” رواء مكة ” سيرة روائية لصاحبها الكاتب والمبدع المغربي حسن أوريد، تضم 224 صفحة من الحجم المتوسط، والصادرة عن المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 2019، يتجه متنها العام إلى جنس السيرة الذاتية أكثر منها للعمل الروائي التي تختفي من مقوماتها، ما يجعل صفاء الجنس الروائي يغوص في الخطاب لاستحضار ممتلئ لمقومات السيرة أو أدب الرحلة، وإن همس الكاتب بالعنوان الإضافي لتأطير قراءة متنه على أساس أنه سيرة روائية، بتناغم لسبعة فصول داخلية: ومضات، ذبذبات، همزات، إشراقات، البشائر، تداعيات، والحنين إلى مكة للعب فعل ممكنات التحول كقيمة كبرى مؤسسة للعمل على أنقاض ماض رسيس وأفعال مقمحة، وأخرى منفتحة على حاضر ممتلئ برواء الحياة ودفق العاطفة. وتشكل قيمة التحول الذاتي في نسيج النص قوة مدهشة تستل من كل فصل مخاتل ومن كل عبارة متعبة ومن كل بياض مفتوح، للإعلان عن ثابت مركزي محقق في مغامرات حسن أوريد ورصده لذبذبات النقلة التي أوقعته من قوة التحول إلى قوة الرغبة في المحبات، وهو بفناء المسجد الحرام، وقد فرغ من طواف الإفاضة ومن السعي بين الصفا والمروة مؤديا مناسك الحج. وينصب تركيز الكاتب في متن السيرة الروائية على أن بدايات تجلي التحول وصناعة واقعة الحج بدأت عندما أوفى بنذر قام به في حالة هشاشة وضعف لإحدى قريبته التي فقدت ابنها وارتأى أن يبعثها هي وزوجها ليسلوان. “وهي ألحت عليّ أن أصحبها وإلا فهي لن تذهب”. وشكل الوفاء بالنذر، والنوايا الاستكشافية والأنتروبولوجية لمعاينة طقوس الحج والانبجاس القلق لحقيقة المعيش المخزني والذاكرة الهاجعة في رسيس التربية ورثيث الثقافة وحركية الأشكال الاديولوجية السائدة، البنية التنظيمية لطموحات كليّة لركب المطايا والنهل من رواء مكة. هذا الرواء في تجسيد ما سبق من النوايا أفضى بحسن أوريد إلى مدخلات مغايرة لما سبق من الذاكرة والمعيش ليمس الذات المبدعة في حقيقة ذاتها، وكذا في علاقاتها مع الآخر، إذ متن العمل حركته نوايا ودوافع الحاجة لصيانة النذر والاستجابة إليه على سبيل الانضباط للواجب والتقيد المتعين من النذر، بيد أنها سرعان ما تحولت إلى رغبة وميل عفوي واع نحو شد الرحال إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج والنفور من حساسيات الماضي والعمل على حفظ ورعاية هذه النقلات وتقييدها على أساس أنها سيرة روائية. إن الرحلة التي خاضها أوريد لم يكن في أصل بداياتها فعل المحبة في تلبية نداء الله والارتقاء إليه، رغبة في الامتلاء وتغذية العمق الإنساني بالمعاني الروحية والشهوة المصحوبة بوعي ذاتها من حيث أنها فعل من أفعال الإرادة، والطاقة المدهشة للنية المعتمدة في أداء فريضة الحج، بل لقاء الكاتب برواء (بالضم والمد) مكة وطاقاتها الرهيبة لأول مرة، هي المحرك لأفكاره وأفعاله وانفعالاته إلى كلمات وأساليب حكي جسدها في “رواء مكة”. وعلى الرغم من أن منشأ المنجز الإبداعي جاء لإشباع الحاجة وتجسيد ما لا مفر من تجسيد، فقد انتهى إلى تحقيق الرغبة والامتلاء عبر تعبئة دواخله بالمعاني الإنسانية الفياضة، وجعل تلقيات النص الأدبي تتحرك من مرجعيات فكرية متباينة ومداخل منهجية خاضعة لفعل التأثير والتلقي، وترجيح البعد الخلاق في العمل، كبنية قابلة للإمتاع والمؤانسة أو مجتلبة للنفور والانقباض، وتتجلى اجتلاب هذه الثنائية من المعاني، من حيث الملاءمة للنفوس أو المنافرة لها في كشف حسن أوريد عن تخلي ذاته عن عدد من العوالم الموازية، أولاها شخصيته العمومية وجملة علاقاته ومهامه في رحاب السياسة والبلاط، بالرغم من امتلاكه قدرات مائزة في تدبير الإدارة والقدرة على الأداء الجيد، كما مست هذه التحولات مراجعة مواقفه وقيمه تجاه الحركة الثقافية الأمازيغية، معلنا القطع مع عمقها الإيديولوجي، وكاشفا زيفها وخداعها وفلسفة عملها ومختلف تحالفاتها “لفك الارتباط بالدين” وتثبيت هيمنة العنصر العربي وامبرياليته. “مشروع فتى المتمرد” حسب طموحات أخوال أوريد لم تجد في تصويب فوهة نقلاته إلى إبراز تهافت الطرح القومي والاديولوجية العروبية وما خلفت من “أعراض غائرة في جسم العروبة” التي خرجت من التاريخ بدون عودة في لغة مؤتمراتها وتواطؤاتها وانغماسها في كل أنواع “شوبينغ” حتى الأسلحة المتطورة، الكازينوهات، الرقص الشرقي .. إلى ذلك شملت ذبذبات أوريد الارتطام بالطرح الاشتراكي والماركسي، كاشفا تناقضاته الداخلية، بالإضافة لتناقضاته بعلاقته مع الآخرين ومحيطه الخاص، نفس الرؤية الانتقادية وجهها أوريد للمنظومة الغربية، مبينا آفاتها الكبرى في إعلائها الجانب العقلي ومحدوديته، بل ممكنات شطحاته في تسويته بين الخير والشر، “العقل صاحب ولا سيد، لأن للعقل شطحات”، والقوالب الغربية يعز عنها فن إدارة المتناقضات والجمع بينها، فهي ترى العلاقات الثنائية على أساس التضارب والدياليكتيك،” وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك”. لقاءات أوريد في مسار حياته بهذه المرجعيات والأنساق الكبرى والمساهمة في تشكيل صيرورة هويته التاريخية عرفت همزات داخلية عميقة وزلزالا خارجيا سحيقا بعد الارتواء من فيض التحولات المذكورة والعودة إلى سيرته الأولى، وهو ابن أسرة أمازيغية عريقة جد محافظة، متعلقة بدين الإسلام وما يرتبط به من عادات وطقوس رثيثة، تمكن أوريد بعد فراق طويل من استرجاعها والمصالحة مع لغته وإدراك معاني نداءاتها الدقيقة (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) والإقرار بتاريخيته العربية الإسلامية، وإرساء الوصل بمجاله الثقافي والرمزي، سواء بقصر السوق أو تافيلالت أو بالأندلس أو اسطمبول أو بمكةالمكرمة أو المدينةالمنورة.. بل يذهب أوريد إلى التصريح بأن “روح الحج ليس هي المكان ولكن هي اللقيا وهي الجماعة وهي الآصرة”، خادشا بذلك “اديولوجيا الوهابيين الحاضرة ولو بشكل رفيق” في أعمال ومناسك الحج والعمرة، وأن حقيقة الدين كان دوما يستغل من طرف الحكام وظلالهم،وأن الحركة الإسلامية والأمازيغية اتجاهان عميقان يحركان الاتجاهات الاحتجاجية بالمغرب ويؤثران فيه.