قال محمد بنيس، شاعر ناقد مغربي، إن "صفقة القرن" "صيغة أمريكية وقحة ودنيئة للتعامل المتغطرس مع شعب أهدرَتِ الصهيونيةُ حقَّه التاريخي في أرضه باسم حقها الطبيعي المتعالي على التاريخ". وأضاف، في نصّ كتبه بمناسبة مبادرة ل"مجلة الدراسات الفلسطينية" دعت فيها نخبة من المثقفين العرب إلى تأمل جماعي في وضعية فلسطين اليوم، أن هذه الصفقة أصبحت "سارية المفعول، حتى قبل اكتمال فصلها الأخير". ورأى بنيس أن تنزيل "صفقة القرن" دُشِّن بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وثُبِّت بإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في نيويورك، وإلغاء أمريكا دعمها المالي للأونروا، وزاد قائلا إن هذه الإجراءات تفيد بنهاية فكرة حل الدولتين وحق العودة للاجئين الفلسطينيين، دونما حاجة إلى تنصيص القرار الأممي على "حدود 67" في الحل النهائي، وهو ما سيليه "إضافة الإهانة للإهانة والرعب للرعب والتشريد للتشريد، بترحيب أكثر من طرف عربي، سيشهر بلا مواربة تطبيع علاقته مع إسرائيل". وذكر الكاتب المغربي أن لا مفر من "الإقرار بأن أوضاعاً مركبة، من جهات متعددة، أدت إلى هذه الحالة"، ثم استدرك مبيّنا: "لكن، غياب ثقافة الحوار بين الفلسطينيين، وعدم بلورة رؤية فلسطينية مبدعة للمقاومة، مقابل ما تحققه إسرائيل من ترسيم الاستيطان وتهويد معالم فلسطين وإعلان يهودية الدولة العبرية، بدعم أمريكي ونفاق دولي، وتبعية عربية مضاعفة للغرب، وسيادة منطق المصالح على العلاقات الدولية بدلا عن المبادئ، في مقدمة العوامل التي الفاعلة في عزلة فلسطين". صورة فلسطين اليوم تبدو لبنيس ملبدة بسحب شديدة القتامة، وتفتقد الصوت وسط ضجيج يتراكم يوماً بعد يوم، في وقت لا حديث فيه سوى عن ما يسميه الأمريكيون "صفقة القرن"، وتتأكّد للكاتب هذه الصورة من خلال ما يلاحظه من مواقف سياسية، ومن خلال وقائع تتوالى، سواء على أرض فلسطين أو على الصعيدين العربي والدولي؛ حيث لم تعد التضحيات اليومية للشعب الفلسطيني في مركز المشهدين الإعلامي والسياسي، سواء كانت مسيرات عودة يُحْييها الشبان الفلسطينيون على مدى جمعات متتالية، طيلة ما يقرب من سنة، لرفع الحصار عن غزة والتذكير بالحق في أرضهم المحتلة، رغم القرارات الدولية، التي لم تفعل حتى الآن أكثر من مضاعفة أعداد الشهداء، بنفَس ملحمي أصبح شبه منسي. ويرى بنيس أن الانتصارات الرمزية التي حقَّقَتها القيادة الفلسطينية في محافل دولية لا تخفي محدودية جدواها، بينما ما يستبدُّ بالمشهد العام هو سطوة إسرائيل التي تفرض سياستها بالتهديد والعنف المتواصلين، مثلما تفرضه بابتعاد العرب عن الوقوف الفعلي مع الفلسطينيين، وبالاستفادة المطردة من الأوضاع الدولية، في ضوء هيمنة العولمة وجبروت الرئيس الأمريكي ترامب. وربط الشاعر المغربي وضعية فلسطين بالظرف العربي الكسيح اليوم الذي يتفاقم فيه انعدام الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، وزاد قائلا: "عاشت أغلب الدول العربية ارتجاجاً قوياً ومفاجئاً تمثل في "الربيع العربي"، إلا أن نتائجه كانت بالإجمال ذات مفعول عكسي لما حملته عاصفة الربيع من بشائر في أفق تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية نحو ما يمثل الحلم الجماعي". وشدّد بنيس على أن اليسار العربي لم يخطئ عندما رأى، إثرَ النكسة، أن تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي يمرُّ عبر تحرير العالم العربي من أنظمة الاستعباد والتبعية للغرب، ثم استرسل قائلا: "لكن، اندحار اليسار وظهور الإسلاميين بدَّل المسار بأكمله لما كان اليساريون يعتقدون أنه الطريق الصحيح لتحرير فلسطين من الاحتلال"، وأضاف: "عندما وقّع الفلسطينيون على اتفاقية أوسلو ساد نوع من الأمل أن فلسطين ستتجاوز معوقات الحرية في العالم العربي، وستصبح بالتالي نموذجاً للتعدد وتدبير الاختلافات بالوسائل الديمقراطية، مع إنصاف الشعب الفلسطيني بتحقيق العدالة الاجتماعية، ولكن ما حصل لاحقاً كان صادماً، لأن بنية السلطة الفلسطينية لم تختلف عن بنية السلطة العربية من حيث النظر، باستخفاف، إلى الممارسة الديمقراطية أو ممارسة الحريات". ويؤكّد بنيس أن الحديث عن المجتمع الفلسطيني ومؤسساته يتطابق مع الحديث عن عموم العالم العربي، من حيث الاختيارات الكبرى في العلاقات بين السلطة والمجتمع، وما يتطلبه الانتقال من فضاء مغلق إلى فضاء مفتوح يسمح لأي فرد بأن يتخيل حياة أساسها الحرية الفردية والجماعية. وشدّد على أن "هذه تحديات لا يمكن للتقنية أو المقاربة الأمنية أن تتولى إيجاد الحلول الملائمة لها، في مجتمع يعاني من الاحتلال بقدر ما يعاني من التخلُّف". ونفى الناقد المغربي بشكل قاطع أن تكون إسرائيل كما تروج لنفسها على أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، وزاد موضّحا: "هي بممارساتها ضد الفلسطينيين، نقيض ادعائها وأكاذيبها". ثم استرسل قائلا: ما يهم أكثر هو أن تبنِّيَ العلاقة النقدية تجاه أسئلة الواقع يمكن أن يخلقَ أملاً في مستقبل يتحرر فيه الفلسطينيون من الاحتلال الإسرائيلي ويؤسسون دولتهم المستقلة. وأول ما يجب فعله لتحقيق ذلك هو الوحدة الوطنية ومناهضة الفساد.. الذَين كلما تأجل البت فيهما كان ذلك مدعاة للريبة في القدرة على صيانة الأمل المطلوب. وذكر بنيس أنه يسائل باستمرار فاعلية ما يكتبه وما يشارك فيه من أنشطة ثقافية وما يسعى إليه، بسبب طبيعة الوضعية الحالية لغياب فلسطين عن الحقل الثقافي العربي، وهو الغياب الذي لا يفاجئه فيه شيء. وذكّر الكاتب بأن المثقفين النقديين كانوا هم المبادرين إلى مناصرة الفلسطينيين وإبراز القضية الفلسطينية، من خلال أعمالهم المتعددة ومواقفهم وأنشطتهم في الحياة الثقافية العربية أو على الصعيد الدولي، وهو ما يجب أن لا يُنسى وأن ينتبه إليه الشبان وإلى الكيفية التي نجحت بها نخبة من المثقفين النقديين في كتابة زمن كان عنوانه المقاومة المتعددة، في ذلك العهد الذي ولّى. ويرى بنيس أن عهدنا اليوم هو "عهد سيادة الإسلاميين الذين يناوئون الثقافة الحديثة، وأغلبهم يُحَرِّمُونَها ويُكَفِّرُونَ أهلَها من كبار الأدباء والكتاب والمبدعين، فيما هم لا يملكون أي منظور ثقافي للوقوف إلى جانب فلسطين؛ لأن رؤيتهم الدينية تحول دون الوعي بمعنى الثقافة". ثم زاد متحدِّثا عن المؤسسات الثقافية، ومنها الجمعيات بشتى أسمائها، التي لم يعد لها وجود في الشأن الثقافي، وهي إما كشفت عن وظيفتها الإدارية أو أنها افتقدت الرؤية والإرادة، وهي الأعطاب التي تجعل التفكير لديها غير ممكن في إبداع أنشطة تضيف إلى الفعل الثقافي بعداً له من الضوء بقدر ما له من الشمول، بينما ما يبقى على مستوى الجامعات فهو عمل بدون اجتهاد. ويتخوَّفُ بنيس من أن علاقة الثقافة العربية بالقضية الفلسطينية ستضيق مساحتها أكثر فأكثر، ويضيف قائلا: "ما يدفعني إلى الخشية هو إما سيادة القوى الدينية أو هيمنة الاهتمامات المحلية وأسبقية المصالح الشخصية، في زمن تراجُع الفكرة العربية والتحلل من فكرة التحرر". واسترسل الشاعر المغربي مؤكّدا: "مع ذلك، نحن بحاجة إلى إعادة بناء علاقة الثقافة العربية بالقضية الفلسطينية، وهذا ممكن على أساس ترسيخ الثقة في الفلسطينيين، والوفاء لتضحيات الشعب الفلسطيني والنقد المستمر لكل ما يشكل انحرافاً عن التشبث بالحقوق"؛ لأن "إعادة البناء تفيد بالدرجة الأولى حمايةَ المطالب المشروعة، والتخلص من اللغة المريضة بالكسل الفكري أو وهَنِ الخيال أو المبالغة في التمجيد"، وهو ما اعتبره "دعوة مفتوحة لإحياء القضية الفلسطينية في مجالات الثقافة العربية وفي محيطها الاجتماعي"، قبل أن يقترح "تخيُّلا أصعب"، هو "التفكير في إقامة مناظرة عربية من أجل فلسطين، برؤية ثقافية مبدعة ومنفتحة على العالم؛ لأن حماية روح المقاومة هو المسعى، حتى لا نترك إسرائيل وأمريكا وحدهما تفرضان القبول بصفقة القرن، وحتى لا نسمح لأي طرف عربي بالهجوم الأخير على الشعب الفلسطيني".