تجدَّدَ موعدُ محِبّي فن كناوة واكتشاف الفنون العالمية للعام الثاني والعشرين مع مهرجان الصويرة كناوة وموسيقى العالم، حيث استقبلتهم القباقب والقِيثارات والمزامير.. والنوارس التي تُغالِبُ أجنحتُها رياحَ المدينة. كما تجدّد موعدهم مع النقاش الحقوقي الواعي في الدورة الثامنة من منتدى الصويرة لحقوق الإنسان. ونجح "مهرجان كناوة"، منذ رأى النور ثلاثَ سنوات قبل مطلع الألفية الثالثة، في ربط اسم مدينة الصويرة، عالميا، ب"فن كناوة"، وجعلِ منصّاتها محجّا لمُحِبِّي اكتشاف الثقافات؛ وهو ما خَلُصَت إليه دراسة أنجزها مكتب الدراسات "فاليان"، بطلب من المهرجان، ذكرت أيضا أن كل درهم استُثْمِرَ في المهرجان عاد على المدينة بمردود قدرُهُ سبعة عشر درهما.. ويمثّل هذا المهرجان نموذجا للصناعة الثقافية التي تبني الوعي بغنى الموروث، ولا تكتفي بإحياء جوانبه الفلكلورية؛ بتكتيلِها الجهود والطاقات لإثارة نقاش غيور حول كيفية تثمينه وصيانته وخلق سمعته عالميا، لتزيدَ إشعاعَه وطنيا وعالميا، فتكون بالتالي "رافعة للتنمية". جريدة هسبريس الإلكترونية التقت نائلة التازي، منتجة "مهرجان الصويرة كناوة وموسيقى العالم" مديرة فدرالية الصناعات الثقافية والإبداعية التابعة للاتحاد العام لمقاولات المغرب، وسألتها عن مميّزات الدورة الحالية لمهرجان كناوة، ومقصد مواجهة منتدى حقوق الإنسان، الذي ينظِّمُهُ المهرجان، ثقافةَ العنف بقوة الثقافة، ومدى مساهمة المهرجانات الموسيقية في رفع مستوى الوعي الثقافي لمرتاديها، ومدى نجاحها في خلق سمعة عالمية للمغرب. ما الجديد الذي حملته الدورة الثانية والعشرون من مهرجان الصويرة كناوة وموسيقى العالَم؟ كما أقول دائما، لا تشبه أي دورة من دورات المهرجان سابقاتها؛ لأننا نخلق في هذا المهرجان نموذجا ثقافيا فريدا من نوعه؛ فلا يوجد أوّلا مهرجان آخر يركّز على "موسيقى كناوة"، فهذا هو المهرجان الوحيد في العالم المبني على ثقافة كناوة التي تجر وراءها تاريخا وشعبية.. وثانيا، نمزج موسيقى كناوة مع أنغام أخرى؛ فبالتالي عروض المهرجان تنظّم خصّيصا ل"مهرجان كناوة"، وبعد أن تربط علاقةٌ قويةٌ الموسيقِيِّين الأجانب بموسيقِيِي كناوة، يعبّرون عن تمنيهم تجدُّدَ اللقاء، وهو ما يساهم في تنظيم عروض أخرى مشابهة في مهرجانات أخرى، أو تسجيل أقراص مشتركة.. وهو ما يجعلنا وكأنّنا نفتح الأبواب لتجربة تُخلَق في الصويرة ثم تسافر إلى أماكن أخرى. بالنسبة لهذه الدورة، استمرّ حضور "المْعَلْمين" الكبار لموسيقَى "كْناوة"، وهم حوالي عشرين أو ثلاثين فرقة من مختلف أنحاء المغرب شمالا وجنوبا ووسطا، ونُظِّمَت عروض مزجت أعمالهم الفنية بموسيقى لم يرها جمهور المهرجان من قبل، فكانت هناك فرقة كوبية، والفلامينكو، واستمرّت البصمة الإفريقية بقوّة في المهرجان، لأن جذور هذه الثقافة جاءت من دولة إفريقية.. وكرّم المهرجان راندي ويستون، الذي يعد آخر رجل كان جزءا من جيل كبير من موسيقيي الجاز، وكان من فناني الأفرو-جاز الذين بحثوا عن أصولهم؛ لأن أباه كان يذكّره بأصله الإفريقي ويحثُّه على ألا ينساه أبدا، وكذلك فعل.. وهكذا التقى مع "كناوة" في السبعينيات، وتوالت سفرياته إلى المغرب.. وبعد وفاته، اخترنا تكريمه. ومن بين ما رافق المهرجان منتدى حقوق الإنسان الذي وصل إلى دورته الثامنة، بعدما أسّسناه في عام 2012 بشراكة مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي تأسّس بعد دستور 2011؛ لمرافقة النقاش الديمقراطي مع المؤسسات الجديدة.. ف"مهرجان كناوة" بُنِيَ منذ بدايته على فكرة المساواة، وعلى أفكار الدَّمَقرَطَة، والمساواة في الفرص، والمهرجان المجاني الذي يمكن أن يحضُرَه الكلّ، والثقافة للجميع.. والفكرة - الأساسية من كل هذا - هي: ليس هناك فرق.. ولكل مواطن مكانه في هذا المهرجان؛ لأن للمواطنين الحقّ في الوصول إلى الثقافة؛ لما لها من دور كبير في التعليم والتكوين ومساعدة الإنسان على التطوّر والتثقّف. لم اختار منتدى الصويرة لحقوق الإنسان، الذي ينظَّم موازاة مع المهرجان، شعار "قوة الثقافة في مواجهة ثقافة العنف"؟ لأننا نعيش زمنا صعبا، فيهِ انطواء أو تقوقع هويّاتي، أي "Repli identitaire"، وخوف من المهاجرين، وخوف من المسلمين، وعنصرية و"رُهابُ أجانب"، وعنفٌ في وسائل الإعلام التي عندما نشغّلها تخبرنا بأن عشرين ماتوا هنا وثلاثين ماتوا هناك فتتبلّد أحاسيسنا، وعنفٌ في وسائل التواصل الاجتماعي وفي الألعاب الرقمية التي صار الأطفال يقتلون فيها وكأن الأمر عادي، بينما كل هذه أمور غير طبيعية. نحن، إذن، في حاجة إلى مناقشة هذا الموضوع، وأردنا باختيار وضعه على مائدة النقاش في الدورة الثامنة من المنتدى إعطاء فرصة مناقشته داخل بلادنا خلال هذا المهرجان الذي يأتي إليه الناس، طبعا، للاحتفال، ومتابعة العروض والموسيقى؛ ولكن وجبَ علينا أيضا أن نقتطِعَ من هذا وقتا للنقاش، والاستماع للأفكار، وتبادل الآراء؛ فهذا المهرجان مفتوح لكلّ الحساسيات، لتشارك في النقاش وتقدِّمَ آراءَها، وتلتقي مع أشخاص من الممكن ألا يتحقّق اللقاء بهم خارج هذا المكان، فقليلةٌ المناسَباتُ التي يمكن أن ترى فيها المسؤول السياسي أو الحكومي إلى جانب طالبة، وبجانبها أستاذ جامعي.. أردنا إذا خلق هذه الفرصة؛ لأن الثقافة هي الأمر الوحيد الذي يجمع الناس. ساهم مهرجان كناوة في التعريف بمدينة الصويرة على المستوى العالمي.. مع بداية الموسم السنوي للمِهرجانات الموسيقية بالمملكة، ما مدى مساهمتها، في نظرك، في التعريف بالمغرب؟ هي مساهمة قوية كثيرا، ومهمة كثيرا؛ لأن صورة المغرب التي تعكسها هذه المهرجانات، والرسائل التي تقدّمها هذه المهرجانات، لا يمكن أن تصل بأي إشهار؛ فكأننا نبيِّن للخارج، عن طريقها، ماهية المغرب. أوّلا، إذا أردنا التعارف مع دول أخرى يجب أن نعطي ساكنتها فرصة القدوم عندنا لتعرفَنا، والمهرجاناتُ فرصة للقيام بهذا، كما أننا نبحث في ثقافات بلدان أخرى وندعو فنانيها إلى تعريف الجمهور المغربي بها؛ لأن ليس في استطاعة الجميع السفر ومتابعة المهرجانات خارج المغرب. من جهة أخرى، هؤلاء الفنانون يزورون المغرب لرؤية بلادنا، ويتحدّثون عن أخلاق المغاربة، وماهية المغرب، والإعلام الذي يأتي - يعرّف بالمغرب -.. والثقافة تبادل.. فالفنّان عندما يحضر يستقرّ في المدينة أربع أو خمس أيام على الأقل، وبالتالي يرى المغرب، ولا يجلس في فندق ويلهو ثم يذهب إلى حال سبيله، بل يجلس ما بين أربعة وسبعة أيام في مدينة الصويرة؛ فيتعرّف على المغرب، ويحتكّ مع المغاربة، ويتجوَّلُ في المدينة، ويلتقي مع الناس المضيافين، فيعرف، بالتالي، ما هو المغرب.. والصحافة التي تغطّي المهرجان، تعيش تجربة حقيقية، تعرف عبرها مستوى تقديرِ ساكنة المغرب للثقافة، بعد أن تشهد حضورَ مئات آلاف الناس، وترى ما تحبُّه الأجيال الجديدة، ومدى انفتاحها على الأفكار الإنسانية وفكرة التعدّد.. وكل هذا يساهم في بناء صورة المغرب، لأن الصورة تبنى. في مهرجان كناوة ومهرجان فاس للموسيقى الروحية يحضر الناس من كل الأماكن، وترى أن عدد الأجانب الحاضرين أكبر من عدد المغاربة، وهي مواعيد يسجّلها الناس ليحضرُوها؛ لأنهم يعرفون أنهم سيجدون عروضا في مستوى عال، مع برمجة في مستوى عال، وتنظيم يظهر به المغرب قدرته التنظيميةَ، ومعاصرَته، وتدبيرَه، وأنه مهيكَل.. وكل هذا هو مغرب اليوم. وبوجود موعد مثل مهرجان الصويرة كناوة وموسيقى العالم، ينظِّم المشتغلون بالسياحة أنفسهم، ويعدّون أنفسهم ليكونوا في الموعد، فبالتالي مثل هذا المهرجان ينشّط مناخا اقتصاديا كاملا، وأضف إلى هذا الإشعاع، الدعاية في القنوات العالمية، والمقالات الصحافية، فتجد أن هذا يساهم في تثمين صورة المغرب بأكمله، وتثمين ثقافته، وتقاليده.. مع استحضار الانتقادات التي تتجدّد كل سنة عند عودة المهرجانات الصيفية، كيف يمكن للمهرجانات أن تستثمر جذبها جماهير المهتمّين لتؤدّي واجبها في التوعية بأهمية الثقافة والفن، وطبيعَتِهِما؟ لكل مهرجان خصوصيته، وبنينا مهرجان كناوة على قصة هي: لدينا تراث مهمّش وهو تراث يبرز تاريخنا الإفريقي، وأننا بلد إفريقي؛ وهو ما بدأناه منذ 22 سنة، في وقت كان فيه مغاربة قلائل يفكّرون بهذه الطريقة، لأن هذا المهرجان حقيقة بني على ثقافة جاءتنا من إفريقيا جنوب الصحراء. وعندما تريد إبراز هذه الثقافة من الضرورة الرجوع إلى أبعادها التاريخية والأنثروبولوجية، والبحث عمّن عبّروا عن أفكار في هذا الميدان من مؤرِّخين وغيرهم، وأقول دائما إننا ما نزال في البداية، وحتى هذا الجانب العلمي والتاريخي والموسيقي نادر.. عدنا إلى سنوات السبعينيات والثمانينيات التي أخذت فيها موسيقى "ناس الغيوان" و"جيل جيلالة" مكانا كبيرا بعد الكثير من الصعوبات، ولا يزال جيلكم يحفظ عن ظهر قلب أغانيهم، وهم قد استلهموا أغانيهم من عبد الرحمن باكو المْعَلَّم الكبير الذي اشتغلوا معه، ثم جاء مهرجان كناوة حلقةَ وصل بين مرحلتين، وجاء خطوة ثالثة لبناء قصة نحكيها -اليوم-. ونرى اليوم جيدا أن البعد الشعبي للمهرجان والموسيقى الكناوية يتجاوز الأجيال، وهذا هو الرائع؛ لأننا نرى أناسا من مختلف الأجيال يحضرون المهرجان. هناك أيضا قصة انتمائنا الإفريقي التي أصبحت في السنوات العشرين الأخيرة حقيقية بقوة، وتبنّاها السياسي والاقتصادي، على المستويين الوطني والعالمي. وهذا المشروع الثقافي الذي خُلِق منذ عشرين سنة، والحديث عن المغرب بوصفه جسرا ثقافيا للقارة الإفريقية مع الجاز الأمريكي، والسامبا، وموسيقى الكاندوبليه البرازيلية، وسنتِرِيّا كوبا، والبلوز.. التي كلُّها موسيقى أضحت مثيرة جدا للاهتمام.. والجماعة الأمريكية ذات الأصول الإفريقية التي كانت منفصلة عن أصولها، أصبحنا نرى موسيقيين كبارا قادمين منها مثل ماركوس ميلر وغاندي ويستون.. وكأنهم يعون أنّ لهم جذورا إفريقية قوية. فكرة الجسر المغربي هاته تجعل من هذا المهرجان شيئا مميّزا، فنوجَد داخل التراث المغربي، والتراث الإفريقي، وفي الوقت نفسه نحن ضمن التراث المشترك الذي يخلق روابط اجتماعية، ويخلق مناخا -خاصا-، وله بعد روحي قوي، ويبقى من الرائع أن نرى أعداد الأجانب التي تزور مهرجانا شعبيا مثل مهرجان الصويرة؛ وهو ما يجمع - ويمزج - الناس والأجيال ومختلف التراتبات الاجتماعية، حول موسيقى روحية. لهذا، أقول إن لكل مهرجان أسلوبه، ولا يمكن أن تخلَقَ كل المهرجانات على نفس المنوال، فنحن ندبّر منذ 22 سنة مشروعا ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا في الآن ذاته؛ فمدينة الصويرة بعد مهرجان كناوة تحوّلت، وبدأت تعرف دينامية اقتصادية، وبدأ يزورها السياح، وأصبحت تُعرَف بثقافة كناوة، وهو ما ذكرته دراسة أنجزْنَاها. وفي التسجيل الذي عرضناه في السنة العشرين للمهرجان، يقول ماركوس ميلر، الذي هو ملحّن الراحل مايلز دايفيس، وطيلة ثلاثة أيام اشترك مع "باقبو" في مزج موسيقي، وقال إنه "سينقل ما رآه في المهرجان إلى كل أنحاء العالم، لأنه مميّز جدا جدا".. وبالفعل، هو "مميّز جدا جدا"؛ لأننا نعيش في عالم يصعب أكثر فأكثر، ويزداد انغلاقا وجمُودا، ونأتي في هذا المهرجان لأربعة أيام يتوقّف فيها الزمن، ولا نستعمل السيارات بل نمشي على أقدامنا، ونلتقي الناسَ ونتحدّث معهم، في بلد عربي مسلم إفريقي، وهذا ما يراه الأجانب، ونحسّ بشعور نكاد لا نجده في أي مكان اليوم. توجد مهرجانات للتسلية، وتوجد مهرجانات للتنشيط الثقافي، وهي عروض للبَرمجة الموسيقية، والاستمتاع بحضور عروض موسيقية، بينما "مهرجان كناوة" مشروع ثقافي، وهو بحث موسيقي وتاريخي، وتفكير ثقافي، وتنمية اقتصادية، ولدينا مشروع سنوي نحضر فيه شباب الصويرة للدار البيضاء، بشراكة مع "لبولفار"، و"لوزين"، من أجل تكوينهم في المجال التقني والإعلامي.. ونستقبل متدربين من المغرب وفرنسا ومالي والنيجر.. فهذا مشروع ثقافي، وهو "قوة ناعمة"؛ وهذا ما نعنيه عند الحديث عن "قوة الثقافة". ونذهب إلى ما هو أبعد من التسلية، فمِهرجان كناوة نموذج لكيفية جعل الثقافة في خدمة مشروع مجتمعي، ورؤية، وتنمية اقتصادية وخلق فرصِ شغل.. والصويرة تحوّلت عن طريق المهرجان، ولا يمكن أن تكون كل المشاريع هكذا، وإلا لكانت لكل مدن العالم مهرجاناتها، بل يجب أن نجد الفكرة التي تمكّننا من خلق مشروع متميّز. مهرجان كناوة موعدٌ مع التميُّز المغربي، الذي يتمّ بثبات وتماسك حتى نتمكّن من تثمين فكرة "الرأسمال غير المادي" التي يصعب فهمها في بعض الأحيان، بوضعه في خدمة مدينة، وإقليم، ودولة، وهنا هذه وضعية المهرجان لأنه مهرجان تميّز ثقافي بالمغرب. اختار مهرجان الصويرة أن يعرّف ويعلي من شأن موسيقى كناوة، هل يمكن لفنون أخرى في مناطق مغربية أخرى أن تكون لها مهرجانات مماثلة بنفس الفاعلية؟ وكيف ذلك؟ طبعا، وهناك الكثير من المشاريع التي تهتمّ بهذا الأمر؛ لكن يجب أن تكون هناك إرادة سياسية، ومحلية، وحكومية، وجهوية.. فعندما بدأنا مهرجان الصويرة كناوة وموسيقى العالم، كنا شركة تواصل بالدار البيضاء في القطاع الخاص، وخلقنا نموذجا، وبدأنا نبني ونطلب مساعدة شركاء عموميين، نشكرهم على إنصاتِهم ومساهمتهم، على الرغم من أن الكثير مما يجب القيام به ينتظرنا؛ لكننا وصلنا إلى نوع من الشراكة بين القطاعين العام والخاص حتى نتقدّم ونفكّر في تنمية المشروع. في المهرجانات ليس الصعب هو أن تبدأ، بل أن تستمرّ، لأنها تحتاج جهدا كبيرا، وفي كل سنة عليك التفكير في برنامج مختلف لتفاجئ الجمهور، وتكسب ثقته، وهناك مشكل متجدّد للميزانية، ويخطِئُ عند من يتصوّر أن للمهرجانات ميزانية كبيرة؛ لأن الثقافة تتطلّب أن تجد ميزانية، وأن تُقنِع الصحافة ببرنامجك ومشروعك؛ وهذا عامل أساسي لنجاح مشروع فني وثقافي. في المغرب، بدأنا نبني نموذج الثقافة هذا، وعشت تجربة استمرت اثنتين وعشرين سنة مع هذا المهرجان، أعطتني خبرة جعلتني أفكر في أن أذهب أبعد، لا أن نعيد مواجهة نفس المشاكل كل سنة. خلقنا فيدرالية اقتصاديات الثقافة في الاتحاد العام لمقاولات المغرب، ونقول إن لقطاع الثقافة إمكانا هائلا لم يستغَلَّ بعد بالنسبة إلى التراث والإبداع والسياحة.. ف50 في المائة من السياحة الأوروبية مبنية على عروض الثقافة، وهذا جزء من المستقبل، وللمغربِ إمكانٌ ثقافيٌّ كبير جدا، وبما أن المغرب بلد يعتمد كثيرا على السياحة فإننا نحتاج تحقيق اندماج بين الثقافة والسياحة، لجعل هذا العرض الثقافي مقروءا بشكل جيد جدا، ومبنيّا ومنظّما بشكل جيّد جدا؛ لأنك عندما تكون في بلد تريد زيارة معالمه، ورؤية مهرجاناته، وسماع موسيقاه، والاطلاع على تقاليده، وهذه هي السياحة اليوم. وهذا يحتاج تنظيم المناخ الاقتصادي كاملا، وكل ما يبنيه، من ضرائب، وتشريع، وتكوين المهني؛ فنحن في بلد يحتاج تدريب الناس في مجال الثقافة، والعديد من التخصّصات غائبة، ونحتاج أناسا في مجالات الحقوق وحقوق المؤلف.. وهناك صناعة سينمائية تحتاج تقويتَها، وتواجهنا العديد من الصعوبات في الصناعة الموسيقية.. وهناك العديد من الأشياء التي نحتاج القيام بها، ويجب أن نقوم بها. نحن في بلد تحتلّ فيه الموسيقى مكانا هائلا، سواء كانت تقليدية أو حديثة أو شعبية، فهي جزء من حياتنا اليومية.. وبالتالي، هناك إمكان هائل للموسيقى، ونحتاج أن نستثمر هذا، وليس من العادي أن يعاني الموسيقيون اليوم ليسجّلوا ألبوماتهم الموسيقية ويسوِّقُوها، ويجب أن يعيش الفنان من عمله، وأن يكون القطاع منظّما ليكون الموسيقيُّ موسيقيّا، والممثّل ممثّلا، وأن يكون بإمكانهم أن تكون لهم أعمال، ولقاءات، ووكلاء، ومديرون، وملحقون صحافيون.. ويجب خَلْقُ ظروفِ الولوج إلى التمويل.. يجب تغيير كل هذا، إذا لم نرد أن نفوّت قطار التنمية، والنموذج الجديد للتنمية الذي تحتلّ فيه الثقافة مكانا مهما. من بين نماذج محاولات التعريف والإعلاء من شأن مكوّنات الثقافة المغربية، تقديم ملفّ طلب ترشيح فن كناوة للتسجيل في لائحة التراث الثقافي اللامادي للإنسانية، التي تشرف عليها اليونسكو.. هل سيكون نجاح تسجيل هذا التراث الثقافي باسم المغرب، فرصة للسير في سبيل التعريف بتعبيرات ثقافية مغربية أخرى، وتثمينها، وربطها بمكان نشأتها، على المستوى العالمي؟ إذا سُجِّلَ في شهر دجنبر المقبل إن شاء الله تراثُ كناوة في لائحة التراث الثقافي اللامادي للإنسانية، أستطيع أن أقول إننا قطعنا مرحلة، وأن أقول إن عمل 22 سنة جاء بنتيجة مهمة؛ لأنه لا يجب أن ننسى أن فناني كناوة كانوا يتسوّلون في الشوارع.. ثم بعمل متواصل امتدّ عشرين سنة سيدخلون لائحة تراث الإنسانية.. سيكون هذا دليلا على ما يمكن أن نقوم به بقوّة العمل. من الناحية الرمزية، سيدلّ هذا على ما يمكن أن نقوم به على مستوى البلد عندما نعمل يدا في يد، ويمكننا تصوّر الرسالة التي يقدّمها هذا للمتخيَّل الشعبي.. - علما أنه - الآن يقول لي معلْمون: كنا مهمّشين والناس يحترموننا اليوم، وينادونَنا عندما يعملون في مشروع مهمّ لنشاركهم في بناء الأفكار، ولي صديقة في مثل عمري سبق أن قالت لي إنها كانت تخجل من أن تقول في المدرسة إن أباها "كْناوي"، بينما صارت اليوم فخورة بالإفصاح عن عمل والدها. هذا مهّم لنا جميعا: أنْ نعرِفَ أنّ عن طريق العمل، والرؤية، والتضامن، -يمكن- أن نغيّر -واقع- الأشياء والتصوّرات، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن تسجيل تراث "كناوة" في لائحة اليونسكو -سيكون- إلزاما لنا جميعا؛ فعندما يسجّل تراثٌ ما ضمن هذه اللائحة، فإن لجنة تأتي بشكل منتظم لترى العمل الذي يتمّ في البلد من أجل الحفاظ على هذا التراث، وهو ما يستدعي أخذ إجراءات.. وعلى الرغم من أننا أحضرنا الملف فإن وزارة الثقافة هي التي وضعته ودافعت عنه، وهو ما يحتاج بالتالي عملنا، وعمل هيئات عديدة أخرى، للتفكير في مشاريع وإجراءات للحفاظ على هذا التراث بشكل أكبر مما سبق القيام به، لا تقتصر على مهرجان كناوة. ولهذا، طبعا، تأثير على جماعات أخرى تشاركنا المهرجان كل سنة مثل "حمادشة" و"عيساوة"؛ لأن هذا يوقظ الوعي، ويخلق دينامية، وهذا هو المهم.