يعتبر العنف من المواضيع الاجتماعية التي أثارت اهتمام العديد من الباحثين في علم الاجتماع، فإلى جانب تعريفه الشامل باعتباره (كل سلوك مادي أو معنوي مقصود يسبب أذى جسديا أو نفسيا...) إلا أن مفهومه السوسيولوجي يشير إلى كل ما يربك النظام الاجتماعي والعلاقات القائمة بين أعضائه. العنف الرمزي هو أحد أشكال العنف الاجتماعي، وقد عرفه بيير بورديو بأنه: شكل هادئ غير محسوس من طرف ضحاياه، يمكن أن يصدر عن شخص أو جماعة بواسطة كلمات بريئة ظاهرياً أو إشارات... ويدخل ضمنه كذلك: التباهي والتفاخر من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات التراسل الفوري. نتحدث، إذن، عن سلوك خاص قبل الظاهرة العامة.. فكما ورد في مقال سابق، فالسلوك الفردي هو منشأ الظاهرة، والذي يعم في المجتمع ويتناسل ليشكل فيما بعد الظاهرة الاجتماعية. وبإلقاء نظرة سريعة على مواقع التواصل الاجتماعي نجد أنها تعج بأشخاص من الجنسين ومن مختلف الأعمار والشرائح يتباهون ويتفاخرون بشكل متكرر، فصار الأمر فعلا ظاهرة اجتماعية تستحق الوقوف عندها. التباهي والتفاخر باعتباره عنفا رمزيا الأكيد أن العنف الرمزي هو جوهر واحد وبتجليات متعددة، لكن ما يهمنا منها في هذا المقال هو تلك المواد التي ينشرها البعض بقصد التفاخر والتباهي، والتي تهدف إلى تمجيد الشخص لنفسه بشكل مبالغ فيه، وإحاطته بهالة خاصة قصد إثارة الانتباه إليه من طرف رواد هذه المواقع، بوضع صور شخصية له في إطار معين مثير للانتباه وإدراج أخبار ومعلومات عنه مبالغ فيها والإعلان عن جديد حالته الاجتماعية والمهنية بشكل مثير أو طرح صور لأنشطة شخصية تهمه هو فقط (سفر إلى الخارج، التبضع من أحد المحلات الشهيرة، سفر عبر الطائرة، مأدبة فاخرة، جلسة في مقهى، صورة بملابس معينة...)، أو التطرق لأحداث ذات طابع شخصي صرف (احتفال باذخ بمناسبة عائلية، هدية للزوجة...)، فهذه الأمور لا تفيد المتلقي في شيء، بل قد تكون أقرب إلى التبجح وأحيانا أخرى الرغبة في توجيه رسائل مبطنة إلى أشخاص بعينهم قصد إثارة غيظهم، ليصل الأمر بالشخص إلى تصنيف المتصفحين إلى صنفين: أعداء وأصدقاء حسب تفاعلهم مع مواضيع (التباهي) التي نشرها. إن طرح هذه المواد - ما لم يكن الغرض منه هو نشر إفادة أو تبادل معلومات أو إخبار بحدث اجتماعي هام - لا يقدم أية قيمة مضافة بقدر ما يسيء إلى صاحبه، خاصة إذا علمنا أن من يلجأ إلى أسلوب التباهي والتفاخر يهدف غالبا إلى محو صورة غير مقبولة قد تكون سائدة عنه داخل المجتمع أو بسبب فقدانه الثقة في نفسه أو الغرور الزائد؛ فالأمر ليس سوى مجرد صراخ عبر الصوت والصورة يود صاحبه أن يقول من خلاله للمتصفحين: (أنا رائع، مدهش، عليكم الإعجاب بي)، فتكون النتيجة عكسية تماما، إذ يضر ذلك بسمعته ويحط من قيمته، وقد لا يدرك هذا الأمر فيستمر في إعادة إنتاج نفس السلوك. في هذا الإطار، سبق أن أجرت عالمة النفس البارزة كارا بالمر وزملاؤها بحثا عميقا حول هذه الظاهرة فوجدوا نتائج مذهلة، إذ أظهرت نتائج هذا البحث أن الناس لا يغيرون آراءهم حول المتباهين بشكل إيجابي، بل يأخذون عنهم انطباعات غير حميدة، فالناس يعتبرون المبالغين في التباهي أشخاصا مزعجين، ليصير الأمر فعلا عنفا (رمزيا) يولد عنفا مضادا. إن مجموع هذه السلوكات، التي تشكل ظاهرة العنف الرمزي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ستبقى شاهدة على تناقضات مجتمعية واضحة للجميع؛ حتى وإن بقيت على مستوى الفضاء الافتراضي فإنها مؤشر دال على انهيار القيم في العلاقات الاجتماعية انطلاقا من الأسرة، فالمواقع الإلكترونية وتطبيقات التراسل ووسائل التواصل عموما هي وسيلة للإفادة والاستفادة والنهل من مختلف المعارف وتسهيل التواصل بين الناس، وليست ميدانا للتباهي والتنافس المتوحش الذي ينتج التنافر بين أفراد المجتمع الواحد، وفي أحسن الأحوال سيادة علاقات اجتماعية يشوبها النفاق وترضية الخواطر. *باحث في السلوك الاجتماعي.