صدر كتاب "ابن باجه سيرة وبيبليوغرافية" عن مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث (سلسلة كتاب مجلة مرآة التراث 6) التابع للرابطة المحمدية للعلماء، سنة 2017، للباحث المغربي جمال راشق (أستاذ الفلسفة العربية الإسلامية بجامعة القاضي عياض بمراكش). يتكون الكتاب من سبعة أقسام وزعها المؤلِف كالتالي: القسم الأولُ، عرضٌ واف لسيرة ابن باجه (460ه/533ه)، استقصى فيها جميع كتب التراجم والطبقات التي تعرضت لحياة الفيلسوف، أما القسم الثاني فقد خُصص لوصف المخطوطات التي تضم تواليف الرجل وصفا دقيقا، والقسم الثالث احتوي على تحقيق نصين هامين عبارة عن تصدير ابن الإمام لمجموع أقاويل ابن باجه في نسخة أكسفورد وكذا تصدير المجموع في نسخة برلين، أما القسم الرابع فقد جعله المؤلف عبارة عن جداول تتبع فيها نصوص ابن باجه، الموجودة اليوم بين أيدي الباحثين، في النسخ المخطوطة ثم تحقيقاتها وترجماتها، والقسم الخامس كان عبارة عن إبرازٍ للحضور الباجي في التراث العبري واللاتيني، ثم قسم سادس يحتوي على محاولة جمال راشق في الترتيب الكرونولوجي لمؤلفات ابن باجه مع الإشارة إلى المحاولات التي سبقته، وأخيرا ببليوغرافيا غنية ووافية جمع فيها المؤلف أغلب ما أنجز عن ابن باجه، تحقيقات كانت أو دراسات أو ترجمات أو مساهمات في ندوات أو أيام دراسية نشرت أو قيد النشر بلغات مختلفة. حول أهمية الكتاب: يندرج عمل الباحث في إطار البحث البيبليوغرافي أو السيرة البيبليوغرافيا، وهي دراسة تشمل التنقيب في حياة المترجمِ لهُ، رصد تواليفه، وتتبع تطوره الفكري من خلال محاولة ضبط التسلسل الزمني للتواليف ومراحل الحياة. ومن ثمة أهمية هذا الكتاب، محاولة من صاحبه لملأ هذا الخصاص، إذ يأتي صدور كتاب جمال راشق بعد خمسة وثلاثين سنة على إصدار كتاب مؤلفات ابن باجه للمرحوم جمال الدين العلوي (1992/1945م)، غير أن عمل راشق يحتوي على إضافات وعلى جديد يبرر إصدار مؤلف يتناول الموضوع نفسه، بالنظر إلى ظهور مخطوطات وصدور تحقيقات ونشرات جديدة تتناول نصوص وفلسفة ابن باجه، فما هو الجديد الذي جاء به هذا الكتاب؟ هو إضافة نوعية في حقل الدراسات الأندلسية وتاريخ الفلسفة في الغرب الإسلامي عامة، لأن الباحث عمل على جمع وتصنيف وتوثيق أغلب نصوص الفيلسوف ،موجودة في مخطوطات منها ما حقق والبعض ما زال ينتظر. في سيرة ابن باجه: خصص جمال راشق القسم الأول من كتابه لحياة ابن باجه، استقصى فيه جميع ما كتب عن فيلسوف سرقسطة وفاس، وتتبع سيرة الرجل من خلال نصوصه وتواليفه، ومن ترجمه من أصحاب الطبقات والأعلام. ولدينا بعض الملاحظات النقدية التي لا تقلل من العمل بقدر ما تغني النقاش الدائر حول عمر ابن باجه وكذا مدة مكوثه في فاس، نعرضها على الشكل التالي: أ-حول تاريخ ولادة ابن باجه: لم يحاول الباحث تحديد تاريخ الولادة، واكتفى بالإشارة إلى أن المصادر القديمة لا تذكر شيئا عن سنة ولادته، وذكر جمال الدين العلوي الذي حددها بين سنتي 470 و475 ه، وقد خلص إلى هذا التاريخ بناءا على تأمله لمراحل تكوين ابن باجه العلمية، من خلال رسالته التي بعث بها إلى الطبيب أبي جعفر يوسف ابن حسداي الأندلسي (ت522ه/1128م). وكذلك حاول الجابري (2010/1936م) تحديدها في سنة 475 ه، دون أن يقدم دليله أو مصدره في ذلك. لكننا نذهب إلى أنه ولد في العقد السادس من القرن الخامس الهجري، وحججنا في ذلك ما نعثر عليه من إشارات مبثوثة في ثنايا نصوص الرجل. ففي المقالة السابعة من شروحات السماع الطبيعي، يتحدث ابن باجه عن استنباط هندسي لأستاذه ابن السيد المهندس، وإذا كان هذا الاستنباط أو الكشف الجديد قد أرخ له ابن باجه بسنة 480 ه، فإنه في رسالة بعث بها إلى صديقه وتلميذه الوزير أبي الحسن ابن الإمام (توفي بعد547ه/1152م) يقول فيها: "وقد كنت قلت إنه بلغك أن عبد الرحمان ابن السيد كان قد استخرج براهين في نوع هندسي لم يشعر به أحد قبله ممن بلغنا ذكره...". فإذا كان ابن باجه وحده من احتفظ بهذا الكشف وأتم براهينه بعد تلف الرجل الآخر، فإن هذا التلقي كما يبدو من سياق النص كان مباشرا وإملاء من الشيخ المهندس على تلميذه الفيلسوف، ومعنى ذلك أن ابن باجه في سنة 480ه كان تلميذا في مستوى هذا التلقي ولديه استعداد وروية، فكم كان سنه آنذاك؟ نعتقد أنه في أقصى الحدود لم يكن ليتجاوز العشرين سنة كعمر مقبول لدراسة العلوم والتمكن منها وبلوغ الغاية فيها، وهو ما يدفعنا للعودة عشرين سنة من تاريخ التلقي الهندسي بالضبط في 460ه كتاريخ نقترحه لولادة الرجل. لأن السنة التي اقترحها جمال الدين العلوي ومحمد عابد الجابري تجعل سن ابن باجه أثناء هذا التلقي بين عشر وست سنوات وهو الأمر الذي نشك فيه. ولا غرابة، إذا قلنا إن لهذه المسألة أهميتها بالنسبة للباحث في سيرة الرجل، فلقد أجمع كل من ترجم لفيلسوفنا من القدامى على موته شابا لم يتكهل، وتابعهم في ذلك أغلب المحدثين، وهو الأمر الذي لا يستقيم مع كرونولوجيا حياة الرجل الغنية بالأحداث. ب-في دعوى وفاته شابا لم يتكهل: أثار جمال راشق في ترجمته لابن باجه ما قيل عن وفاته شابا لم يتكهل، وهي دعوة جاءت عند ابن أبي أصيبعة (600ه-1203م/668ه-1270م)، ونقلها عنه جميع من ترجم للرجل، حيث ذهبوا إلى أن المنية اخترمته شابا لم يتكهل، وهو ما لا يقع عليه الباحث في ثنايا تواليف الرجل، ففي رسالة الوداع التي بعث بها إلى تلميذه الوزير ابن الإمام (توفي بعد547ه/1152م) يخاطبه ويقول: "إني قد تقدمت فسلكت من العمر القدر الذي بين سني وسنك، وليكن لك البقاء الأطول حتى تجاوز هذه السن التي أنا اليوم فيها". يدل هذا النص على أن سن فيلسوفنا كانت ضعف عمر صديقه ابن الإمام الذي كان وزيرا بالفعل في اشبيلية ثم بعد ذلك رحل إلى مصر حيث كانت بينه وبين ابن باجه مراسلات، وقد علق جورج زيناتي على هذا النص وقال: "أعتقد مع دنلوب أن إبن باجه عاش أكثر من خمسين عاما للسبب التالي: أن ابن باجه في بداية رسالة الوداع الموجهة إلى صديقه ابن الإمام الذي كان يعمل بالفعل وزيرا لدى المرابطين، صرح بأن بينه وبين صديقه فرقا كبيرا في السن...". من خلال نص ابن باجه وتعليق جورج زيناتي عليه، يبدو أن مسألة موته شابا يطالها الشك، وهو الأمر الذي ذهب إليه أيضا الأستاذ شلومون مونك (1803/1867م) الذي أكد موته في سن متقدمة، وكذلك دنلوب (1909/1987م) في اعتقاده بأن ابن باجه تجاوز الخمسين سنة عند وفاته. ج-حول مدة استقراره بفاس: يقول جمال راشق: "... قصد )ابن باجه( فاس بالمغرب الأقصى حيث عمل طبيبا في البلاط المرابطي، ووزيرا لدى أبي بكر يحيى بن تاشفين مدة عشرين سنة حسب رواية القفطي (1248م/ه646)، وهي رواية لا يرقى إليها الشك في اعتقادنا". لكن في الكتاب نفسه نجد نصا بالغ الأهمية أورده الباحث عند وصفه لمخطوط أكسفورد الذي يحتوي على تصدير ابن الإمام للمجموع المحتوي على أقاويل ابن باجه. ونفهم من هذا النص أن المجموع نقله ابن الإمام بيده مباشرة عن ابن باجه إملاء في اشبيلية سنة 530ه، وهذا يطرح العديد من الشكوك حول رواية القفطي والمقري (986-1041ه/1578-1631م)، لأن ذلك لا يتفق مع دخوله فاس حوالي 514ه واستوزاره عشرين سنة ووفاته بها سنة 533ه. ربما يكون ابن باجه مكث في فاس بين 530ه و533ه، أي ثلاث سنوات فقط. وقد تداولت الأمر مع الباحث وأخبرني أنه أصبح أميل إلى هذه الرواية (أي مكوثه فقط ثلاث سنوات بفاس) وذلك بعد بحثه في الجانب الموسيقي لابن باجه، وكيف أنه يعد صاحب التلاحين المعروفة اليوم في المغرب بطرب الآلة، فكيف يعقل أن لا نقف له على أي ذكر بين شيوخ الموسيقى سواء في التواليف (على قلتها) أو ذكر شفهي وقد مكث عشرين سنة بفاس. جديد محاولة جمال راشق في ترتيب مؤلفات ابن باجه: لقد تتبع جمال راشق نصوص الفيلسوف، انطلاقا من إدراكه بأن أي محاولة لترتيبها بالرجوع إلى الفهارس القديمة أو الحديثة تكون غير مجدية، لأن الرجل لم يعن بتأريخ نصوصه، غير أن هذا الجزء من الكتاب يحمل بعض الأخطاء وقد اعتراه خلل كبير تمثل في سقوط ورقة أو ورقتين ترتبان تواليفه الطبيعية، الأمر الذي انتبهنا إليه من خلال تصفحنا لهذا العمل في نشرة سابقة له تحت عنوان: "ابن باجه فيلسوف سرقسطة وفاس 533ه/1139م سيرة وأعمال، دار النشر: فضاء ادم، مراكش، 2016". وقد جاء هذا الجزء الساقط على الشكل التالي: كل النظر الطبيعي يقع بعد 503 للهجرة: قول أرسطو هل حدثت الحركة ولم تكن. وله ابتداء آخر في الثامنة. وله ابتداء في شرح المقالة السابعة والثامنة. رسائل منثورة من السماع. ومن قوله في الثانية من السماع. ابتداء في شرح المقالة الثامنة. ومن الأقاويل المنسوبة إليه رضي الله عنه. السماع الطبيعي. ومن متقدم قوله في معاني الثامنة. شرح الآثار العلوية. الكون والفساد. في ماهية الشوق الطبيعي. كتب رضي الله عنه إلى الوزير أبي الحسن بن الإمام (بعد 512 للهجرة). كتاب النفس. النيلوفر. الحيوان. كتاب النبات. وهو ترتيب يبدو جديدا ومحاولة تسعف في تمثل كرونولوجيا تواليف ابن باجه، كما أنه يختلف عمن سبقه خصوصا محاولة المرحوم جمال الدين العلوي التي يعتبرها جمال راشق أفضل محاولة كتبت عن المتن الباجي، والاختلاف واضح في أمرين أساسيين: الأول: محاولة جمال الدين العلوي ترتيبٌ لمراحل الفكر الباجي، في حين يُعتبرُ عملُ جمال راشق محاولة في ترتيبِ كتابات ابن باجه. الثاني: رتب جمال راشق في محاولته الأقوال المشكوك في نسبتها وجعلها عبارة عن مراسلات بين ابن باجه وتلميذه ابن الإمام، بعد أن شكك في نسبتها العلوي وأسقطها من ترتيبه. من خلال ما سبق تبدو أهمية هذا العمل، الذي يعتبر عملا أكاديميا متخصصا ومدخلا لكل باحث في فلسفة ابن باجه، رغم أن العمل شابته بعض الأخطاء التي يمكن تجاوزها في نشرات لاحقة، منها الحاجة إلى مراجعة أرقام بعض المخطوطات التي وردت أثناء وصفها، مراجعة الخلل الذي لحق محاولة المؤلف في ترتيب مؤلفات ابن باجه، مراجعة الجزء الخاص ببليوغرافيا عامة عن ابن باجه لأنه أغفل الكثير من الدراسات والأبحاث التي صدرت قبل نشر هذا العمل، غير أن هذه الملاحظات لا تنقص من قيمة هذا الكتاب من خلال العناية الفائقة بمصادره ومراجعه وغنى الهوامش والإحالات التي تدل على اطلاع واسع بالموضوع والتزام تام بالأمانة العلمية والبحث الأكاديمي الجاد والرصين. * أستاذ الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي في المغرب [email protected]