تعاني الصحافة في بلادنا الأمرين، حيث توجد بين مطرقة «ثقافة السر الكتمان» والتبرم من الأخبار من طرف الدولة والنخب السياسية، وسندان شهية القراء المفتوحة لمعرفة ما يجري ويدور خلف كواليس السياسة ومطابخ صناعة القرار، فمنذ تعيين عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة المكلفة بتشكيل الوزارات، وجانب من الأوساط المحافظة في «جهاز الدولة» ينظر بعين الريبة إلى حجم ما يتم تداوله من معلومات حول تشكيل الحكومة، حتى إن أخبارا متواترة قالت إن «تجميد سلسلة المشاورات التي كانت تجري لإخراج الحكومة بأسرع وقت ممكن من غرفة الولادة، كان سببه نشر الصحافة للهيكلة الحكومية قبل وصولها إلى «باب تواركة»، وإن هذا إخلال بالطقوس والأعراف وثقافة الكتمان التي أدمنت عليها المملكة الشريفة. هذا ما جعل عبد الإله بنكيران يوصي مسؤولي حزبه، في اجتماع يوم السبت بعدم إخراج أي معلومة أو اسم عن مشاريع «الوزراء» الذين اختارهم الحزب ليمثلوه في الحكومة، بل إن الحرص على تطبيق وصية «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان» بلغ به درجة اعتبار كل عضو سرب قليلا أو كثيرا مما راج في الغرفة المغلقة لمقرالحزب في حي الليمون بمثابة خائن. لماذا يا أستاذ بنكيران هذا التشدد في حجب المعلومات عن الرأي العام؟ لأن تسرب الأسماء إلى الصحافة «يفسد» الأمر... إن ثقافة السر والكتمان والحجب والصمت تخفي بين طياتها فكرة عن قيمة المواطن، وحقه في المعرفة والاطلاع والوصول إلى الخبر من مصدره. هذا دون الحديث عن حرية الإعلام وتقدير قيمة التواصل، التي تدخل في خانة شفافية التدبير وعقلنة الإدارة. إذا كان «المخزن» يرفض الانخراط في لعبة التواصل والاتصال، ويعتبر وصول الصحافة إلى مصادر الأخبار «تجرؤا» وحتى «ضسارة»، كما قال نبيل بنعبد الله يوما عندما كان وزيرا للاتصال، وإذا كان «المخزن» يحمل ثقافة سياسية تعود إلى قرون غابرة، فلا شيء يجبر رئيس الحكومة الجديد على «الخضوع» لثقافة السر والكتمان، وحرمان المواطنين من معرفة «مسارات» صناعة القرار، ودروب اختيار النخب، لأن هذا النوع من الأخبار هو الذي يسمح للمواطن بتشكيل رأي وتصور ورؤية عن هذا الحزب أو هذه الحكومة أو هذا البرلمان، وليس إعلان الأسماء في «نشرة» الثامنة والنصف على شاشة القناة الرسمية... إن «تغيير» بنكيران لطريقة تعامله مع الإعلام والصحافة المستقلة، على وجه التحديد، بعد أن كان الجميع يحسب له «حسنة التواصل» مع مختلف المنابر الإعلامية.. إن هذا التراجع يشكل إشارة سلبية عن القادم من الأيام، فأحد عوامل نجاح حزب المصباح وزعيمه في الانتخابات الأخيرة يتمثل في سياسة التواصل التي نهجها مع الرأي العام ومع الجسور التي تقود إلى الرأي العام، أي الصحافة والإعلام. جزء كبير من الأخبار، التي كان ولايزال بنكيران يوظفها في آرائه وتعليقاته، كان يأتي من الصحافة المستقلة، خاصة إبان معركته مع «البام»، وها هو اليوم، وبعد أن وصل إلى كرسي الوزارة، بدأ يقفل «صنابير» الأخبار في وجه الإعلام و«يجرم» كل من يبوح بمعلومة للصحافة. السيد بنكيران، أخبار الاستوزار، وهيكلة الحكومة، وكواليس التفاوض مع أحزاب الائتلاف، ليست أسرار دولة يجب حمايتها من التسرب، وليست أسرار دفاع يجب حجبها عن الرأي العام حتى لا يوظفها الأعداء، هذه أخبار من حق الصحافة أن تصل إليها، وإذا كنت معنيا بالتغيير فالمخزن من يجب أن يغير نظرته إلى الإعلام وليس العكس، وإلا فإن أمامك المصير «البائس» الذي انتهى إليه عباس الذي اتخذ من عداء الصحافة المستقلة «عقيدة له» منذ دخل إلى وزارة لم يكن يحلم بها.