ورد في الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى العشرين لعيد العرش ما نصه: "صحيح أن الدولة والقطاع العام، والهيآت المهنية الوطنية، قاموا بمجهودات كبيرة للنهوض بدورهم والارتقاء بمستوى عملهم، إلا أن بعض القطاعات والمهن الحرة مثلا تحتاج اليوم إلى الانفتاح على الخبرات والكفاءات العالمية، وعلى الاستثمار الخاص، الوطني والأجنبي. وقد عبرت العديد من المؤسسات والشركات العالمية، عن رغبتها في الاستثمار والاستقرار بالمغرب. وبقدر ما يبعث ذلك على الارتياح، للثقة التي يحظى بها المغرب، فإن القيود التي تفرضها بعض القوانين الوطنية، والخوف والتردد الذي يسيطر على عقلية بعض المسؤولين؛ كلها عوامل تجعل المغرب أحيانا في وضعية انغلاق وتحفظ سلبي. فالذين يرفضون انفتاح بعض القطاعات، التي لا أريد تسميتها هنا، بدعوى أن ذلك يتسبب في فقدان مناصب الشغل، فإنهم لا يفكرون في المغاربة، وإنما يخافون على مصالحهم الشخصية. بل بالعكس، فإن الاستثمار الأجنبي في هذه القطاعات، سيدعم جهود الدولة، ليس فقط في توفير الشغل، وإنما أيضا في تحفيز التكوين الجيد، وجلب الخبرات والتجارب الناجحة". وقد أثارت هذه الفقرة من الخطاب الملكي نقاشاً وسط المنتسبين لمهنة المحاماة، حيث اعتبر البعض أن المهنة معنية به، وأن مضمون الفقرة المذكورة دعوة صريحة لعولمة المهنة، وتشجيع المكاتب الأجنبية للاستقرار بالمغرب. وفي اعتقادي المتواضع، فإن مهنة المحاماة غير مقصودة بالخطاب الملكي، ودليلنا على ذلك أن النقاش حول فتح الباب للمستثمرين الوطنيين والأجانب في مكاتب المحامين لا يكتسي أية راهنية ضمن النقاش المهني، ولم يكن من ضمن خلاصات الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة، كما لم يشكل-حسب علمنا-تيمة من التيمات المعروضة على أنظار اللجنة المشتركة بين وزارة العدل وجمعية هيئات المحامين بالمغرب المكلفة بمراجعة قانون المهنة. وفي المقابل، وجب التذكير بأن هذا النقاش كان حاضراً بقوة داخل المنظومة الصحية بالمغرب، حيث طفى على الساحة خلال فترة وزيرة الصحة السابقة ياسمينة بادو، بمناسبة طرح مشروع تعديل القانون 10-94 المتعلق بمزاولة مهنة الطب، وخاصة المادة 57 منه التي "تسمح بإمكانية حيازة مصحة من طرف غير الأطباء، مثل الشركات التجارية أو الأشخاص المعنويين الخاضعين للقانون الخاص". كما عاد النقاش نفسه إلى الواجهة بمناسبة مصادقة الحكومة على مشروع قانون رقم 13-131 المتعلق بمزاولة مهنة الطب، تقدم به وزير الصحة آنذاك الحسين الوردي، الذي يفتح مجال الطب أمام المستثمرين، كما يسمح للأطباء الأجانب المزدادين بالمغرب بممارسة المهنة. وقد أثار هذا المشروع في حينه حفيظة نواب حزب العدالة والتنمية، حيث اعتبروه محاولة من الحكومة لتفويت ما عجزت الدولة عن القيام به من خدمات علاجية لصالح الأجانب، وأن الصحة خدمة عمومية لا يمكن للقطاع الخاص أن يعوض الدولة في هذا المجال. كما أثار المشروع حفيظة عدد من المشتغلين في القطاع الصحي، وخاصة أصحاب المصحات الخاصة، على اعتبار أن فتح رأسمال المصحات الخاصة لغير الأطباء سيفتح المجال أمام الاستثمار التجاري الذي لا يحكمه سوى منطق الربح، وأن ذلك سيضر بالمركز المهني والاعتباري للأطباء الذين تندرج مهنتهم ضمن المهن الإنسانية ويؤدون القسم قبل مزاولة عملهم، وسيتحولون إلى مجرد أيدي عاملة لدى مالكي رأس المال. وفي خضم هذا السجال جاء الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح السنة البرلمانية بتاريخ 12 أكتوبر 2018، الذي انتصر لخيار فتح باب الاستثمار في المجال الصحي أمام الأجانب، حيث ورد فيه: "وفي نفس التوجه الهادف للنهوض بالتشغيل، ندعو لدراسة إمكانية فتح بعض القطاعات والمهن غير المرخصة حاليا للأجانب، كقطاع الصحة، أمام بعض المبادرات النوعية والكفاءات العالمية، شريطة أن تساهم في نقل الخبرات، وفي خلق فرص شغل للشباب المغربي حسب مؤهلاتهم. ومما يزكي هذا التوجه، الاهتمام المتزايد الذي تعبر عنه العديد من المصحات والمستشفيات العالمية، المشهود لها بالتميز، من أجل الاستثمار في بلادنا". واضح إذن من خلال الربط بين مضمون الخطابين الملكيين أن المقصود هو قطاع الصحة استحضارا للسياقات المشار إليها، التي لم تشهد مهنة المحاماة مثيلا لها، خاصة وأن القانون رقم 28.08 المتعلق بتعديل القانون المنظم لمهنة المحاماة لا يمنع الأجانب من ممارسة المهنة، حيث نصت الفقرة الأولى من المادة الخامسة منه على أنه يشترط في المترشح لمهنة المحاماة أن يكون مغربيا أو من مواطني دولة تربطها بالمملكة المغربية اتفاقية تسمح لمواطني كل من الدولتين بممارسة مهنة المحاماة في الدولة الأخرى، مع مراعاة مبدأ التعامل بالمثل مع هذه الدول. كما نصت المادة 18 من القانون نفسه على أنه يعفى من الحصول على شهادة الأهلية لممارسة مهنة المحاماة ومن التمرين المحامون المنتمون لإحدى الدول الأجنبية التي أبرمت مع المغرب اتفاقية دولية تسمح لمواطني كل من الدولتين المتعاقدتين بممارسة مهنة المحاماة في الدولة الأخرى، وذلك بعد إثبات استقالتهم من الهيئة التي كانوا يمارسون بها. أما على مستوى الواقع، ودون التقيد بالمقتضيات القانونية المؤطرة للموضوع، فقد بادرت العديد من مكاتب المحاماة الدولية إلى فتح فروع لها بالمغرب (خصوصا بالدار البيضاء)، والإعلان عن خدماتها علنا على شبكة الأنترنت، ويمكن أن نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ثلاثة من أشهر مكاتب المحاماة الإنجليزية وهي: "Allen & Overy"، "Clifford Chance"، "Norton Rose Fulbright"، فضلا عن العديد من مكاتب المحاماة الفرنسية التي من أشهرها: "FIDAL"، "BFR"، "CMS"، "DONTONS"... *محام بهيئة القنيطرة