي المهني. وما يزيد من صعوبة الإجابة على هذه التساؤلات- وإن كنا نعتقد أن وظيفة الصحافي طرح الأسئلة وليس الإجابة عنها - ارتباط مهنة الصحافة بحقول أخرى، منها ما هو حقوقي وسياسي وقانوني وأخلاقي؛ وهو الأمر الذي جعل ممارسة المهنة تظل تعبيرا حقيقيا عن مدى قوة وهشاشة فضاء الحرية في بلد من البلدان. غير أن هناك من الإعلاميين من يرى أنه إذا كان الصحافي "موظفا" فإنما يتعين أن يكون موظفا للبحث عن الحقيقة أولا، الحقيقة في أبعادها النسبية، المتعددة والمفتوحة على كل احتمال، باعتبار أنه ليست هناك حقيقة واحدة مطلقة، وليست هناك حقائق لا تتعرض للتغير والتحويل. وبخصوص وظائف الصحافي ومهامه فهناك من يرى أن المطلوب من الصحافي هو أن يحوّل وقائع المجتمع وتجاربه الإنسانية إلى معطيات خبرية، مثلما ينتظر منه أن "يناضل" من أجل الحصول المعلومات والأخبار وتعميمها على الملأ، لكي يتمكن من إدماج الأفراد والجماعات في سياقات الحياة وسيرورتها؛ ويساعدهم بالتالي على تشكيل آراءهم واتجاهاتهم. فإذا أتيح للصحفي في بلد ديمقراطي مناخ حر لممارسة عمله باستقلالية، فإن هذه الحرية لن تكون حرية كاملة، طالما ظلت مسيجة بموانع رمزية. إلا أنه من المفيد جدا، في هذا السياق، أن يتذكر الصحافي أن القيود الخارجية المفروضة على نقل المعلومات والتعاطي مع الأخبار بدقة والتحلي بالموضوعية، وتجنب "الأنباء الزائفة"، ليست إلا جانبا من هذه القصة، لأن نظام القيم الداخلي الخاص بالصحافي، ونزعات التحيّز بدواخله، ودرجة تكيفه الثقافي ووضعه الاقتصادي والاجتماعي، هي جزءا لا تتجزأ من تكوينه كصحفي مهني. غير أن هناك أمورا أخرى، تطرح، منها إذا كان الصحافي محظوظا، فسوف يشتعل في بلد يسمح له بقدر كبير من الحرية، في أن يقول الحقيقة كما يتمثلها ويقرؤها، وأن يقدم وصفا أو تفسيرا دقيقا للعمليات والأحداث في المجتمع بقدر إمكانه. ولكن حتى إذا منح الصحافي قدرا كبيرا من الحرية من جانب أولئك الذين "يعمل لصالحهم"، فسيكون عليه أن يتعامل مع "الرقابة الذاتية" الكامنة التي تسكن عقله، والتي تجعله يصوغ تصوراته بأساليب وطرق معينة. إن الصحافة-كما يذهب البعض- هي فن الممكن أيضا، بمعنى أنها ممارسة المهنة تتطلب قدرا كبيرا من التكيف مع شروط وسياقات الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، لكن بدون أن يصبح هذا التكيف خضوعا لما يتعارض مع حقائق الأشياء، ومع معايير المهنة وأخلاقياتها. استنادا إلى ذلك فإن ما ينجزه الصحافي لا يظل مع ذلك معزولا عن ضوابط المجتمع والمعتقدات والقناعات السائدة في هذا المجتمع. أما الصحافي الذي لا يقتنع بالصحافة كفن للممكن، فلا بد أن يصطدم بمختلف أشكال المقاومة، خاصة منها ذات الطبيعة السياسية والاجتماعية والثقافية والقانونية والمالية. إلا أنه من الأكيد أن الجانب المهني قد يتغلب على مجمل التحديدات التي تحدد مفهوم الصحافة، صورتها ووضعها الاعتباري، لكن تغليب هذا الجانب والانتصار له، واعتبار الصحافة مجرد مهنة، هو في حقيقة الأمر نوع من الاختزال، لا يمسك بقيمة ومستوى ودور الوسيلة الإعلامية الأساسية- كما يرى البعض الإعلامين- من الذين لازالوا لم يتمكنوا من وضع "قطيعة إبستمولوجية" حسب تعبير المفكر غاستون باشلار مع "المناضل الصحافي" في ظل الثورة الرقمية. وبصفة عامة، فالصحافة تظل مع ذلك عبارة عن نشاط فكري وإبداعي له خصوصيته، وله قوانينه ونواميسه المعلنة والمضمرة، وله كذلك أساليبه وطرق عمله؛ ومن ثمة فالقيمة المركزية هي للصحفي في حقل الممارسة الإعلامية على الرغم من التطور المذهل لتكنولوجيات الإعلام والاتصال، إذ إن العنصر البشري يظل مع ذلك العامل الأكثر أهمية والمؤثر في العمل الصحافي والإعلامي. لذا فإن العنصر البشري يرتبط أشد الارتباط بوضع الإعلام في أي مجتمع من المجتمعات، فمثلا بالدول ذات الشرعية المتآكلة والهيمنة الكاملة والمغتربة عن ذاتها، فقد خلقت نظاما اتصاليا تابعا لها يضفي عليها الشرعية، ويعضد من هيمنتها الكاملة ويعيد إليها ذاتها المفقودة. ونتيجة لهكذا واقع تسود أنماط للعلاقة بين السياسيين والإعلاميين غير سوية في معظمها، لذا كانت محطتها النهائية اغتراب الإنسان عن ذاته، وانتهاك حقوقه وفقدان الثقة، كما كتب ذات يوم إبراهيم بسيوني في مقال بعنوان "العلاقة بين الإعلاميين والسياسيين" بالوطن العربي. ونظرا للاختلافات الموجودة من قطر لآخر فإن نماذج الصحافيين تتجسد بالفعل في العلاقات القائمة بين الإعلاميين والسياسيين، والتي تتراوح - حسب بسيوني-ما بين نموذج الصحافي المتملق المهادن، ونموذج الصحافي الخادم الأمين المطيع، ورجل البريد المنضبط، والبيروقراطي الموظف، والأناني النفعي الغائي، والمتمرد فاقد الهدف والبرنامج، والمتفرج المتهور، والمثقف الهادئ الدبلوماسي، والمعارض صاحب البرنامج، والناقد الموضوعي الانتلجنسي، وصاحب الرسالة، ثم الإسلامي المستنير. ويظل ترتيب هذه النماذج مرتبطا أشد الارتباط بمدى قرب السياسي -بتعريف جاكمينو صاحب مؤلف الجمات الضاغطة- من الإعلامي حسب تعريف الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، صاحب مؤلف "نظرية الفعل الاتصالي".