مكتبة الألفية الثالثة بالرباط تضع المؤلفات الجديدة على مرمى البصر. في رف لا تخطئه عين الزائر/ القارئ. كتبا بعينها يقع عليها الاختيار لأسباب علمية وتجارية أيضا. لم يكن العنوان غامضا بما يكفي ليحفز بداخلي أي رغبة ملحة في قراءة تلك القطعة الأدبية في الرف: «رواء مكة». تذكرت بسرعة حلقات كان ينشرها الكاتب أحمد المديني عن رحلته للحج، وربما جمعها في كتاب بعد ذلك بعنوان: «الرحلة إلى بلاد الله». أحببت كثيرا تلك الرحلة. أخذت «رواء مكة» من الرف وبدأت أتأمّلها وفي نفسي تلك الرحلة. ثم تذكرت فجأة روايتي «صبوة في خريف العمر» و»الحديث والشجن». أول لقاء لي مع هذا الروائي الذي درس بجوار الملك. وجدتهما في خزانة أختي التي كانت تحضر حينها لبحث «ماستر» عن الأدب المغربي. أقلّب الرواية بين يدّي وتدور في خاطري صور ولمحات من السيرة المهنية والمعرفية للمؤلف. في الأخير، أعدت الرواية لمكانها. «بركات زمزم هذه تفجّرت في رواية» قلت في نفسي، وآثرت تركها هناك. أدب الرحلات يغمر الدنيا. الأسبوع الماضي، شدّد الداعية الإسلامي المغربي -(لعلها الصفة الأدق هنا) -المقرئ أبو زيد الإدريسي بحماس كبير أن من يقرأ هذه السيرة الروائية يخرج منها بغير ما دخل. خضّ المقرئ بكلامه تلك القناعة التي كونتها عنها في تلك العشية البعيدة بفضاء الألفية الثالثة. قرأتُ الرواية. يحكي أوريد عن رحلة وجدانية متأخرة ستخرجه من حالة الشك والجفاء الإيماني والتعالي العلمي تجاه الدين، إلى حال من الرقة والإيمان والتذوق الصوفي لتجليّات الإيمان ورسالة الإسلام. تكون لهذه الدورة الروحية الفارقة في حياة الكاتب بدايات وإرهاصات و»ذبذبات»، لكنها تكتمل في مكة. هناك يهزم شيطانه. فصل من الحكاية عنوانه «همزات»، وكأنها همزات الشياطين. يحكي فيه صراعا نفسيا داخليا بين صوت يريد إقبار تلك الذبذبات الإيمانية في قلبه وصوت يدعوه إلى تركها تضيء وتشرق. بعد مكابدة وصبر، تشرق في صدره. ويكتشف أن كل حسابات الحياة السابقة عن هذا الإشراق الروحي سراب في سراب. بدا الإسلام واسعا في مكة. خليط من أجناس ولغات وألوان مختلفة تدور في مجرى واحد وعلى قلب واحد. في الرواية يقترن عالم السلطة وأفلاكها وأسلاكها بعالم مُزّيف بلا عمق وجودي ولا مشروع جامع، عالم من الملّذات تخترقه ومضات نور خاطفة. طيّب، من الذي حصل معه كل هذا؟ حسن أوريد، رفيق دراسة الملك والوالي السابق لمكناس تافيلالت والمؤرخ السابق للمملكة (المؤلف)، أم شخصية مُتخيّلة تعبر بقدر عما في صدره (الراوي). التطابق بين الراوي والمؤلف في هذه «السيرة الروائية» شبه تام. في حوارات أجراها بعد صدورها، قضى المؤلف على كل إمكانية لإقامة جدار صغير بين الحقيقي والروائي. في السيرة يعتذر مثلا لمليكة أوفقير عن مقال كتبه تحت الضغط. لعلّها سيرة رَوائية تامة (بفتح الراء).. للحقيقة، وجدتُ متعة غريبة في قراءة سيرة بطلها شخصية غير مُتخيلّة تماما. بل غير متخيّلة بالمرّة! في كتاباته، يقربك أوريد من الأجواء النفسية لعلية القوم. سواء في نقده لهم أو في تقلّباته هو ذاته، باعتباره رجل دولة سابقا. ولا يمكن إلا أن تُكبرَ في الرجلِ شجاعته وهو يعبر عن قناعات وإشراقات تخالف تلك الأجواء المُترفِّعة. هذا الاختيار كانت له «تداعيات» أيضا. منها الخروج من سلك السلطة . طيب، والآن: هل «رواء مكة» تستحق القراءة؟ بكل تأكيد. هل تصوير المقرئ لأوريد في «مجونه» السابق «لأوبته» مطابق لسيرته؟ من قراءتي: لا. بالغَ المقرئ كثيرا. قياسا لأعمال أخرى، يتحدث أوريد في هذه السيرة بتعفف كبير. طيبّ، وهل قراءتها تُغيّر الإنسان بكل تلك الحماسة التي تحدث بها المقرئ؟ هذه تبقى مسألة ذوق. أجد «رواء مكة» سيرة أنيقة لمثقف متميز تحمل أسباب مغرية لقراءتها (ناقشتُها أعلاه)، لكن الهزّات الكبيرة في الوجدان تبقى مسألة ذوق، مثل رواية «موت صغير» لمحمد حسن علون، التي كنت دخلتها بقلب وخرجتُ منها بقلب جديد. من الممكن أن يجد قارئ آخر حكمي مبالغا فيه وقد يوافقه.. إنها مسألة ذوق.