تختلج في الصدر وفي الذاكرة ومضات من الماضي بشكل متواتر ومستمر، ذكريات بهيجة تنير الماضي، نسعد بذكرها وإن رسمت بسمة حسرة على وجوهنا، وأشياء لا ينفع الإفصاح عنها فنفضل قبرها بين ثنايا البائد من الزمن. ويحدث أن يهتدي الماضي إلى وسيلة للعثور على النور في حاضرنا، وقد تكون تلك الوسيلة رغبة في البوح. وأدب البوح جنس يختلط فيه سرد وقائع الحياة واليوميات وطرح الهموم الفكرية والفلسفية انطلاقا من شعور دفين بالخطيئة ورغبة في التكفير؛ لذلك غالبا ما تكتسي كتابة البوح طابعا دينيا يسعى الكاتب من خلاله إلى مصالحة روحية مع الذات ومع البارئ واستنهاض الوازع الديني لدى القارئ. في غالب الأحيان ما يمر كاتب سيرة البوح بأزمات وجدانية وعقائدية ليجثو عند عتبة النص مثقلا بشعور الذنب والخطيئة، ساعيا إلى التطهر من خلال الإفصاح عن تلك الآثام. كانت هناك اعترافات كثيرة في الأدب الغربي، من أشهرها اعترافات جان جاك روسو؛ بينما يشح هذا اللون الأدبي بين الكتاب العرب، ربما لافتقادهم الشجاعة والجرأة المطلوبتين في كتابة البوح. ويعود ظهور هذا الجنس الأدبي إلى ما بثه كتاب "الاعترافات" للقديس أغسطين كأول سيرة بوح في الأدب الغربي. كان القديس أغسطين جزائري المولد، أمازيغي الأصل، وجد في اللغة اللاتينية موطنه الفكري وفي المسيحية عقيدته الدينية. كذلك هو كاتب "رواء مكة": أمازيغي قح يبوح ويلتمس الغفران بلغة عربية بلغ منه عشقها كل مبلغ، ويجد ضالته في عود حميد إلى بيت الإيمان. لا أدعي أن فكر حسن أوريد من عيار فلسفة القديس أغسطين، فقط وجبت الإشارة إلى بعض الشبه في الظروف والوسائل. لماذا الكتابة-البوح؟ يقول الكاتب في مستهل نصه "أكتب هذه الخواطر ثلاث سنوات بعد أدائي فريضة الحج، وأسعى أن أفهم ماذا جرى". (51) إن الكتابة سؤال كما يقول موريس بلانشو؛ ولهذا نجد الكاتب وهو على عتبة نصه يقارع الأسئلة لفهم ما جرى، لأن ما وقع له من تغيير يستحيل فهمه وشرحه بلغة الوضعية العقلانية. والكتابة-البوح ليست فقط محاولة فهم، وتقترب في ذلك إلى ما ذهب إليه الدكتور عبد الله الغذامي في ما سماه الخطيئة والتكفير من أن "الخطيئة طريق المنفى والتكفير طريق العودة إلى الفردوس". فنقرأ من بين ما نقرأ من مقارعات تثير تيمة الإزدواج في الكتاب: "ينبعي أن تخرج ما بصدرك إن أردت أن تتطهر" (45). وموضوعة أو تقنية الازدواج، وهي أحدى تجليات الأدب الغرائبي، تُبرز في المؤَلَّف حجم الصراع الذي يكتنف الكاتب ووعيه الواضح بثقل الخطيئة التي تدنسه كإنسان، فلا طهارة بدون اعتراف، ما يجعل من الكتابة-البوح سيل مياه للتطهر. استعارة الماء والتطهر تكتسي رمزية الماء أهمية قصوى في المؤلَّف، بدءاً من مجاز تطهير النفس من خلال البوح. والتطهر اغتسال وتوضؤ. وتأخذ استعارة الماء في تأسيس مجالها الدلالي بالتدريج عبر مجموعة من المحطات: هناك أولا عنوان الكتاب "رواء مكة". ويمهد الكاتب نصه بتوطئة مأخوذة عن ابن منظور، يشرح فيها الفرق بين الرَّواء والرُّواء. وقبل ذلك هناك الإهداء الذي يُذَيل بذكر العود إلى "نبع" الإسلام. يتكرر شرح الرواء عند لقاء سائق الحافلة الباكستاني أثناء رجوع الكاتب من مكة متجها إلى جدة، والذي يخبر حسنا أن له ابنة اسمها رواء، ويطلب من هذا الأخير أن يشرح له اسم ابنته فيقول له إن الكلمة "مشتقة من "روي" وهو الامتلاء بالماء، ومن ثمة بالخصب والحياة والجمال". (123) وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحج عج وثج". يقول الكاتب: "وما أفهمه من الثج هو أن الكلمة قريبة من الثجاج، وهو الماء العذب، وقريبة في اشتقاقها الأكبر من الثلج. ولا شيء أحب للعربي وهو ابن الطبيعة الحارة والرمضاء من البرد والثلج والقرة من قرة العين..فبعد العج الثج". (124) تكمن الإحالة التالية في الإشارة إلى كارن أرمسترونع في دراستها حول المفكر الإيراني علي شريعتي فيقول: "ومما قرأت في وقوفها على تجربة علي شريعتي -المفكر الإيراني- عن الحج، من أن طواف الحاج حول الكعبة سيل، وأن الإنسان قطرة من ذلك السيل ولا يمكن أن ينفصل عنها، قوته من قوة السيل". (125) ثم يأتي الاستدلال في ذكر هاجر وشرح الهرولة في السعي: "وحسب المعتقد المتواضع حوله، فهي هاجر التي كانت تهرول بحثا عن الماء لرضيعها..سعي لبلوغ الماء، لبلوغ الخصب، لبلوغ الحياة". (126) أما الاستناد الأخير إلى استعارة الماء فيأتي من القرآن الكريم: "كنت من المقمحين. كم مرة مررت على الكلمة ولم أهتد إلى معناها، كما مررت على الحياة ولم أنفذ للغاية منها؟ هل تدري، يا صاح، ما المقمح؟ هي البعير حينما تفلها أغلال تشد رأسها وتمنعها أن ترد الحوض..هي ترى الماء ولكنها لا تهتدي إليه، لأنها لا تستطيع النزول إليه". (145) كل الإشارات توظف الماء، ليس كعامل مطهر فقط وإنما كرمز للحياة. يتكرس بالتالي تصوير التيه عن الإيمان بالعطشِ والعطشُ زوالٌ للحياة كما تموت الأرض دون سقي، بينما الارتواء إشباع وامتلاء بعذب المياه، وهو المجاز الذي اختاره الكاتب للتعبير عن الامتلاء بمكة وبكل ما ترمز إليه الشعائر والطقوس المرتبطة بها. رحلة العودة إلى الأصل «رواء مكة» هي في الحقيقة رحلة عودة نحو الأصل. يستهل الكاتب بوحه بوصف التيه عن بيت الطفولة والاغتراب الوجودي المترتب عن اختياره الإقامة في «بيت» مِلؤه المتناقضات. وبيت القصيد هنا هو الإمبريالية الفكرية والمادية الغربية، حيث حمله مساره التعليمي إلى مقاربة الثقافة الأمريكية والوقوف على مدى تأثير التربية البروتستانتية فيها، ووحشية الإمبريالية الرأسمالية كقيم متناقضة ومتضاربة تمشي في خط متناغم ولا يدركها بشكل عميق إلا من عايشها عن كثب ومن داخلها؛ فهو يجد في الكيان الغربي أول خصم وجبت تصفيته للعودة إلى الديار فيقول: "كنت تعبا حقا من أن أسكن بيتا ليس لي.. وكانت هناك إشراقات تغري بأن أعود إلى بيتي الأول. بيتي الذي سمعت فيه صوت القرآن يتلى من الفجر يصدح به والدي.. ولكن ذلك الميراث أضحى في فترة من حياتي طقوسا ونصوصا، وكان يصدني عن السير". (51) ذلك ما شكله الغرب بالنسبة للكاتب، بريق الليبرالية ومراعي خصبة على مد النظر ترتعي فيها عقليته الفذة والثورية، فتصده صدا عن العودة أو تجعله من المقمحين عن النهل من ينابيع الأصل. ويحتاج أدب البوح من المعترف تحديد وجه الخصم أو العدو antagoniste لبناء مشروع التصفية. صحيح أن الغرب هنا كما يقول يصده عن السير، لكن الخصم الأول هو الكاتب نفسه، إذ هو لا يصف إلا ضعفه وإسلام نفسه لبريق الغرب. ومن هنا تأتي فكرة جهاد النفس من أجل العودة، وقد عبر عنها في بيانه النهائي بالأخذ بعلمية المنهج الغربي كوسيلة للمقاربة وعدم الانسلاخ عن الهوية العربية الإسلامية. وإن كان البوح في النهاية موجها إلى الخالق، إلا أن الكاتب يجعل من القارئ جليسا ورفيقا في رحلته، يناوشه ويخاطبه من الفينة للأخرى: "على رسلك أيها القارئ، سأبوح لك بكل شيء.." (52)..وكأنه يشير إلى "الميثاق السيرذاتي" حول مشروعية البوح والالتزام بتداعياته، وهو ما يدفعه إلى الاعتذار عن عدم القدرة أحيانا على البوح المطلق؛ ففي مجرى حديثه عن الخروج من دهاليز السلطة كوالي لمدينة مكناس يقر بصعوبة البوح قائلا: "لقد وعدت أن أبوح ولكني لا أستطيع.. أحوم حول الحمى، وأستجير بالإشارة عوضا عن العبارة.. لطفك أيها القارئ...أعذرني إن أنا تكتمت.. ففي الإشارة ما يغني عن العبارة، وفي بعض العبارة ما يجلي الحقيقة". (74) فبقدر ما يشكل الغرب خصما عتيدا أمام سير الكاتب، يقوم بريق السلطة ندا عنيدا أيضا وجبت تصفيته، ومن ثم يتجلى مرة أخرى حجم جهاد النفس للنأي بها عن جبروت إغراء كرسي السلطة ووهج صلاحياته وميزاته وهو ما كلف الكاتب كثيرا حسب اعترافاته، إذ يذهب إلى نعت إغراء المخزن وحب السلطة بالداء والعلة، فيحكي في فصل رحلته إلى الأندلس ولقائه بالوجه المسلم لإسبانيا، والذي يتحتم عليها إقراره والاعتراف به: "عدت من الأندلس شبه معافى وقد أخذت أبرأ من "المخزن" كما يبرأ المدمن مما كان يتعاطاه". (82) وفي إطار البوح والاعتراف يعرج الكاتب على الدور الهام الذي لعبته الصحافة في بلورة فكره من خلال منحه منبرا لإسهاماته الصحافية في لوجورنال، ومنابر صحافية أخرى دولية ووطنية، فيستغلها فرصة للاعتراف بخطيئته تجاه مليكة أوفقير، وتوجيه اعتذار صريح لها لما بدر منه إبان صدور كتابها "السجينة". وكل هذه الإحالات على الماضي تتقاطع وزمن الرحلة إلى مكة كشكل من أشكال هجوم الضمير، يصب في ضرورة تصفية العالق والمكاشفة والبوح لتطهير النفس. ومن أهم الإحالات فردُ فصل كامل لواقع العرب وأهمية اللغة العربية انطلاقا من استحضار مشاركته في مؤتمر عدم الانحياز في كوالالمبور سنة 2003، وخطب العرب وفجاجتها وكثرة أخطائها حتى في ترتيل القرآن.. "عرب أقحاح يجهلون لغتهم" (51) ويدعون امتلاك ناصيتها. ويتجلى الكاتب هنا أمازيغيا قحا تنضح روحه بالعروبة وحب اللغة العربية، يفاخر نصُّه بنجاعة بلاغتها وبهيج ورونق تعبيرها وفصيح شعرها.. يقف وقفة إجلال وتكريم لأستاذين تتلمذ على يدهما ويعتبرهما من فطاحلة اللغة العربية: الحاج أحمد باحنيني ومحمد شفيق.. ويذكر في مجرى حديثه عن هذا الأخير، دون إخفاء إعجاب بهويته الأمازيغية، ولوجه المدرسة الفرنسية بأزرو، حيث عمل الفرنسيون على تأصيل لغتهم كلغة للحضارة وجعل الأمازيغية لغة الوجدان من أجل إبعاد التلاميذ عن اللغة العربية، وكيف كان التلاميذ يأبون إلا أن يسترجعوا رمزية الذاكرة المفقودة للغة. يقف الكاتب متأسفا لحال اللغة العربية، متألما لما آلت إليه أحوال العرب من انكسار وتفسخ.. هم "المخلفون في مدارج التاريخ" كما يحلو له ترجمة عبارة عبد الله العروي، غادروا التاريخ و"من يخرجون من التاريخ لا يعودون إليه". كانت أخلاق العرب فيصلا بالنسبة لليهودي ليوبولد فايس الذي تحول إلى الإسلام أثناء رحلة جوبه الصحراء، وهو على فراش موته يسأله ابنه هل كان ليعتنق الأسلام في ظل ما آلت إليه أخلاق العرب اليوم فيجيب: "أغلب الظن أن لا (...) العرب اليوم هم غير عرب بداية القرن". ويستغل الكاتب توظيف الأزدواج الذاتي لرصد هذا الصراع المترسب والموروث داخليا بين العربية والأمازيغية، عندما تتبدى له نفسه وهو في مكة في صورة الشاب الغيور على اللغة والثقافة الأمازيغيتين، والذي يعاتبه لخيانة المشروع الأمازيغي ويحاكمه لتركه المثل المنشودة فيه، معتبرا الحج والإسلام رموزا للإمبريالية العربية، ودثارا لسيطرة العنصر العربي. وهذا ما يكشف مدى الاغتراب واجتهاد البحث عن الهوية بين أرضية تحتية أمازيغية صرفة وولاء شغوف للعنصر العربي إلى جانب مكتسبات وترسبات الثقافة الغربية. وحسبُ القارئ أن يرى في ذلك تصفية للصراع الداخلي وانتهاء إلى الانفتاح في موقف صريح ينضح به الكتاب روحا ولغة. ومما يكرس هذا المنحى استغلال العنصر الغرائبي في استحضار شخصيات من التاريخ الإسلامي، كعمار بن ياسر وسلمان الفارسي وبلال ابن رباح، يتحولون في صور أناس قابلهم في أول حجة له. هو درب التصوف والبحث عن النور الداخلية وتمثُّل الرسول عليه الصلاة والسلام والحديث معه عن جهاد النفس وحب شخصه وسيرته، لينتهي الكاتب بعدها إلى حب مطلق للرسول والاستشارة والاستنارة به في الحياة. "رواء مكة" سيرة روائية نشرت منذ 2017 وتشهد اليوم إقبالا منقطع النظير في الأجواء الرمضانية؛ ويرجع الفضل في ذلك إلى مديح وثناء المقرئ والبرلماني المثير للجدل أبو زيد الإدريسي، أثناء مشاركته مع زمرة من الدعاة في برنامج «سواعد الإخاء» الذي يبث على عدد من الفضائيات العربية. هل كان ذلك دعاية تسويقية أطلقت بحلول الشهر الفضيل؟ لا أعتقد. المهم أن مقطع الفيديو انتشر انتشار النار في الهشيم وصار الجميع يلهث وراء الكتاب في نسختيه الورقية والإلكترونية، ما يؤكد قوة مواقع التواصل الاجتماعي في تحويل الأحداث إلى ظاهرة دعائية عن قصد أو غير قصد. وكغيري من الناس بلغني مقطع الفيديو الذي يبجل فيه المقرئ أبو زيد سيرة وشخص وكتاب حسن أوريد في بعض من الصلف والتزلف. منعت حينها نفسي من متابعة المشاهدة، وقلت ذلك ترويج في مستهل الشهر الكريم لمنتج ثقافي ذي بعد ديني؛ لكنني قررت قراءة الكتاب بدافع الفضول. وبالانتهاء من الكتاب رجعت إلى مقطع أبو زيد الإدريسي. ومن غرائب الصدف أن المشهد يكرس ما يقوله مؤلف "رواء مكة" حول أخطاء اللغة العربية عند العرب، إذ يسأل منشط البرنامج أبا زيد أن يحدث الجمع عن رِواء مكة بجر الراء، وهو معنى بعيد كل البعد عن السياق، فيصحح له أبو زيد: هو رَواءٌ بالفتحة. يقر أبو زيد ويقسم بالتغير بعد قراءة الكتاب، ويتحدى جمهور القراء ويعدهم بالتغير بعد القراءة. وأرى أن في الكلام صلف ومبالغة. لقد قرأ حسن أوريد القرآن وتشبع به ولم يتغير، ولم يتغير بعد قراءة كتاب ليوبولد فايس اليهودي الذي تحول إلى الإسلام أثناء رحلة عبر الصحراء ولا بعد الاطلاع على مذكرات إيزابيل إيبرهارت. ليس في رواء مكة أجوبة لأسئلة القارئ، والكاتب يحكي بين خواطر ومذكرات ويوميات غيضا من فيض البشائر التي عبَّدت طريق عوده نحو نبع الإسلام وهَيأتْه لموعد مضروب مع رواء مكة. ما غيَّر الكاتب ليس الكتاب وليس البوح، ما غيره لا يستطيع هو نفسه تفسيره علميا ومنطقيا: "لست أملك وسيلة للتعبير عما اعتمل في أعماق نفسي..وليست لدي وسيلة للتدليل العقلي لما وقع..فلست أستطيع إلا أن أتحدث عن تجليات ما وقع، أما ما وقع فهو نور يقذفه الله في قلب المؤمن، كما يقول الإمام الغزالي، أو هو طائر يحط على عرش نفس الإنسان". (92) لنعتبر الكتاب سيرة رحلة روحية من الشك إلى اليقين ودعوة إلى التأمل والتفكر والمكاشفة، ولندع الله أن ييسر لنا الأسباب كما يسرت للكاتب، حتى نهتدي إلى ما اهتدى إليه.