في وصف حالتنا من أجل انتخابات حرة ونزيهة، شهدت موسكو احتجاجات عارمة، ووجهت بالقمع واعتقال أزيد من 1400 محتج، سكتنا ولم نعبر عن تضامننا مع الضحايا، ولم ندعُ روسيا إلى الحماية الفعلية لحقوق الإنسان، ولم نذكرها بالتزاماتها الدولية، ولم نقم بإدانة التدخل ضد الحق المضمون في التجمع السلمي وحرية التعبير. وقبل روسيا، أكثر من مليون شخص تظاهروا في هونكونغ، تنديدا بمشروع مقترح من شأنه السماح بتسليم أشخاص لمحاكمتهم يسمح بالصين، وتعرضوا للقمع والاعتقال، ولم نندد بهذه الخروقات، ولم نتضامن مع الشباب القائد للغضب الشعبي. ودون التذكير بما حدث من قبل في العديد من البلدان، نستحضر كذلك ما يحدث في السودان والجزائر من فوران شعبي، ومن أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية مقلقة، ومن حالات القتل والقمع، تماما كما حصل في ساحة تيانانمن عام 1989، ناهيك عن ما يحدث بالعراق وسوريا وفلسطين ولبنان... ويمكن، من أوجه متعددة، أن نتساءل عما يربطنا اليوم بروسيا والصين وبالديمقراطيات الشعبية كمجتمعات إيديولوجية، لوصف حالتنا. هكذا، وأمام ما يقع حولنا من أحداث ووقائع، أصبحنا مخدرين، نعلم ولا نتحرك، نسمع ولا نميز، نقرأ ولا نستوعب، نتألم ولا نبالي. ضحايا البطش العالمي تحت يافطة الإيديولوجية التي سكنت عظامنا وشوهت خلقنا، وميعت قيمنا الإنسانية بما فيها من أخلاق وعادات اجتماعية وسلوكية ومبادئ ومثل. وبدلا من الاجتهاد في إدراك الفوارق بين الثقافات، صرنا أشباحا على المقاهي والحانات بدون أثر على الرغم من عنفواننا وممانعتنا وشغبنا وصياحنا. ومن هنا، يجب أن ندرك أهمية التنوير الذاتي، وتعميق فهمنا لأنفسنا، إذا ما أردنا التضامن مع ضحايا القمع في روسيا وهونكونغ والسودان والجزائر...حيث كلما ازدادت معرفتنا بالبواعث - الكامنة وراء أفعالنا المتحررة من التحجر والعبث السياسي والشعبوية والأنانية - وبأساليب عمل المجتمع الذي نعيش فيه، كلما تعززت قدرتنا على التأثير في مستقبلنا. إن الناس ينتظرون منا أن نساعدهم ونمكنهم من فرص النجاح، ومن تنمية الوعي بالمنهج العلمي، ولا ينتظرون منا الصراخ والتنابز والتهريج وتفريغ المكبوتات على بعضنا البعض. والشباب ينتظر منا تمكينهم من الاتجاهات الجديدة في مختلف حقول المعرفة، وألا نسقط عليهم أمراضنا وفشلنا، وألا نغذيهم كراهية شظايا "حركة القوميين العرب"، وحقد المنشقون والمنسحبون والمجمدون والمطرودون والحائرون والصامدون والخائنون وأنصاف الخائنين وكاتبو العفو والمشنعون عليهم وتيار العزة النفسية الشامخة (بلغة الكاتب عبد القادر الشاوي). الناس يريدون استخلاص النتائج من تجاربنا، ويريدون ما هو صالح أو ممكن بمنطق التدرج، لتجاوز الخوف والحيطة والحذر. يريدون تراثا فكريا، وأدبيا، ويردون إبداعا وفنا، ولا يريدون الشعوذة والسب والقذف والصراعات الزعماتية والتخويف والتخوين. إن ثقافة الهدم وعدم الاعتراف بالطاقات المتجددة وبالتجارب الصاعدة يعطل تأسيس الوعي الجديد، ويقف حاجزا أمام الوعي الراهن الذي يجب أن يعبر عن نفسه، من منطلق أن الحقيقة نسبية. فلنتحرر من عقدة التبعية الإيديولوجية، ونتضامن مع ضحايا القمع في روسيا وهونكونغ والسودان والجزائر، مثلما نتضامن مع شعبنا من أجل حقه في الثروة الوطنية والعدالة المجالية والبنيات الأساسية (التعليم الصحة الشغل والسكن)، ومن أجل ترسيخ حقوق الإنسان ودولة الحق والقانون. لماذا المغرب القروي وسكان الجبل والواحات والسهوب؟ إن ضرورة الاهتمام اليوم بأكثر من نصف مساحة المغرب ليس لغوا ولا ترفا، وليس مزايدة. إنها قناعة راسخة، نابعة من الإهمال ومن الفقر الذي يعاني منه مغرب الهامش بسبب العزلة وتوالي سنوات الجفاف وانجراف التربة والتصحر، ونتيجة تفويت أصول الدولة للقطاع الخاص والاستيلاء على الأراضي الزراعية، ومنحها إلى الخواص مصحوبة بامتيازات وتحفيزات ربحية وتجارية، وإطفاء الصبغة الرسمية عليها تحت يافطة "إستراتيجية التنمية الزراعية" أو ما يسمى ب"مخطط المغرب الأخضر"، والذي تم اعتماده في أبريل 2008 وتبلغ قيمته 750 ألف هكتار. إن التغير الذي طرأ في مجتمعنا يستحق منا كل الانتباه؛ فقد ارتبطت أهم أحداثه وتطوراته بما يجري في العالم أكثر مما يجري ويحدث عندنا. ويتضح ذلك الاختلاف بأجلى صوره في أن المغرب الحضري يتميز بإنتاج السلع والخدمات وبيعها للمستهلكين، بينما المغرب القروي هاجر أبناؤه، ولم يبق منهم إلا "الخماسة" و"الرباعة" والمعالون من أقربائهم القاطنين بالخارج وبالمدن الكبرى. وإذا كانت السياسة النيوليبرالية التي يقودها البنك الدولي، قد انتقلت من الاهتمام بالمجالات الاجتماعية إلى الاهتمام بأراضي الفلاحين وبالإنتاج الزراعي ودعم الاستثمار في رأس المال المالي في الأراضي، لكونها من دون "سيد" وصالحة فقط للرعي ويساء استخدامها، فهذا يسائلنا ويبرر اهتمامنا الرئيسي بأهالينا في المغرب القروي وسكان الجبل والواحات والسهوب؛ لأن تغيير الحياة التقليدية القروية في العديد من البلدان والتجارب استلزم من المفكرين تنمية صيغ جديدة لفهم العالمين الصناعي والطبيعي على حد سواء، وحل المشاكل المستعصية التي يتخبط فيها الناس، عبر إقرار التنمية الشاملة في أبعدها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. أما الاستحواذ على الوضع الجماعي والقبلي للملك العام وإحياء عادات وتقاليد قديمة من شأنها المساهمة في تشكيل ملكية جديدة، فإنه لن يزيد سكان القرى المغربية سوى يأسا وتهميشا. وهنا لا بد من التذكير بأن 60 في المائة من سكان المغرب القروي والجبل والواحات والسهوب ما زالوا يعانون من العزلة واليأس والتهميش والبطالة والهجرة بنوعيها الداخلية والخارجية، بسبب غياب البنيات الأساسية (التعليم الصحة الشغل والسكن) والنقص المهول في الطرق وفي الماء الصالح للشرب والتدفئة ووسائل النقل و الترفيه؛ وهو ما يضع على عاتقنا مسؤولية تاريخية تستلزم حشد الدعم والمساندة والترافع والنهوض بحماية حقوق الإنسان لتحقيق التنمية الشاملة المستدامة والقضاء على الفوارق المجالية. إن الحق في تنمية المغرب القروي وسكان الجبل والواحات والسهوب يعتبر اليوم حقا من حقوق الإنسان، وعلى كل الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات المركزية جعله من أولياتها، بدل التهريج الإيديولوجي المتجاوز، وعبادة الأصنام، وتبخيس كل المبادرات المواطنة القادمة من الهامش، والصراع على الكراسي والمناصب. كما أن ترسيخ وتفعيل الجيل الثالث من حقوق الإنسان المبني أساسا على التضامن والتطوع ليس موضوعا للاسترزاق وتوقيع الشراكات مع المنظمات الأجنبية والمؤسسات الوطنية، واستغلال حماس الفقراء والمعطلين والغاضبين، والمزايدة السياسوية وابتزاز الدولة. إنه خطة نضال ورؤية شاملة وامتلاك هوية تشعرنا بالانتماء الترابي المحلي والإقليمي والجهوي والوطني في بعده الكوني المشرق، والذي باتت تنص عليه مواثيق دولية (مثل المادة 55 والمادة 56 ) ونصوص وإعلانات الجمعية العامة للأمم المتحدة، مثل الإعلان الدولي حول التقدم والتنمية في المجال الاجتماعي لسنة 1969 والإعلان الدولي بشأن إقرار نظام اقتصادي عالمي لسنة 1974 وميثاق الحقوق والواجبات الاقتصادية للدول لسنة 1974، بالإضافة إلى القرارات الهامة للجن الأممية التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة وبالخصوص القرار المهم 128/41 المتمثل في إعلان الحق في التنمية الذي صدر في 4 دجنبر 1986 ثم قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 199/47 بتاريخ 22 دجنبر 1992 الذي اعتبر التنمية الإنسانية الاجتماعية المستديمة الهدف المتوخى من كل عمل تنموي سواء كان دوليا أو قطريا أو محليا. أخيرا، إن التقدم التقني والتكنولوجي والرقمي والاقتصادي الذي تمر منه بلادنا يجب أن يساعدنا ويقوي عزيمتنا للتخلص من بقايا الإقطاع والعبودية والنظم القائمة على تقسيم العمل بين ملاكي الأراضي الكبار وعمال السخرة. كما يجب أن يحفزنا على النضال الميداني من منظور المساواة والعدالة المجالية بين الجهات والأقاليم والجماعات المحلية، ومن منظور توزيع الثروة الوطنية على كل المواطنات والمواطنين، ودعم الاستثمار العمومي الذي يجب أن يطلع بدور محوري في النمو الاقتصادي والاجتماعي. مغرب المستقبل ليس مستحيل، إنه حقيقة، وستكون حركتنا سعيدة باحتضان ميلاده في بيتها. فمرحبا بالجميع، والميلاد ميعاد.