نتطرق من خلال هذه السلسلة (28 مقالا) لاستعراض محطات فكرية وأطروحات فلسفية أنارت طريق الحضارة الغربية في تعاملها مع مسألة حقوق الإنسان التي برزت بشكل يزداد ثقلا وعمقا منذ الربع الأخير من القرن العشرين، والتي تحمل في ثناياها إيديولوجية القرن الواحد والعشرين المفتوحة على كل الاحتمالات. إن الاعتبارات النقدية الواردة في هذه المقالات ليست من باب التسرع في إصدار أحكام القيمة، ولا من باب التحامل المبني على الآراء الجاهزة والاندفاعات العشوائية المتطرفة، وإنما هي قراءة موضوعية في بعض مرجعيات الفكر الفلسفي الغربي الذي تتغذى عليه منظومة حقوق الإنسان المعاصرة. 28/27- البراغماتية لوليام جيمس يشكل وليام جيمس بالنسبة للأمريكيين ما يشكله ديكارت بالنسبة للفرنسيين، إنه رمز هوية فكرية ومصدر فخر وطني. وبالفعل يعد جيمس رائدا بارزا في المجال الفلسفي الأمريكي، ويمكن اعتبار فلسفته بمثابة ميلاد اتجاه فكري أمريكي قلبا وقالبا. وهو حدث ثقافي تاريخي لا يقل أهمية عن إعلان الولاياتالمتحدةالأمريكية استقلالها عن الاستعمار البريطاني في القرن الثامن عشر. نعم، لم تكن البراغماتية التي جاء بها جيمس قطيعة تامة مع الفكر الأوربي، لاسيما وأن مؤسسها ارتوى من الفلسفة الأوربية، وكان يتقن اللغتين الفرنسية والألمانية، بالإضافة إلى لغته الإنجليزية. لم تكن البراغماتية قطيعة وإنما كانت عملية انصهار لمكونات الهوية الثقافية الأمريكية بمنظور أمريكي خالص دونما تنكر للأصول الأوربية. ازداد وليام جيمس بنيويورك سنة 1842، وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفارد سنة 1870، وزاول مهنة التدريس بنفس الجامعة إلى أن وافته المنية سنة 1910. وأول مؤلف صدر له كان تحت عنوان "أصول علم النفس" المنشور عام 1890، تلاه كتاب "إرادة الإيمان" عام 1897، وكتاب "أنواع التجربة الدينية" عام 1902. وأما أشهر كتبه فهو كتاب "البراغماتية" الصادر عام1907، وكتابان بعنوان "الكون المتعدد" و"معنى الحقيقة "، صدرا سنة1909.ويمتاز جيمس في كتاباته بالقدرة الهائلة على التحليل وباعتماده الأسلوب الواضح المبسط. المنفعة مقياس للحقيقة يفيد الأصل اللغوي لكلمة "البراغماتية" معنى "ما هو عملي". واضع هذا المصطلح ليس وليام جيمس بل فيلسوف أمريكي آخر هو ساندرس بيرس الذي عاصر وليام جيمس. ونقطة البداية هي أن كل ما هو عملي يجب اعتباره تجريبيا بالضرورة. والواقع أن البراغماتية هي مجموعة أفكار لفلاسفة أوربيين في حلة أمريكية: إنها تنهل من "العقل العلمي" لكانط، ومن مفهوم الإرادة عند شوبنهاور، وتأخذ من نظرية داروين فكرة البقاء للأصلح، ومن بنتهام مذهبه النفعي. هذا مع العلم بأن وليام جيمس نفسه لم يسبق له أبدا أن ادعى أنه أتى بجديد، لقد أكد أن فلسفته البراغماتية اسم جديد لوسائل فكرية قديمة. وفي مجملها تبدو البراغماتية كفلسفة مادية نفعية، واعتبارها للحقيقة يكون دائما مقترنا بالاختبار التجريبي. والمنفعة الشخصية هي المقياس والاختبار لثبوت الحقيقة من عدمه، والعمل مقياس للحقيقة، والفكرة تعتبر صادقة عندما تكون مفيدة، بمعنى أن المنفعة والضرر هما اللذان يحددان الأخذ بفكرة ما أو رفضها. وعن هذا الطرح تترتب إشكالية مفادها أنه إذا كان منظور العمل قاصرا على مبدأ المنفعة والضرر، فهو بالتالي فاقد لموضوعيته، بحيث يصبح مجرد مقياس ذاتي. والذاتية هنا تعني التباين في الخبرات، والتباين لا يصلح لتحقيق إدراك الوحدة، لأنه ليس مقياسا موضوعيا. والحصيلة هي أن البراغماتية ترفض فكرة المطلق، "ملعون هذا المطلق" حسب تعبير جيمس نفسه. وبإنكارها للمطلق فإن البرغماتية تتعامل مع الكون وهو في حالة تمزق وانشطارات جزئية لا متناهية يستحيل إدماجها في إطار كلي. ويرى جيمس أن الاعتقاد بوحدانية الكون هو المرض الذي يصاب به الفلاسفة، وعلى عكس ذلك فهو يعتقد بتعدد الكون وعدم اكتمال صنعه وعدم إمكانية إدراكه مرة واحدة، وفكرة العالم الواحد فكرة ميتة، وإنما هناك قوى متصارعة وتيارات متعارضة الاتجاهات. وأمام هذا الوضع، فإن الإنسان يجد نفسه حرا في استعمال الطريقة التي تستهوي رغباته. وهنا تبرز البرغماتية كتعبير صارخ عن روح الرأسمالية المتوحشة في بداية مشوارها الإمبريالي. وهي بالتالي تعبير حماسي لتمجيد الفردانية شبه المطلقة، إذ لا قيمة إلا للفرد وحده. وواجب الدولة ينحصر أساسا في خدمة الفرد والسهر على مصالحه. إنها رسالة فردانية مفتوحة على مخاطرات ومغامرات، وليست خطة مرسومة ومحبوكة من أجل تحقيق انضباط معين. لا داعي للتفكير في الموت، وقيمة الأمور تكمن في ملاءمتها لإرشاد الإنسان وتحسين أوضاع حياته. وهكذا فالبراغماتيون عندما يتحدثون عن الحقيقة لا يعنون سوى الجانب العملي منها، بينما يركز خصومهم على الموضوعات التي تدل عليها تلك الحقيقة. فمن هذا المنظور لا تبدو البراغماتية فكرة تجريدية، وإنما هي تركيز عملي على الجانب النفعي بالنسبة للواقع المادي للأشياء، وعلى الانعكاسات النفعية بالنسبة للآراء والمعتقدات سواء كانت دينية أو سياسية أو غيرها. ومعنى ذلك أن الأفكار تكون نافعة لأنها حقيقية، وحقيقية لأنها نافعة. مسألة المادة والروح إن قيمة النظرية أو الفكرة تبقى مرتبطة منهجيا بتطبيقها تطبيقا مباشرا على الوقائع الخاضعة للملاحظة، والقاعدة البراغماتية تقتضي تطبيق هذا المنهج على التجربة الإنسانية. إلا أن هناك إشكالية عويصة طالما حيرت عقول الفلاسفة، وهي تلك المتمثلة في النزاع المرير بين المادية والروحية. والسؤال هو: هل هذا العالم ثمرة التقاء ذرات في الزمان والمكان، أو أن ثمة خالق لجميع ظواهر العالم وهو عقل خالص يشكل الأحداث بمشيئته ويحرك الظواهر بإرادته؟ هذه الإشكالية تم اختصارها براغماتيا على الشكل التالي: ما هو الفرق بين اختيار هذه الفرضية أو تلك على ضوء التجربة العملية؟ والجواب البراغماتي هو أنه لا يبدو أن هناك فرقا بين الفرضيتين. فالحقيقة التي لا مراء فيها هي أن العالم موجود على كل حال، وسواء أكان ثمرة التقاء ذرات أو من صنع خالق عظيم جبار، فذلك لا يغير من الواقع شيئا. وإذا تضاربت النظريات بهذا الصدد فإن تضاربها لا يغير العالم الذي يمتزج فيه الخير بالشر. وافتراض العالم وليد لقاءات ذرات أو كونه مخلوقا لا يعني بتاتا أي انعكاس على مسألة الخير والشر، لذلك فإن الروحية والمادية من وجهة نظر البراغماتية التاريخية تتساويان ولا فضل لهذه على تلك. وبغض النظر عن تفسير التطور التاريخي لهذه الإشكالية بمنهجية براغماتية محضة، فإن المشكلة الحقيقية تكمن في التطور المستقبلي لتداخل هذين العنصرين. فمن جهة تعتبر البراغماتية أن العالم تتحكم فيه المادة بحيث تجعله رهينة لتصرفات قوى عمياء، مما ينفي قطعا إمكانية الاستقرار على خير أو شر، ومن جهة ثانية تتدخل الروحية باسم قوة عاقلة ذات أهداف أخلاقية سامية لتنقذ الحياة الإنسانية من الهلاك. وكل من ينفي أهمية تأثير الروحية لا شك أنه يغفل، في نظر وليام جيمس، أن الطبيعة البشرية كانت دائما منشغلة بمسألة القضاء والقدر، وبنهاية العالم ومصير الإنسان. وما من كائن بشري إلا وله تصور يؤثر بلا شك على سلوك الفرد ويحدد موقفه من مجرى الأحداث. وعليه فالتناقض بين المادية والروحية تناقض يشق أعماق الوعي الإنساني. ففي الروحية تبرير للوجود وتماسكك، وفي المادية إنكار وتشتت. والحل الذي تقترحه البراغماتية للخروج من هذا الجدل هو حل ينفي أي حل بعينيه، ويترك المجال مفتوحا لاحتمالات كثيرة مختلفة. بمعنى أنها تدع كل إنسان يختار الجانب الذي يحقق المنفعة والسعادة. وأما الحكم على موقفه بالصواب أو الخطأ فهو شيء متروك للمستقبل، وعلى أي حال هذا لا يعني البراغماتية في شيء، لأن مهمتها تبدو محصورة في تبسيط الإشكالية وتوضيحها من أجل الوقوف عند مضامينها الواقعية ومعانيها العملية، وأما الحكم النهائي فهو أمر شخصي وليس من طبيعة البراغماتية أن تبت فيه. وهكذا يبدو جليا أن الفلسفة البراغماتية مذهب فكري لصيق بالتجربة المرتبطة بالواقع، ولا تهمها الأفكار السامية التي تتخطى حدود التجربة، فالإنسان البراغماتي لا يعيش ليفكر، إنما يفكر ليعيش، لذلك فالمعيار الوحيد للحقيقة هو اختبار صحة أو عدم صحة أية فكرة بالنظر إلى ما تحققه عند تطبيقها في حل المشاكل المطروحة، إنها صادقة أو كاذبة حسب صلاحيتها أو عدم صلاحيتها لتحقيق النتيجة المرغوبة. لا قيمة لأية حقيقة ما لم تؤثر في الواقع. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة [email protected]