عندما كان يخطب وسط طلاب جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، أحد القادة اليساريين إبان سنوات تسعينيات القرن الماضي، كان يشد إليه الأنظار ويحبس الأنفاس، رغم أن معظم الطلاب كان يستعصى عليهم فهم وإدراك ما كان يقوله ذلك القائد اليساري، خاصة عندما ينتقل بالنقاش إلى الحديث عن المادية الجدلية والتاريخية، التي هي أساس الفكر الماركسي. وكان أن تزامن وجود ذلك اليساري في الجامعة مع وجود قائد إسلامي ينتمي لفصيل طلابي محسوب على حزب بنكيران، بدوره لا يقل شراسة وقوة عن القائد اليساري خاصة على مستوى "البولميك والتروحين" وربما هذا ما ساعده كي يصير في ظرف وجيز مدير جريدة ومدير مركز دراسات بل ومرشح لان يكون وزيرا للاتصال في المستقبل.. "اللهم لا حسد". وفي عز السجال الذي كان يجمع بين القائدين الإسلامي واليساري في "حلقيات النقاش" التي كانت تنظم بساحات الجامعة، حيث أفواه الطلبة تبقى مفتوحة أمام القائد اليساري المفوه، غير مدركة للمعاني التي تنساب من مداخلته حول من له الأولوية "هل الفكر يصنع الواقع أم أن الواقع يصنع الفكر"، كان القائد الإسلامي عندما ينهي خصمه (عدوه) حديثه يفاجئ الطلاب بالقول" واش عرفتوا آلطلبة، الرفيق شنو تيقول: أنا تنقول الله خلق الكون.. أوهو تيقول الكون خلق الله". وطبعا، لن تخفى عنكم بقية الحكاية مادام الأمر قد مس رأسمال المغاربة الأول ألا وهو الإسلام، حيث تكفهر وجوه الطلبة وتشحب، لينفضوا بعد ذلك من حول القائد اليساري كما انفض المغاربة اليوم من حول صناديق الاقتراع. مناسبة هذه الحكاية ما قاله قياديو التقدم والاشتراكية خلال ندوة نظمت بالرباط صباح يوم الأربعاء 14دجنبر الجاري، عندما وصفوا حكومة بنكيران ب"الظلامية". وقد سبق ل"حساسيات" تطلق على نفسها "الفعاليات الديمقراطية المغربية" قبل أسابيع، أن أمطرت بنكيران وحكومته المقبلة، بنفس النعوت والأوصاف في رسالة بعثتها إلى قيادات حزبي الإتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية، تناشدهم فيها بان لا يشاركوا في حكومة "ظلامية ورجعية". "ياسلام وكأن سطو قيادي اتحادي على أراضي الجموع بسيدي سليمان نقطة برنامجية في وثائق المؤتمر الاستثنائي للإتحاد الإشتراكي" .. وطبعا، من حق تلك "الفعاليات" أن تناشد حزبي "الكتاب" و"الوردة" بما شاءت، كما من حق رفاق السعدي أن ينتقدوا بنعبد الله ورفاقه في مشاركتهم في الحكومة، والتي لم نذخر بخصوصها جهدا، عندما قلنا في أكثر من مناسبة إنها محكومة وليست حكومة. "والأيام بيننا، لمن يختلف و يجادل". لكن، ما نعيبه اليوم على اليساريين، هو طبيعة اللغة "القدحية المجانية"، التي يستعملونها في خطاباتهم وسجالاتهم مع خصومهم أو بالأحرى أعدائهم، ولنا أن نتساءل: ماذا سيربح اليساريون سياسيا لو سمع المغاربة البسطاء الذين يشكلون اليوم القاعدة العريضة لفكر بنكيران والأعيان نعوث من قبيل "ظلامي ورجعي" دون أن يصاحب ذلك السباب، (المرفوض في كل الحالات)، نقاش هادئ مع تحقيق مكاسب مادية لهم. وفي تقديرينا المتواضع (الذي سيحرمنا طبعا، من بركات اليسار وسيجر علينا وابلا من السخط والسباب من طرفهم، ولكن لا ضير) ، نرى أن نعث الإسلاميين ب"الظلاميين" ليس سوى نوع من الضعف والوهن السياسي الذي يعاني منه اليسار اليوم، كما ان نعث اليساريين ب"الإلحاد" ليس إلا نوع من القدح الذي يعكس في آخر مطاف، مضمون ذلك المثل العربي الحكيم "عندما يعجز العقل تنطق العضلات". إن الحروب والانتصارات السياسية لا تحسم بالسباب وكيل النعوت القدحية الجاهزة، وإنما بوضع البرامج الواقعية والدفاع عنها، وبالالتزام النضالي الحازم مع المواطنين والقطع مع الارتماء في أحضان المشاريع التنموية المشبوهة (..) كما أن السياسة لا تعني فقط أن تلوك الجمل الاشتراكية الكبيرة الرنانة والمفاهيم المستعصية العريضة، وإنما أساسا أن تجعل تلك الجمل الرنانة ملكا للمواطنين تنفذ داخل أعماق قلوبهم، وتجيد تصريفها بينهم. أليست "السياسة هي فن تصريف الإيديولوجية"، كما قال لينين.