كلما فتحت علبة السخرية على مرأى من العالم وخطابات تهيكله ، أجدني أمام أنواع من الضحك ، ابتداء من الجسد ، على اعتبار أن التفكه عملية جسمية قبل كل شيء ؛ وانتهاء إلى ضحك جماعي – مشترك ، من وضعية مختلة ، تكون مفارقاتها فاضحة وغير مستساغة . وهو ما يؤكد أن السخرية رسالة مشفرة ، تنهض على خصائص ووظائف ، وتسعى لمرام غير مسطرة بالمعنى الإديولوجي . بل أكثر من ذلك ، فالفكاهة يعتبرها البعض سمة لصيقة بالإنسان ، لها أساليبها المحاكة وسهامها النفاذة . بناء عليه ، فالسخرية متعددة الحضور في الحياة مثلما في الكتابة والفن ( الفن التشكيلي ، الأدب ، الكاركتير ...) . وفي المقابل ، نكون أمام أشكال من الضحك الهادف (بالجد أو الهزل ) الذي يخترق العقل ويتحرر من قبضته ، بمنطق آخر. بالتأكيد ، فوظيفة السخرية نقدية ، بعيدة عن التهريج المبتذل والضحك الغافل . وهي بتدقيق توليفة من النقد والهجاء والتلميح ؛ قصد خلق ذاك التهكم ،أي نوع من الضحك من أي تشكيل معطوب ( أشخاص ، أفكار ، وضعيات ...) ؛ ضحك فاضح للثغرات والسلبيات ضمن أفق متخفف من الهالات ، يحمل بين طياته تصحيحا ما أو تبشيرا به ؛ ليس بشكل دعائي ، بل بصور تلميحية مبطنة بعنف رمزي . واضح ، أن السخرية تجد تربتها الخصبة ، في فضاءات الضيق بأشكاله المختلفة ، فتنهض كخليط سحري من الأفكار والنظرات والتراكيب ، لتعصف بالأشياء على عبثيتها ، معيدة إياها لصورتها الأولى الخالية من كل لباس وإلتباس . كأنها تركز على العيوب ، ساعية إلى فضح المستور ضمن مقابلات بين النقائض . لهذا ، فالسخرية لايمكن أن تثير الضحك دائما ، بل قد تدفع الحواس وملكات الإدراك إلى التلذذ بألم ، بهذه المفارقات التي تطلق سيقانها ، دون النظر لوجها في المرآة . السخرية ، إذن ، ظلت لصيقة بالجذور والمسام ، مساهمة في توسيعها وفتحها على دورات هوائية تكسر الروتين والنمط البليد المتمنطق . وهو ما يثبت ، أنها سارية بين التلافيف ، حاضرة في كل ذات ولكن على قدر العدات المعرفية والحياتية في الفهم والإدراك والاستيعاب . وحين لانجد وسيلة لتغيير المجرى بما حمل ؛ نتكئ على عصا السخرية . وعليه يمكن أن نضحك من أحداث في اليومي والتاريخي والسياسي..وكلما ازدادت حدة هذه الأحداث ، ترانا أشبعنا بضربات السخرية التي تدفعنا إلى السخرية من ذواتنا ، ذوات مقولبة مصيرة على الرغم منها . بهذا المعنى ، " فالسخرية سلاح يحمي الذات " كما قال الروائي إميل حبيبي . وقد يقودنا هذا القول ، إلى تلمس تيار عريض للسخرية في الأدب والفكر، ابتداء من الرسومات الأولى ، إلى الهجاء كتهكم مباشر، إلى تشخيص حالات وشخوص على عيوبها المكتسبة طبعا ، إلى النقد بين الفرق والملل ، إلى النفس العبثي والساخر في الحياة والوجود ..ومثلما يسخر الإنسان من نفسه ، يفعل الأديب أيضا كما كان يفعل الجاحظ وبرناردشو... السخرية تمنح للأزمة، شحنة تحفيزية للتجدد ودفع الزيف ، بسهام نفاذة ، تختصر الخلل في حبات ؛ وترمي بها في البرك الآسنة المحروسة . وكلما تقعرت الأزمة ، ارتفعت السخرية إلى أرقى ضحك قد يفقد صوابه ، في اللغة طبعا . فالسخرية نتشربها يوميا دون معلم ، لذا نراها سارية في اليومي بشفوياته الباذخة كإبداع حاد ، يخلخل ويقذف إلى جحيم آخر اللباقة والنظافة المحروسة . وحين يحاط شيء بالضحك الساخر فهو مدعاة لتغييره...على أي ، فالسفينة تجري بما حملت ، وماء السخرية يعلو .. كما الموج العطشان ، وبه نظرا . *شاعر وكاتب من المغرب