مقولات لاهوتية وانغلاقات تراثية تكاد لا تُحصى ما زالت سائدة في المجتمعات الإسلامية بالمنطقة، ترسم صورة تبجيلية أو تقديسية راسخة، تربّى عليها الأفراد أيًّا كانت طوائفهم أو مذاهبهم، لكن القيم الأخلاقية التي تُجسّد جوهر الدين غائبة في المجتمعات عموماً، بينما قشور الدين وشكلياته السطحية هي المهيمنة في الدول الإسلامية. كلّما رَقّعْنَا مشكلة معينة ذات صلة وثيقة بالتراث الإسلامي، تَنْفَتق أمامنا مشكلات جديدة، حتى صار واقعنا غير قابلا للترقيع، لأنه يحتاج في الحقيقة إلى عملية جراحية في العمق، من شأنها إعادة النظر في رؤيتنا للتاريخ الإسلامي، حتى نعيد الصورة التاريخية الواقعية للتراث التي تختلف كثيرا عن الصورة التبجيلية. لماذا أصبحنا المشكلة رقم واحد بالنسبة إلى العالم بأسره؟ ما الشيء الذي يميّزنا عن بقية أمم الأرض لكي نصبح العدو الذي يتجرأ على تحدي أكبر حضارة على وجه البسيطة في عصرنا هذا؟ لماذا أصبح الخطاب السياسي العربي مُجيّشًا بمعظمه لمحاربة هذه الحضارة الغربية؟. أسئلة كثيرة تتلاحق وراء بعضها البعض، يحاول من خلالها هاشم صالح، الكاتب السوري، المتخصص في قضايا التجديد الديني ونقاش قضايا الحداثة، تفكيك المسائل التراثية. تُبحر جريدة هسبريس الإلكترونية، من خلال هذه البانوراما الصيفية، بقرائها في مجموعة من القراءات والإضاءات التي ألّفها الباحث السوري، ضمن مؤلفه النقدي المعنون ب"الإسلام والانغلاق اللاهوتي"، بغية تفكيك بعض جوانب التقديس التي تلازم التراث الإسلامي على الدوام، وكذلك المفارقات التي تطبع السلوك الجمعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. 1 لا شك في أن كتابات وترجمات هاشم صالح، على مدار الثلاثين سنة الماضية، تهدف إلى شيء واحد يتجسد في بلورة قراءة أخرى للتراث العربي الإسلامي، غير تلك التي تهمين علينا في البيت والمدرسة والمسجد، وحتى الجامعة، منذ مئات السنين، بغرض تفكيك المقولات اللاهوتية والانغلاقات التراثية، حيث خصّص المؤلف حيّزا مهما لتشريح ظاهرة "الأصولية الإسلامية" التي تأخذ من الحضارة الحديثة الجانب التكنولوجي أو التقني المحض، في حين تحرص ألا يكون "ملوثا" بالجانب الفكري أو الفلسفي. "داء السلفية المزمن" السبب الرئيسي لهذا الوضع كلّه إنما يعود، في نظر المؤلّف، إلى "الانغلاق اللاهوتي العميق الجذور في تاريخنا.. انغلاق مؤداه إلى أننا الحضارة الوحيدة على وجه الأرض التي تعتقد أنها تمتلك الحقيقة الإلهية المطلقة، بل تحتكرها احتكارا كاملا ونهائيا لنفسها من دون سائر الأمم؛ أي الحقيقة العمومية النازلة من السماء إلى الأرض". ضمن هذا المنظور، تمثل الأصولية الإسلامية حاليا العدو الأكبر للحضارة الحديثة الحضارة الغربية بما تختزنه من قيم الحداثة والتنوير والتقدم، حيث فكك الباحث السوري أركيولوجيا وجينالوجيا "داء السلفية المزمن"، الذي يعتري الإسلام ولاهوت القرون الوسطى الذي ما برح متلبّثا بنا حتى اليوم، ولاهوت العنف وفقه الجهاد والحدود في الإسلام. في هذا الصدد، يقول أحد الباحثين الفرنسيين، يدعى أندريه سيرفييه، في كتابه المعنون ب "الإسلام ونفسية المسلمين: فهم الدين والعقيدة المحمدية"، إن الشيء الذي يميز العربي، ومن ثمة المسلم الإيمان الراسخ الذي لا يتزعزع بتفوقه الفكري عن الآخرين؛ فبما أنه عاجز بسبب جفاف روحه وفقر خياله عن أن يتصور وجود حالة أخرى غير حالته أو صيغة أخرى للفكر غير فكره، فإنه يعتقد جازما أنه قد وصل إلى الدرجة التي لا تُضاهى من الكمال. الامتثالية الفكرية المسلم، حسب هاشم صالح، يعتقد أنه فعلا يمتلك الحقيقة وليس الحقيقة النسبية القابلة للتعديل أو المراجعة باستمرار، وإنما الحقيقة المقدسة النهائية التي لا تقبل أي تحسين أو تعديل؛ أي الحقيقة الإلهية المطلقة، ف"الحضارات الأخرى تتمحور حول نفسها، وتعتقد بمركزيتها وتحب ذاتها؛ وهو شيء طبيعي، لأن الحضارة الصينية كانت تعتقد ذلك، وتعتبر نفسها إمبراطورية الوسط، لكن ولا واحدة منها تعتقد بأنها تمتلك الحقيقة الإلهية مثلنا، أو قل تحتكرها كاملا ونهائيا لوحدها"، بتعبيره. لقد تعوّدنا على قمع كل رأي مضاد أو مختلف.. وهكذا حلّت أرثوذكسية أحادية الجانب محل التعددية الفكرية الثرية، التي سادت العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية الإسلامية. امتثالية فكرية تعودنا عليها طيلة قرون إلى درجة أن الانحراف عن الخط العام أو أي اختلاف أصبح يعتبر زندقة أو هرطقة. "نحن ضحية أنفسنا قبل أي شيء آخر.. نحن ضحية الحقيقة المطلقة النهائية التي نتوهم امتلاكها، لأن الذي يمتلك الحقيقة المطلقة والنهائية لا يأخذ عمن يمتلكون الحقيقة البشرية فقط، بل إن على الآخرين أن ينضموا إليه ويعتنقوا عقيدته"، يردف المفكر السوري، في إشارة إلى كون الفهم القروسطي للدين هو المنطق السائد بالمجتمعات الإسلامية. "الفهم القمعي للدين" هذا الفهم، الذي يطلق عليه الباحث النقدي تسمية "الفهم القمعي للدين"، يخالف الفهم الحديث الذي نراه لدى المسيحيين الليبراليين في أوروبا مثلا. لهذا السبب، يؤكد ضرورة التفريق بين أوروبا التي عاشت معركة التنوير ونجحت في عبورها، وبين العالم العربي أو الإسلامي الذي لم يدخلها أو لم يخضها بعد، لكنه أصبح على أبوابها، مردفا: "نحن على مشارف الدخول فيها من دون أن نتجرأ على اقتحامها". شهد الفكر الأوروبي التفكيك ثلاث مرات لا مرة واحدة.. من هنا ديناميكيته الحيوية لأنه ينطلق في كل مرة خفيفا رشيقا، بعد أن يكون قد نفض عن كاهله غبار الزمن وتراكمات القرون، معتبرا أنه "تحرّر من الدوغمائية أو التحجر الذي يصيب الفكر عادة، إذا ما استسلم للعَطالة الذاتية والتراثية لفترة من الزمن، فالصدأ يصيب الفكر مثلما يصيب أي شيء آخر في الحياة". التفكيك التحريري داخل البلدان الأوروبية، مرّ بثلاث مراحل، حيث صارع نفسه مصارعة عنيفة واشتغل على ذاته؛ أي صارع ذاته وخرج من دوغمائيته بجهود هرقلية، الأمر الذي جعله يتفوق على غيره. المرحلة الأولى، هي تلك فيها عملية تفكيك اللاهوت المسيحي القروسطي في شتى أنحاء أوروبا، فضمن حدود العقل راحت الفلسفة تنافس العقائد المسيحية التي كانت مسيطرة على الأذهان والعقول طيلة قرون عديدة. كان أبطال هذه العملية التفكيكية شخصيات ضخمة في حجم ديكارت أو سبينوزا أو مالبرانش أو كانط أو هيغل..، بمعنى أنهم فككوا وركبوا ولم يكتفوا بالتفكيك فقط، وفق ما نستشفه مما ذكره الكاتب، حيث بنوا أنظمة فلسفية عقلانية متكاملة على أنقاض اللاهوت المسيحي القروسطي المفكك. التفكيك في الفكر الأوروبي لذلك، استطاعت هذه النظم الفلسفية أن تقنع الناس، أو على الأقل النخب المثقفة، وتحل محل اللاهوت المسيحي ثم راحت لاحقا تقنع شرائح أوسع فأوسع، كلما انتشر التعليم وتراجعت الأمية والجهل وتوسعت بقعة الضوء، لكي تشمل الأرياف والجبال وليس فقط المدن والحواضر الكبرى. أما المرحلة الثانية، فكانت تفكيكا للأولى؛ أي لهذه النظم الفلسفية المتكاملة بالذات ونزعا للصبغة الميتافيزيقية أو الشمولية عنها، ويمكن القول أن بطل هذه المرحلة هو نيتشه مؤسس فلسفة ما بعد الحداثة أو الأنوار الثانية، هذا بالإضافة إلى ماركس وفرويد، ثم أتباعهم اللاحقين؛ من أمثال هايدغر وفوكو ودريدا، إذ لا تزال هذه المرحلة مستمرة حتى الآن على يد تلامذة جاك دريدا؛ الذي بلور مصطلح التفكيك على خطى هيدغر. المرحلة الثالثة التي تشغل الفكر الأوروبي الآن هي تلك التي تتجاوز التفكيك أو تغلقه كمرحلة كاملة في تاريخ الفلسفة، وهي مرحلة استنفدت إمكانياتها الآن بعد أن صالت وجالت طيلة أكثر من قرن، بل أصبحت مملة رتيبة مؤخرا، فالتفكيك أصبح عالة على ذاته بعد أن زاد عن حده، والشيء إذا زاد عن حده ينقلب إلى ضده كما يقال. ويشدد المفكر النقدي على أنه "قد آن الأوان للدخول في مرحلة التركيب الإيجابي والخروج من فذلكات دريدا وسفسطاته، التي أشاعها في البيئات الفرنسية والعالمية.. آن الأوان للخروج من العدمية الفكرية واللاعقلانية النيتشوية، وبعث مشروع التنوير الكانطي من جديد، لكن بعد استخلاص الدروس والعبر من كل انحرافاته على مدار القرنين الماضيين". فقه القرون الوسطى يعتبر هانز كونغ، أحد كبار علماء اللاهوت المسيحي في القرن العشرين، وقد ولد في سويسرا الألمانية عام 1928، ليصبح في عام 1960 أستاذا في جامعة توبنغين الشهيرة في ألمانيا؛ وهي ذات الجامعة التي تخرج منها هيغل. أهمية هانز كونغ تعود إلى ابتكاره لمصطلح واحد هو "الباراديغم"؛ أي المقياس المعرفي الأعلى الذي يسود حقبة بأسرها ثم ينهار بعد مائة أو مائتي سنة أو أكثر، لكي يحل محله مقياس آخر جديد، أو باراديغم جديد، وهكذا دواليك. وقد قام المؤلِّف بإسقاط هذا التصور على المسيحية الغربية، لنصير بذلك أمام عدة عصور معرفية في تاريخ المسيحية بينها قطيعة إبستيمولوجية، هي باراديغم القرون الوسطى، وباراديغم الإصلاح الديني البروتستانتي الذي دشنه مارثن لوثر، وباراديغم التنوير في القرن التاسع عشر، وباراديغم الحداثة الناتج عنه؛ أي الباراديغم المسيحي الليبرالي في القرن التاسع عشر، والآن باراديغم ما بعد الحداثة. وإذا ما حاولنا إسقاط هذا التصور على الإسلام، يضيف الكاتب، فإن الشيء الطاغي حتى الآن هو باراديغم القرون الوسطى؛ أي فقه القرون الوسطى ولاهوتها وفتاواها المعروفة. في هذا الصدد يقول البروفيسور هانز كونغ، في محاضرة ألقاها بلندن، تحت عنوان "تحديات تواجه الإسلام والمسيحية واليهودية"، بما معناه: "إن الإسلام لا يزال غارقا في القرون الوسطى، وهذا ما يؤدي إلى تدشين أزمة عالمية عامة". قيم أخلاقية صالحة ويتابع البروفيسور بالقول: "لكن هنالك خطر قاتل لكل الجنس البشري إذا لم نقم ببناء جسور مع الإسلام.. الإسلام دين عالمي كبير لكنه يعاني من مشاكل مع الحداثة، لأنه على عكس المسيحية واليهودية لم يشهد بعد إصلاحه الديني الكبير، والسؤال المطروح هو كالتالي: هل الإسلام قادر على التأقلم مع عالم الحداثة وما بعد الحداثة كما فعلت المسيحية أو اليهودية أم لا؟". المؤلّف يرى أن القيم الأخلاقية الموجودة في القرآن والحديث النبوي والتراث الإسلامي تظل صالحة، باعتبارها جوهر الأديان، لكن الشريعة بكل حدودها وعقوباتها البدنية المرعبة كقطع الأيادي والأرجل والرجم والجلد قوانين لا يمكن المحافظة عليها في هذا العصر لأنها مضادة للنزعة الإنسانية. ويستدرك هانز كونغ قائلا بما معناه: "إذا كنت كلاهوتي مسيحي لا أنكر التعالي الديني للقرآن فإنه يحق لي أن أطرح بعض الأسئلة على حدوثه في التاريخ؛ أي على المشروطية التاريخية للقرآن.. يحق للعلماء أن يدرسوا المنشأ التاريخي للقرآن، مثلما درسوا المنشأ التاريخي للتوراة والأناجيل"، متسائلا: "إلى متى سيظل المسلمون يقمعون بالعنف والتهديد والتكفير كل من تسول له نفسه أن يطبق نفس المنهج التاريخي النقدي على القرآن؟".