خلال الأيام القليلة الماضية خرج الشيخ المقرئ الأستاذ أبو زيد الإدريسي في لقاء تلفزي مصور أطرى فيه إشادة وتنويها بالعمل الروائي الذي أصدره الدكتور حسن أوريد تحت عنوان " رواء مكة "، مشيرا في الإطار ذاته إلى بعض من سلوكاته الشخصية التي سجيها برزمة من أحكام القيمة المثخنةبالمرجعيات التي تنهل من مورد الأخلاق المترسخة في صلب المجتمع، مكلفا نفسه في المضمار ذاته إبداؤه كبير الإعجاب بالتحول الذي طبع مسرى حياة الكاتب الذي شهد تغيرا في الجانب المرتبط بالمنحى التعبدي الذي لازمه بعد أن قفل راجعا من أداء مناسك الحج، معتبرا ذلك فتحا مبينا تسجل فضائله للتأثير الذي خلفته شعائر وطقوس الحج الظاهر منها والمستتر في أعماق سويداء فؤاده، وهو الموقف الذي أعتبره شخصيا مجانباللصواب نظرا لما ينطوي عليه من السطحية والتسرع في بناء المواقف الجاهزة البعيدة عن روح الموضوعية، لكون مجرد استشعار مدى أهمية البعد الروحي في حياة الإنسان، والكشف عن رغبته في الإياب إلى البيت الأصلي الأول الذي درج فيه خلال طفولته وارتوى من معينه الفكري المترع بإسار من التقاليد الروحية والتراثية العميقة، لا يمكن بالبتات اتخاذه مدخلا من أجل النظر إلى الأعمال الأدبية التي أبدعها الأستاذ أوريد في جنس الرواية من رؤية ضيقة تختزل عمله الفني والفكري الواسع الأفق في مجرد خانة بسيطة تستند على عامل منفرد ووحيد، ولكون العودة توجد في العديد من الحضارات، وهو ليس بمؤشر قوي على التحول الكلي أو التغير الذي يقلب حياة الإنسان رأسا على عقب. سيما وأن أعمال أوريد تتميز بخاصيات قلما يمكن تلمسها في النماذج الأدبية المماثلة لها في محيطه، فقد اندغم في أتونإنتاجاته الأدب بالتاريخ والعمق الفكري الذي يصاقبه توسع ملفت في الأفق الثقافي مع سعة الاطلاع والدقة المتناهية في التناول، بل إنني لا أجد كبير اختلاف بين أعماله الفكرية التي أصدرها، والتي نقدم من نماذجها " الإسلام، الغرب والعولمة- مرآة الغرب المنكسرة- أفول الغرب- الإسلام السياسي في الميزان- من أجل ثورة ثقافية بالمغرب ... " وبين إبداعه الروائي والأدبي الذي يقف في الركن الموازي للأعمال الأولى، بدءا من : " الحديث والشجن، سيرة حمار، الموريسكي، الأجمة، رواء مكة، ربيع قرطبة، رباط المتنبي ... " لذلك نلحظ مدى إصرار أوريد على إمعانه في التشبث بمبادئ العقلانية المستبطنة لعمق فلسفة الأنوار وفكرها الحقوقي التي تنسحب على معظم محتويات عمله الروائي، وليس أدل عن ذلك من نموذج اعتباره الحج مجرد منسك أو شعيرة، بل التزاما اجتماعيا لا ينبغي تحميله أكثر من اللازم، وأن الحج لديه لا يتماهى بالضرورة مع التقاليد الكاثوليكية المسيحية المفضية في منعطفاتها المتواضع عليها اجتماعيا إلى إحداث نوع من الخلخلة والتحول في مسار شخصياتها، كما أنه بطبعه العقلاني ينحو تلقائيا في اتجاه عدم القبول بوضعية الفوضى والزحام السائدة في مواقع الحج وبصور من المكاء والتصدية الضاربة الغور في القدم، لينتهي به التزاحم والتدافع الفكري إلى أخذ مسافة لا تخلو من دلالات عندما يتعلق الأمر بميل أغلب فقهاء الإسلام إلى تحذيرهم من مغبة استعمال العقل في الحج لكون أمور العبادة يوصى بالامتثال لها من قبل الفقهاء كما هي على سجيتها . ويحضرنا في منادح هذا السياق أيضا الاختلاف الذي احتدم أواره مع جماعته التي كان يرافقها في الحج، إذ كان السارد والروائي حسن أوريد يضع نصب عينيه على الدوام مسألتي الزحام المفرط وضرورة العمل على التقيد بالبرنامج الزمني الذي يقضي بالمغادرة على الساعة الثالثة قصد القيام بطواف الإفاضة، في الوقت الذي تصر فيه جماعته التي ترافقه على رمي الجمرات بعد الظهر مما سيحول حتما بينهم وبين طواف الإفاضة نظرا لضيق الأفق الزمني الذي يداهمهم، باسطا أمامهم إلزامية الاختيار بين الفرض والسنة لكون رمي الجمرات لا تعدو أن تكون سنة لم يرد ذكرها في القرآن الكريم، أما الطواف فهو ركن من أركان الحج، مردفا أمامهم أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى فرائضه، ليذعنوا ختاما لخيار أداء صلاة الجمعة وطواف الإفاضة، وهي الواقعة المعضلة التي اعتبرها الروائي تندرج ضمن رسيس ومخلفات العادات النابعة من سوء الفهم لروح النصوص التي تتحكم فينا وتبطل العقل، وعزز طرحه هذا بتقديم سؤال يرمي إلى إمكانية التوفيق بين التدين والعقل ؟ إن متن النص الروائي لأوريد لينضح بالعديد من التجليات التي تعكس إشراقته الموغلة في النزعة العقلانية، نكتفي بالملمح إليه آنفا على سبيل المثال والاستدلال فقط لا الحصر، حتى أنه ليمكن الجزم بكون أوريد يرصد الحج كظاهرة أنتروبولوجية ولكن من زاوية نظر مثالية تخلو من الخلفيات المغرضة، فهو يتحدث عن الحجيج والحج عامة كتجربة ولكنها إيجابية تزري بكل ملاحظاته السلبية التي سجلها وهو بصدد إتمام رحلته الدينية في رحاب مكة المفعمة بروح القداسة وأجواء الابتهال، ويتناول ذلك في سياق موضوع عام يربطه بالحضارة الإسلامية العريقة وبالإسلام كدين عظيم شأنه شأن بقية الأديان التوحيدية الأخرى، إذ لا شيئ في نظره يمكنه أن يعبئ الشعوب الإسلامية غير الإسلام كما يقول جمال الدين الأفغاني، وبالتالي يبقى هو البوابة نحو الإصلاح . إنه الإصلاح الديني الذي ربطه الأستاذ أوريد في روايته الأخيرة والجديدة " رباط المتنبي " بمسؤولية الإنسان قبل القضاء والقدر أو الخطيئة الأصلية، وفي منظوره من خلال نصه الروائي هذا، فهو لا يكاد ينزع الريادة وتسجيله قصب السبق في عالم السنة، لصالح شخصان لا ثالث لهما، هما اللذان قاما بما يطلق عليه اسم إرهاصات الإصلاح الديني، يتعلق الأمر بالشيخ محمد عبده من خلال كتابه " رسالة التوحيد " على وجه التحديد، ورؤيته المتحررة للنص، وكذلك بالشيخ المتنور علي عبد الرزاق في كتابه " الإسلام وأصول الحكم " في الجانب المتعلق بتمييزه ما بين الدين والسياسة، وقد أجهز على الإمام محمد عبده، أما الأستاذ بجامعة الأزهر علي عبد الرزاق فقد أعلن كافرا وهلم جرا من التداعيات المؤسفة التي واكبت عملية إصداره للكتاب الذي سبق ذكره، وفي سابقة اعتبرها الأستاذ أوريد زلة وتسرعا غير محمود لما أقدم على القول وسط مجمع بأن هذا الإصلاح المرتقب لم يقم، ليتدارك زيغه هذا بحرصه على الاستشهاد بالحديث النبويالشريف " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة عام من يجدد لها أمر دينها " عندها فقط سكنت العاصفة وهدأ غضبالشيوخ في المجلس، بل أجزلوا له في الدعاء والاهتداء نحو الصلاح والسداد والسلامة من الغواية . وسيكون من الخطأ بمكان، إذا نظرنا لعمل حسن أوريد الروائي القيم نظرة معزولة، يتم الفصل فيها بين السياقات الثقافية والإبداعية التي أنتج في ظروفها متن الرواية " رواء مكة "، فقد تزامن إصدارها بحيز وجيز مع كل من العملين المتألقين للأستاذ أوريد نفسه " ربيع قرطبة " و " رباط المتنبي " وقبلهما خلال سنة 2011 نشر أيضا روايته " الموريسكي "، وهي أعمال أدبية يجمع بينها الكثير من الخيوط الناظمة والأجزاء المكملة لبعضها، ما يجعلها لا تنفك في التتبع والترصد وبأسلوب أدبي رصين لمختلف مظاهر الاختلال الاجتماعي، مستوحية ذلك من بعض الحلقات التاريخية المتباينة في فتراتها، وسعي الكاتب بجرأته المعهودة نحو ربطها بالزمن الحاضر نظرا للقواسم المشتركة التي تربط بين أهم معالمها الموشومة في غالب الأحيان بظلال من العتمة القاتمة . متوسلا في منهج كتابته بلغة فريدة تجمع بين التورية والكنايةالموحية، وبين قوة السبك اللغوي وجزالة الألفاظ، فإذا كان "الموريسكي" يحيلنا على الظلم الفظيع الذي حاق بفئة من الأندلسيين على يد إخوانهم القشتاليين بسبب معضلات تاريخية تتعلق بحرية المعتقد والحق في الاختلاف والتسامح، فإن " ربيع قرطبة " على النقيض من ذلك طرحت كرواية أزهى عصور التعايش الذي نعم فيه أهل الأندلس بالود والوئام في ظل الوجود المرابطي والموحدي بالخصوص، وإن اختلفت بهم السبل في الأهواء والملل والنحل المتبعة، أما "رباط المتنبي " فهو الجنس الأدبي الذي يحيلنا على إشكالية الزمن وركود الأوضاع والبنيات الثقافية والاجتماعية وعدم قابليتها للتطور رغم تعاقب الملوانوتوالي السنون والدهور، وهي المعضلات التي تفقأ العين وتكلم الفؤاد، ولا تزال تنوء تحت إصر عبئها مجتمعاتنا الإنسانيةالمعاصرة . جدير بالتنويه، أن الرواية موضوع مقالنا صدرت منذ نحو سنتين، ومن حينها لم تثر أية زوبعة فكرية تذكر، أو نقاشا حادا على غرار الجدل المثير الذي أججته خلال هذا الشهر الفضيل، فهل للأمر علاقة بطبيعة شهر رمضان الذي يختلف بكل تأكيد عن بقية زمن شهور السنة، والذي يبدو أن علاقته بالسير العادي للحياة والشأن السياسي أكثر تعقيدا والتباسا، ومن ناحية أخرى ألا يمكن أن يكون عنوان الرواية " رواء مكة " المصدر الملهم لروح هذا الجدل لما تحظى به تسمية مكة تزامنا مع هذا الشهر من قدسية ودفق روحاني جذاب، أم أن مواقع التواصل الاجتماعي ألهبت الحماس في أنفس القارئات والقراء وزاد في إذكائه التصريح التلفزيالذي أدلى به الشيخ المقرئ أبو زيد في البرنامج الإعلامي والثقافي المنظم. ينضاف إلى ذلك عامل الجو الثقافي والفكري الذي ألفه المغاربة وبدؤوا في الشعور بافتقاده خلال هذه الأيام المباركة، إذ كيف يتأتى لهم نسيان حلقات السجال المسترسلة على صدر صفحات الجرائد الوطنية حول الفكر الإسلامي وقضاياه القديمة والمعاصرة والتي يعد المرحوم الأستاذ محمد عابد الجابري من أبرز المشاركين فيها، بيد أن الذي أصبح من شبه المؤكد أن هذا الشهر العظيم تعتوره في الكثير من الأحيان وقائع ذات صلة مباشرة بعالم السياسة من قبيل اندلاع قضية عميد الأمن ثابت وإعدامه، وكذلك حملة التطهير التي قادها وزير الداخلية المغربي السابقإدريس البصري سنة 1996 ، ولم تنجح بالطبع في تطهير عالم الأعمال والاستثمار، بل كرست الظلم وأدت إلى استشراء المحسوبية والزبونية، دون أن ننسى من ناحية أخرى وهجه المضئ فقد كان مناسبة لمشاركة أول أستاذة جامعية وامرأة مغربية في سلسلة الدروس الرمضانية في 2003، وبداية لانطلاق أشغال بناء جامع القرويين ذو التاريخ المجيد على يد السيدة فاطمة الفهرية في القرن الثامن الميلادي .