في المغرب أُطلقت عدة مشاريع ضخمة وطموحة، من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه؛ لكن جل تلك المشاريع تعثر، وألقيت المسؤولية بسبب ذلك التعثر على مختلف السلطات لعدم الوفاء بالالتزامات وغياب المواكبة والمحاسبة، لكن المسؤولين خرجوا سالمين وبقي المتضرر الأكبر هو المواطن. في هذه السلسلة، سنُحاول رصد بعض المشاريع التنموية الضخمة، التي أُطلقت في السنوات الأخيرة في عدد من المدن بأغلفة مالية كبيرة؛ لكنها لم تنجح. أسباب التعثر متعددة، ونتائجه وخيمة أدت إلى ما لا يخطر على بال أحد بسبب التقصير. في الحلقة الثالثة، نُعيد تركيب قصة "المخطط الأزرق" الذي أطلقه المغرب سنة 2001 برؤيتين على مدى عشر سنوات، من أجل إعطاء انطلاقة جديدة للسياحة وبلوغ هدف رئيسي يتمثل في جعل البلاد ضمن الوجهات السياحية العالمية. وقد جاء هذا المخطط عقب الأيام الدراسية الوطنية حول السياحة التي نظمت في يناير 2001، وتوجت بتوقيع الاتفاق الإطار بين الحكومة والفيدرالية المهنية للسياحة؛ لكن بعد مرور قرابة عقدين لا تزال السياحة ضعيفة، ولم تحقق الأهداف المرجوة. واليوم تعتبر السياحة من القطاعات المشغلة في المغرب، بحيث توفر أكثر من 500 ألف منصب شغل مباشر، وتفوق عائداتها 60 مليار درهم سنوياً؛ لكن أغلب الأهداف التي وضعتها الحكومة طيلة العقدين الماضيين باءت بالفشل، ولم يحقق المغرب مسعاه لاستقطاب سياح كثر. 10 ملايين و20 مليونا كان الهدف في البداية بلوغ 10 ملايين سنتيم في أفق سنة 2010، وبعدها جرى إطلاق إستراتيجية جديدة للتنمية السياحية بعنوان "رؤية 2020" حيث تم توقيع عقد برنامج بين الدولة والقطاع الخاص لمضاعفة حجم القطاع السياحي من خلال توفير 200 ألف سرير فندقي جديد والرفع من عدد السياح المترددين على المغرب إلى 20 مليون سائح سنة 2020. كما كانت رؤية 2020 تهدف إلى جعل السياحة من محركات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بطموح كبير يتمثل في أن يكون المغرب من أكبر 20 وجهة عالمية لترسيخ مكانتها كمرجع في منطقة البحر الأبيض المتوسط من حيث التنمية المستدامة. وارتكزت الدولة في هذا الطموح على ثلاثة أهداف إستراتيجية: مضاعفة سعة الإيواء السياحي عبر بناء حوالي 200.000 سرير جديد، ومضاعفة عدد السياح عبر مضاعفة حصة المغرب من الأسواق الأوروبية التقليدية الرئيسية، وجذب مليون سائح من الأسواق الناشئة، ورفع عدد الأسفار الداخلية إلى ثلاثة أضعاف. أكثر من ذلك، كانت الرؤية تطمح إلى تشغيل حوالي مليون مغربي في قطاع السياحة خلال العشرية، وتوفير 1000 مليار درهم كمجموع مدخول الأنشطة السياحية في غضون عشر سنوات، ومساهمة السياحة في الناتج الداخلي الخام بزيادة نقطتين. لكن أغلب هذه الأهداف لم تتحقق، فبالإضافة إلى إقرار الوزارة الوصية على القطاع بالفشل، سبق للمجلس الأعلى للحسابات أن أكد أن النتائج المتحصلة في الرؤيتين فيما يخص ورش المنتوج السياحي ظلت دون الطموحات بعدما كان الرهان بشكل كبير على السياحة الشاطئية. وقد كان من أبرز ما جرى التوقيع عليه في الاتفاقية الإطار إطلاق ست محطات سياحية جديدة، في السعيدية والعرائش والجديدة والصويرة وأكادير وكلميم؛ لكن بعضها لم يرَ النور، وتلك التي رأت النور باءت بالفشل ولم تنجح في استقطاب السياح. إمكانات ضخمة قامت الدولة بتوفير إمكانات مهمة من أجل المخطط الأزرق، من بينها الوعاء العقاري الضروري لإنجاز المحطات السياحية الست بشروط تفضيلية؛ فعلى سبيل المثال، قامت الشركة المغربية للهندسة السياحية ببيع الوعاء العقاري فيما يخص محطة تغازوت للمستثمر ب50 درهماً للمتر مربع، وهو ما يشكل فارقاً قدره 200 درهم للمتر مقارنة مع ثمن السوق، وهو ما يعادل 1.3 مليار درهم على شكل تحفيزات. وتشير أرقام المجلس الأعلى للحسابات، في تقرير أصدرته قبل سنوات قليلة، إلى أن الحصيلة الإجمالية للمخطط الأزرق برسم الرؤيتين 2010 و2020 جد ضعيفة، بحيث لم تتجاوز نسبة إنجاز الطاقات الإيوائية السياحية 7.8 في المائة و2.7 في المائة على التوالي، أي ما يعادل طاقة إيوائية تقدر ب7050 سريراً في المجموع. وفي تقرير لاحق خلال سنة 2018، أشار المجلس الأعلى للحسابات إلى أن اعتماد رؤية 2020 تم دون تقييم للإنجازات المحققة في إطار رؤية 2010 ودون الاستفادة من نتائجها، حيث تم التركيز على خيارات فاشلة؛ منها التطوير المتزامن للمحطات السياحية الست باستثمارات تعاقدية بلغت 122 مليار درهم. وقد كان من ضمن نقاط الضعف في المخطط الأزرق للسياحة المغربية التفاؤل المفرط في الأهداف المحددة، بحيث لم يتم استحضار الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 2008 وما كان له تأثير على الأسواق الرئيسية المنتجة للسياحة، خاصة البلدان الأوروبية. ونحن اليوم على مشارف سنة 2020 يصعب الحديث عن استقطاب 20 مليون سائح السنة المقبلة، إذ لا يزال المغرب يدور في فلك ال12 مليون سائح، ويضم هذا الرقم المغاربة المقيمين في الخارج والذين يزورون بلادهم طيلة السنة ويشكلون قرابة الثلث من المجموع. تأثر صورة المغرب يجمع المسؤولون دائماً على أن المغرب بلد سياحي، لكن يكفي ملاحظة ما تحققه بلدان أخرى من رواج اقتصادي بفضل السياحة سيتبين أن الأمر أشبه "بكذبة صدقناها"؛ فلا السياح الأجانب ازداد عددهم بشكل ملحوظ ولا نجحنا في تطوير السياحة الداخلية، والدليل على ذلك سفر حوالي مليون مغربي سنوياً إلى إسبانيا بحثاً عن سياحة في المستوى". ومن مظاهر فشل السياسة الحكومية في القطاع عدم تنويع الأسواق المُصدرة للسياح، بحيث يظل السائح الأوروبي يمثل قرابة 80 في المائة من السياح الأجانب الوافدين، نتيجة غياب إستراتيجية ناجعة لتسويق المنتوج السياحي والاعتماد على شبكة الأنترنيت بشكل كبير في الحجوزات. وخلال السنوات الماضية، كانت أمام المغرب فرص كثيرة لجلب مزيد من السياح الأجانب في ظل تأثر عدة وجهات سياحية منافسة بتداعيات ما سمي بالربيع العربي؛ لكن يتم استثمار ذلك بالشكل المطلوب، وبقي عدد السياح الوافدين في عتبة لا تتحرك. أسباب الفشل يقول فاعلون في مجال السياحة، استقت هسبريس آراءهم، إن من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى فشل مشاريع سياحية ضمن برنامج المخطط الأزرق هو عزلتها عن المجال الترابي التابع لها، حيث تم بناؤها بدون ربطها بمحيطها الترابي والمؤهلات المجاورة التي تزخر بها المناطق التي أقيمت فيها. كما أن محمدا ساجد، الوزير الوصي على القطاع، كان قد أقر هو الآخر بفشل هذا البرنامج في ماي الماضي، حيث قال إنه لم يعط لهذه المحطات السياحية العمق التاريخي والثقافي حتى تتمكن من تحقيق الإقبال والنجاح، مشيراً إلى أن التوجه الجديد يجب أن يركز على استغلال المؤهلات الطبيعية والثقافية للمدن في إطار سياسة تنموية تدشن مرحلة جديدة للقطاع السياحي. وإذا كانت محطة السعيدية السياحية تعتبر أحد أكبر المنتجعات السياحية التي خصصت لها الدولة استثمارات ضخمة، فإنه جرى بناؤها بمعزل عن المؤهلات الموجودة بالمنطقة؛ وهو ما جعل نجاحها ضعيفة ولا تستقطب زوارا بالقدر الذي كان متوقعاً. كما يرتبط فشل السياحة أيضاً بضُعف الإقبال على السياحة الجبلية، ومن مسببات ذلك ضعف البنيات التحتية والمرافق الضرورية في أغلب هذه المناطق التي تقع بعيداً وتحتاج إلى استثمارات في الطرق والمستشفيات وما إلى ذلك. مفارقات وأعطاب في دراسة أجراها المركز المغربي للتنمية الفكرية، جاء فيها أنه "لا ينبغي للدولة أن تكتفي ببناء المركبات السياحية والفنادق والقرى السياحية؛ لكن بالموازاة مع ذلك يجب بذل مجهودات كبرى لتحسين البنيات التحتية، من خلال تشييد الطرق والطرق السيارة والمستشفيات والمراكز الصحية، وتوفير النقل الجيد، وإعداد المواطن المغربي لاستقبال السياح الأجانب حتى تصبح لدينا ثقافة سياحية". وذكرت الدراسة أن "السلطات العمومية، وعلى رأسها وزارة السياحة، تنهج سياسة غير شمولية باعتمادها أكثر على إعداد وتهيئة السواحل التي تتطلب قدرات مالية وتقنية مهمة، وتغفل عن السياحة الثقافية خاصة بالمدن العتيقة والقصبات". وفي حديثها عن الأعطاب التي تعاني منها السياحة في المغرب، ذكرت الدراسة أن السياحية تتركز بصفة خاصة بوجهتي أكاديرمراكش اللتين تستأثران بحصة 70 في المائة من المبيتات الدولية. كما يتم التركيز على السياحة الفاخرة لجلب شريحة من السياح الأجانب، بدل العمل على الاهتمام بتنمية السياحة الداخلية، بالرغم من وضع مخطط بلادي الذي لم يحقق الأهداف المأمولة منه. وبالإضافة إلى ما سبق، تشير دراسة المركز المغربية للتنمية الفكرية أيضاً إلى عطب آخر يتمثل في التركيز على دعم السياحة في بعض الجهات والمدن الكبرى بالبلاد، وهو ما عزز من الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين مختلف الجهات. وتخلص الدراسة إلى القول: "السياسة السياحية التي تم نهجها لعقود لم تمكن بلادنا من الانخراط بقوة في محيط دولي مطبوع بالتنافسية، خاصة من بلدان شبيهة لنا كمصر وتونس وتركيا، هذه الأخيرة التي تسعى بقوة إلى أن تكون من بين الأوائل في القطاع السياحي، ففي إطار إستراتيجياتها السياحية تأمل إلى جلب حوالي 40 مليونا في أفق سنة 2023". بلد سياحي؟ في كل فصل صيف، يتجدد النقاش بين المغاربة حول ضُعف السياحة الداخلية، فنسبة كبيرة من الأسر المغربية تشارك في "موسم الهجرة إلى الشمال" حتى أصبحت مدن مرتيل وتطوان وطنجة تعج بالمغاربة إلى درجة الاكتظاظ في الطرقات والشوارع. هؤلاء المغاربة الذين اختاروا شواطئ الشمال لا يختارون الفنادق للإقامة، بل يكترون شققاً بأثمنة تتراوح ما بين 200 درهم إلى 700 درهم لليلة الواحدة؛ لكن أغلبهم يعود إلى مدن إقاماتهم وهم متذمرون من تجربة سياحة لا تعني بالضرورة الراحة والاستجمام، كما هو معروف في العالم. وما يعزز هذه التجربة السلبية كون المظلات الشاطئية يتم احتكارها من قبل أشخاص يفرضون إتاوات مرتفعة على المصطافين، أما ركن السيارات فتلك من المهمات المستحيلة في شواطئ هذه المدن، بحيث ترتفع سومات كلما جاء فصل الصيف. وبالإضافة إلى ما سبق تعاني الأسر من الازدحام على المطاعم، وبذلك يصبح فصل الصيف فصل حرب معلنة في احتلال الشوارع والشواطئ والمطاعم. كل المؤشرات تدل على أننا لم نبلغ بعد مستوى بلد سياحي بامتياز، فسواحل بآلاف الكيلومترات والمؤهلات في الصحراء والجبال والشواطئ لم تنجح في استقطاب سياح أجانب كثر، ولم تهتم السياحة بالمغاربة، فأصبح من يوفر مالاً يحجز تذكرة على الطائرة أو الباخرة للذهاب إلى الضفة الأخرى بحثاً عما هو مفقود فيما قيل إنه "أجمل بلد في العالم".