على امتداد شهر رمضان 1440، بثت القناة التلفزية الثامنة مسلسل "أغبالو"، عن سيرة عميد الأغنية الأمازيغية الحاج بلعيد (1873-1945). وكما كان متوقعا، حظي المسلسل بمتابعة كبيرة ساهمت فيها موافقة عرضه في فترة الذروة التي تتزامن مع الإفطار، لكن الجمهور انتظر بدوره العمل بشغف لقيمة وقامة الرجل كشاعر وموسيقي ومؤدي وشاهد على عصر بأكمله. ينبغي التنويه إلى أن مسلسلات التلفزيون التي اهتمت بسير أعلام الموسيقى والطرب لقيت نجاحا كبيرا في الشرق مع أعمال صورت حياة أم كلثوم وأسمهان وعبد الحليم حافظ وليلى مراد وصباح، لذا لم يكن غريبا التفكير في تمزيغ الفكرة، ومن غير الحاج بلعيد يستحق أن تشكل قصة حياته باكورة لهذا النوع من الدراما التلفزيونية المستجدةبالمغرب. في تقديمهم لأغبالو (التي تعني باللغة العربية النبع المتدفق)، أفضى المخرج والجهة المنتجة أن الإعداد استغرق ثلاث سنوات كاملة، مدة قد نعتبرها كافية إذا اشتغل فريق العمل على الشخصية ومحيطها وفق ضوابط فن العمل التاريخي، واستعان بأهل الاختصاص من باحثين في مختلف التخصصات، وبأهالي منطقة أنو نعدو خاصة،وأحواز تزنيت عامة، وقد نعتبر المدة غير كافية عندما يغيب مثل هذا الاشتغال. أشار جنريك المسلسل إلى مساهمة الباحث في التراث الأمازيغي الأستاذ أحمد عصيد كمستشار فني، لكن الظاهر أن مساهمته كما دلل عليها الجنريك لم تخرج عن الجوانب الفنية المتصلة بالشعر والغناء والمعارضات الشعرية والرقص وطقوس الركح وغيرها. في المقابل، لم يرجع فريق العمل مثلا إلى الأستاذ الحسين بنيحيا، حسب ما أفضى لنا به في اتصال هاتفي، وهو الذي قاد بحثا استقصائيا امتد لست سنوات عن الحاج بلعيد توج برسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في الآداب وسمت ب "مساهمة في دراسة الأدب الأمازيغي المغربي، شعر الرايس الحاج بلعيد نموذجا، جمع وتحقيق ودراسة". يعد العمل التاريخي من أصعب ما يمكن أن تتصدى له الدراما التلفزيونية، لأنه يحتاج إلى بحث واشتغال وإعداد طويل، وفوق ذاك فهو مكلف إنتاجيا، لذا نادرا ما حالف النجاح الأعمال التاريخية في السينما والتلفزيون، والتي وصلت شبه الكمال هي وحدها من بقيت خالدة، وما ما عداها فقد طواها النسيان، فهل أكد مسلسل أغبالو هذه القاعدة مرة أخرى؟ قصة واعدة لم تستثمر عندما اهتم الباحثون بشخصية الحاج بلعيد في العقود الأخيرة، وجدوا شحا كبيرا في المعلومات عن حياته، فقد توفي جميع مُجايليه ولم ينقل ابنه محمد الكثير لصغر سنه حين وفاة والده، وما يتناقل شفاهيا يختلط فيه الحقيقي بالأسطوري كعلاقاته بالقواد الكبار والأعيان بسوس ودوره المحتمل في مناهضة الاستعمار وعدائه للنازية، أو لقائه بالموسيقار محمد عبد الوهاب في إحدى استوديوهاتالتسجيل بباريس ووجود مراسلات بينهما. لا تشكل قلة المادة التاريخية عائقا، بل كانت ستكون في مصلحة العمل لو استثمرت بشكل جيد، لأن السيناريست وخلية الكتابة كانوا متحررين من كثرة التفاصيل والوقائع،مما يمنحهم خيالا أوسع في الكتابة، إلا أن الذي حصل هو العكس، حيث غاب الخيال وحضر التمطيط في أغلب حلقات المسلسل. تُبنى القصة في الأعمال التاريخية على المزاوجة بين الشخصيات الحقيقية والشخصيات المتخيلة، غير أن الشخصيات المتخيلة ينبغي أن تتجه كلها لخدمة الجانب الحقيقي في العمل لا العكس. في مسلسل أغبالو ظلت الشخصية الرئيسية في جزء كبير من العمل مجرد خلفية لمحيطها العائلي والقبلي، لا يقبل مثلا أن تأخذ طفولة البطل ما يفوق نصف العمل (16 حلقة من أصل 30)، بينما في مثل هذه الأعمال عادة ما تختزل فترة الطفولة في بضع حلقات ليتم التركيز على الفترة التي تهم المشاهد من تاريخ الشخصية؛ وهي تبتدئ في حالتنا من تاريخ احتراف الرايس بلعيد للغناء حتى تاريخ وفاته. افتقد المسلسل إلى الحبكة في السيناريو، وفشل في جعل الشخصية الرئيسية نواة للأحداث، أو على الأقل المسك بالخيط الذي يجعل الأحداث تبتدئ عند هذه الشخصية وتنتهي عندها، ظهر ذلك في وجود مجموعة من القصص والأحداث المتزامنة التي بدا أنها أقحمت في العمل لملأ ساعات البث، وكان من الممكن أن يستغنى عنها وتستقيم القصة بدونها، ترتب عن ذلك غياب التشويق الذي يمكن أن يشد المشاهد، وبدا العمل مفككا يفتقد إلى رابط يشكل عقدة للقصة. لا يمكن أن نتحدث عن السيناريو دون أن نتوقف عند الحوار، وكانت الأصالة التاريخية المفروض أن تحترم في العمل تقتضي أن يعتمد العمل لهجة قبائل إيدولتيت في أحواز تزنيت التي تدور فيها القصة (دوار أنو نعدو جماعة وجان)، لكن الذي حدث أن العمل اعتمد فسيفساء من لكنات نطق الأمازيغية باللهجة السوسية، فنجد لكنة قبائل مسكينة ولكنة قبائل حاحة ثم لكنة قبائل ايدوتنان، والتي غابت مع الأسف كانت لكنة قبيلة الحاج بلعيد، الأغرب أن السيناريست والمخرج تركا كل ممثل على سجيته في التعبير بلكنته الأصلية، على سبيل المقارنة تتفوق الدراما المصرية في توظيف اللهجات واللكنات حسب المناطق الجغرافية، فتصادف لكنة أهل القاهرة، لكن حين تدور القصة في الإسكندرية تجد الممثل يتحدث بلكنة اسكدندرانية، وإذا انتقلت الأحداث إلى الصعيد رطن باللهجة الصعيدية، وقد يضطر للحديث بلهجة عرب سيناء، وقد تصادف عملا يضم كل هذه اللهجات. ومن أهم ما ميز السيناريو والحوار اعتمادهما على حمولة خطابية مفتعلة لتمرير بعض الكليشيهات والقيم التي يبدو تنافرها مع ما هو سائد في الزمان والمكان بتاريخ الأحداث، مما يبرز إشكالية الأصالة التاريخية في العمل. مقومات الأمانة التاريخية في الميزان يظهر توفق العمل التاريخي في تقيده بالأمانة التاريخية، عندما ينجح في إبراز ثلاثة عناصر فنية هي؛ اختيار ملابس المرحلة ثم ديكوراتها فالتعبير عن روح المرحلة. بالنسبة للملابس النسائية، نشك فيما إذا كلفت خبيرة الملابس نفسها عناء زيارة منطقة الأحداث الأصلية والبحث في زي المرأة البعقيلية شتاء وصيفا، فقد كانت هذه الأخيرة تلبس "أمنديل" أو "ابراش" أو "تفاكوت" حسب الفصول، وتتغطى ب"أدال" الذي يلف بطريقة محتشمة خاصة بالمنطقة، ولو عادت فقط إلى البطائق البريدية الكولونيالية المنتشرة على الانترنيت لشكلت فكرة عن زي المرأة في أحواز تزنيت. على سبيل المقارنة، تحكي انعام محمد علي، مخرجة مسلسل "أم كلثوم"، أنها عاينت خمسة آلاف صورة لأم كلثوم لتشكل فكرة عن هندام السيدة وفساتينها وتسريحات شعرها والنتيجة شاهدناها جميعا حين عرض المسلسل. ما قيل على الملابس ينسحب على حلي المنطقة، سواء الجبينية منها أو حلي الصدر والحلي اليدوية، التي لها أشكال ومميزات لم تظهر في العمل. لا يبدو أيضا اشتغال على الملابس الرجالية، فباستثناء سلهام الفنان الحسين بردواز، المعروف في المنطقة منذ القدم، كانت الملابس الرجالية كارثية، ويخيل للمتفرج أن كثيرا من الممثلين حضروا للتصوير بملابسهم الخاصة، لا يقبل مثلا أن يظهر بلعيد الطفل مع فرقة الرما بسروال طويل حديث وفوقية بالتصميم الخليجي، ولا يقبل أن يظهر ممثلون بجلاليب حديثة من حيث الأثواب والتصاميم، بل إن الممثل احمد نتاما ظهر في حلقة بجلباب من المليفة بالخياطة المخزنية بموضة هذه الأيام. عدم التقصي والاشتغال انسحب أيضا على الديكور والاكسسورات، حين تزور اليوم ما تبقى من دور القواد والشيوخ في المنطقة تقف على خصائص العمارة الأمازيغية في ذلك التاريخ، فالبناء كان يتم بالطين الأحمر بتقنية اللوح، ولا وجود للصباغة المائية على الجدران، اللهم الطلاء بالمواد الطبيعية على أجزاء من الخشب، ولا حضور في دور المنطقة أيضا للديكورات الموريسكية كما ظهر في المسلسل من مثل المرافع المعلقة على الجدران. أساءت كثير من الاكسسورات للأصالة التاريخية المفروضة في العمل، فظهرت الزرابي الصناعية الحديثة في وقت كان بإمكان الجهة المنتجة أن تستأجر الزرابي التقليدية المصنعة باليد، وبلغ عدم مراعاة التطابق المنشود مع المرحلة مبلغه حين استخدمت وسائد من صالونات القرن 21، الأسرّة السائدة في غرف النوم حينها لم تكن كما ظهرت في المسلسل ولكن كانت أسرة مبنية بالطوب وتعرف في معجم المنطقة ب "إسيان"، ومن الطرائف ظهور إبريق الشاي المعدني الملون المعروف ب "تليمنت" الذي لم يدخل المغرب إلا متأخرا في وقت لم يكن الشاي يقدم في نهايات القرن التاسع عشر إلا في أباريق من النحاس أو ألدون. إذا تجاوزنا نقل موقع التصوير من سهل شبه قاحل (أنونعدو) إلى منطقة جبلية مخضرة (اجوكاك في أحواز مراكش)، وتفهمنا الطموحات الجمالية ودور موقع التصوير في تحقيقها، يمكن القول إن المسلسل لم يحد عن القاعدة في الأعمال التاريخية، وفشل في التعبير عن روح المرحلة، فحين نتمعن في المحيط والحوار وبنية القصة بالشكل الذي قدمت به وأداء الممثلين، لا نحس بأننا في مغرب نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وإنما أمام قصة يمكن أن تدور في القرن الواحد والعشرين في أية بادية من بوادي سوس. على سبيل المقارنة ومن مصر دائما وفي مسلسل يعرض للمرحلة التاريخية نفسها تقريبا، استطاع مسلسل "بوابة الحلواني" أن ينقل جزء من أجواء أواسط ونهايات القرن التاسع عشر، نجاح يدين به المسلسل لكاتبه محفوظ عبد الرحمن الذي عكف في مرحلة الإعداد على قراءة كل ما يتعلق بالمرحلة التي تدور فيها القصة من جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية، وربما هذا ما غاب بالذات عن مسلسل "أغبالو". بعض من هنات الإخراج في كثير من المواقع، برز اختلال واضح في إدارة مخرج العمل للممثلين، غاب التقمص عن كثير من الممثلين، لاسيما المبتدئين منهم، بحيث لوحظ أنهم كانوا يلقون حوارات محفوظة بشق الأنفس ببرودة وتصنع بعيدين عن قواعد التشخيص، ومن ذلك مثلا الطريقة الكاريكاتورية التي كانت شخصية الباشا في الحلقات الأولى تتصنع بها حزم السلطة وزهوها، ولم يخرج ممثلون آخرون عن الطرق النمطية التي اشتهروا بها في أدوارهم السابقة، بل إن منهم من استمر في التشخيص كما لو كان على خشبة المسرح، ومنهم من لم يستطع أن يخرج من قوقعته الكوميدية، والذين تميزوا منهم كالحسين بردواز وعبد اللطيف عاطيف وفاطمة بوشان برزوا باقتدارهم وتجربتهم الطويلة لا بإدارة الممثل. ظهر في المسلسل قصور واضح في عمل المكياج، لاسيما في مواكبة تطور المراحل العمرية للشخصيات، خاصة النسائية منها، ففي مراحل من القصة بدت أم الحاج بلعيد أصغر من ابنها بكثير، ولم يشفع تصوير وجوه بعض الممثلات بدون مكياج في تقديمهن في المراحل العمرية المتقدمة، حيث احتفظ أغلبهن بنضارة الشباب. وليس التصوير بأحسن حال مما تقدم، حيث ظهرت مجموعة من الأخطاء البدائية في حلقات محددة، منها عدم التوفق في اختيار زوايا التصوير الملائمة لبعض اللقطات، وعدم ضبط الإطارات والتحكم في بؤرة العدسة، لاسيما في اللقطات المقربة التي كان يلجأ إليها في غير موضع الحاجة إليها، وتغيب مع الحاجة إليها، ومن ذلك اللقطة التيكان فيها الفنان أحمد بادوج يؤنب محمد زوف على تسمية ابنته، حيث كان يلقي حواره في لقطة عامة بعيدة مع أن الطريقة المثلى في مثل هذه الحالات هي اعتماد اللقطة المقربة أو تقنية الحقل وضد الحقل. لم يوفق العمل في توظيف الموسيقى والغناء مع أن العمل موسيقي بالأساس، فأحيانا تحضر الموسيقى في سياق نقلات المونتاج لملأ الفراغ حيث تبرز كنوع من الحشو والإطناب، وحين تحضر في موضعها لا تقدم في سياقها الصحيح، وكانت ستشكل نقطة الضوء الوحيد لو ركز السيناريو على ظروف ولادة الأشعار والأغاني. على سبيل المقارنة، وظفت جميع الأغاني التي ظهرت في مسلسل أم كلثوم للمخرجة إنعام محمد علي في السياق الدرامي للأحداث، بحيث لا تكسر إيقاع المسلسل ولا يحس المتفرج بأنها مقحمة عنوة في العمل. كاستينغ الحاج بلعيد مما آخذ المهتمون على العمل، توزيع الأدوار داخل المسلسل؛ إذ لوحظ تخصيص الممثلين المقتدرين بالأدوار الثانوية مقابل الدفع بممثلين أقل شهرة في الأدوار الرئيسية، وهو ما عزاه البعض للتقشف الإنتاجي الذي يبني اختياراته على تباين الكليشيهات حسب فئات المشخصين. وقع اختيار تجسيد الشخصية على وجه جديد هو الممثل محمد بنسعود الذي رجحت كفته -حسب المخرج والجهة المنتجة-بسبب الشبه الفيزيولوجي بينه وبين الصور الفوتوغرافية القليلة الشائعة للحاج بلعيد. ويرى المتخصصون أن الشبه الفيزيولوجي ليس مهما عند اختيار ممثلي أعمال السيرة الذاتية في كل الحالات التي لا يكون الجمهور قد عرف الشخصية المراد تجسيدها في كل حركاتها وسكناتها، وهو ما ينتفي في حالة الحاج بلعيد الذي لا توجد أفلام أو أشرطة توثق له صوتا وصورة. ويرى البعض الآخر أن الشبه الفيزيولوجي ليس حاسما حتى في الحالات التي يكون الجمهور قد عرف الشخصية عن قرب، المهم أن يجسد الممثل روح الشخصية، ويستدلون بالممثل أنطوني هوبكنز الذي لا يشبه الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون ومع ذلك برع في تقديم روح الشخصية في فيلم نيكسون. وسواء كان الممثل شبيه الشخصية الأصلية أو لم يكن، فإن الرهان يبقى اختيار ممثل قادر على أن يحمل العمل على كاهله، الشيء الذي لم يتأت للممثل الرئيسي الذي تنقصه الكثير من مقومات التجربة والاقتدار المتطلبة للامساك بزمام الشخصية، ما دفع بالبعض إلى التساؤل ما إذا لم يكن من الملائم اختيار ممثل آخر، وهنا رشح كثيرون الفنان مولاي علي شوهاد لثقافته الفنية العالية ولخلفيته الموسيقية وقرب شبهه بالشخصية، إلا أن القدرات التمثيلية لهذا الأخير وحدها ستؤكد صواب الترشيح من عدمه، والأكيد أن الحسين بردواز أو عبد اللطيف عاطيف كانا يمكن أن يؤديا شخصية الحاج بلعيد في كهولته باقتدار ويمنحا قيمة إضافية للعمل. لا شك أن الانتقادات الواسعة التي قوبل بها العمل، تعود بالأساس إلى قيمة شخصية الحاج بلعيد والانتظارات الكبيرة للجمهور من عمل يتصدى لسيرته، على أنه لا ينبغي لفريق العمل ولغيره أن يفهم النقد على أنه هدم للعمل لأن النقد الفني في النهاية بناء، ولا يقبل بعد ثلاثين سنة أن تظل الأعمال الأمازيغية ما تزال تعيد الأخطاء البدائية لبدايات أفلام الفيديو أوائل التسعينات من القرن الماضي.