نتناول من خلال هذه السلسلة من المقالات إشكالية التغيير في أسلوب التفكير لدى الشباب في علاقتها بسلوكياتهم واختياراتهم المستقبلية، ونرمي من خلاله إلى تسليط الضوء على الحياة السيكولوجية لهذه الفئة المهمة في المجتمع، وكيف تعيش التغيير في القيم والمعتقدات (النظرة إلى الذات وإلى الآخر، والهوية والنمو النفسي الجنسي، الأزمات النفسية المرحلية والتفاعل والتواصل مع الأسرة والمحيط، والمخاوف، والتطلعات نحو المستقبل). وكل ما اشتدت تعقيدات هذه المجالات النفسية، كلما زاد تأثيرها سلبا على الحياة النفسية للوالدين والأسرة برمتها، وبالتالي تصبح مصدرا للإزعاج، والقلق، والغضب، والاشمئزاز، باعتبارها عوامل حقيقية لمخاطر الإصابة بالإجهاد، وبمختلف الأمراض النفسية والصحية. بافتقادهم لصفات ومهارات الأبوية الاحترافية، يتساءل الكثير من الآباء والأمهات عن أنجع الطرق الممكنة لرسم حدود الفعل والتصرف لدى الأبناء، بغية تجنيبهم الآفات الخطيرة، والتي قد تضر بحياتهم النفسية والاجتماعية، وما الإجراءات الضرورية لإكسابهم مهارات التفكير السوي والسليم، خاصة عندما يشعر الأبوان بفقدان السيطرة على الأبناء، وعدم وضوح سقف الحدود المطلوب احترامها والتقيد بها داخل وخارج البيت. وقبل الإجابة عن كل هذه الإشكالات، وجب أولا تحديد المصطلحات والمفاهيم ودلالاتها، بدءا بشرح وبسط مفهوم السلوك السوي وغير السوي، وما الحدود التي تميزهما في المجال النفسي، وما الوظائف التي تقوم بها الحدود، وما هو التنظيم الدفاعي، وما الأعراض الظاهرة في السلوك الغير سوي، والحدود النفسية المرضية، وصولا إلى مختلف العناصر المرتبطة بوظائف الحدود وأشكال سودوية الاكتئاب، كل ذلك في نسق معرفي، يمزج بين الشخصية ونظام المعتقدات والقيم في إطار أساسيات علم النفس المرضي. مفهوم السواء واللاسواء في المعتقد الديني السواء كلمة وردت في قوله تعالى ''ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها". يشير النص الديني هنا إلى أن الإنسان في إطار شموليته وأبعاده الروحية والسيكولوجية (المعرفية والعاطفية والسلوكية) والفيزيولوجية، يتوفر على متغيرات إيجابية إرادية وواعية غير مستترة تساعده على تحقيق التزكية والنماء والاكتمال في الروح والشخصية، وتقوي المناعة النفسية لديه كنظام حمية ووقاية ضد كل المتغيرات السلبية الداخلية والخارجية ومخاطر الإصابة بالاكتئاب الأمراض النفسية والشعور بالمعاناة. وبخصوص اللاسواء يتبين بجلاء من خلال هذه الآية الكريمة كيف أن نفس نظام الحمية هذا الذي برمج عليه الإنسان قد يتحول كمتغيرات سلبية مستثيرة، تحول بينه وبين نفسه وتعيق تقدمه لاإراديا ومن غير وعي منه، وتضعف قدرته على التحكم في فجوره (من التفجير أي الظهور والخروج إلى العلن بعد أن كانت مندسة مستثيرة مخفية ومكبوتة)، في إشارة إلى انفعالاته واضطراباته السلوكية والفيزيولوجية، الناتجة عن عدم سيطرته على أفكاره ومعتقداته وسلوكياته. وهو لاسواء قد يحول نفس أنظمة الاكتمال والحمية النفسية التي أسيئ استعمالها وتوظيفها في الحياة الشخصية، إلى عامل إصابة وضعف في المناعة النفسية، بعد أن دس الشخص حقيقة نفسه، وطمس معالمها، وأنكر ما جبلت عليه من صفات الكمال في الروح، فكانت النتيجة أن تفجرت عيوبها، وظهرت تناقضاتها وتعارضها مع الواقع والمحيط. في المقالة القادمة سنحاول بسط مفهوم السواء واللاسواء كمفهومين أساسيين في علم النفس المرضي. يتبع... *استشاري نفسي