الطربُ الأندلسيُّ، أو ما كان العلامة الراحل محمد الفاسي يفضّل تسميته ب"طرب الآلة"، يشكل جانبا مشرقا من جوانب حضارة مغرب وثقافة فنية أصيلة. مع ما لهذا التعبير الفني التراثي من قدرة نفاذ في ذات المتلقي ومشاعره، لِما هناك من مقام متعدد وتعاقب عزف وتواتر إيقاع وغناء، ومع ما يسجل للمغاربة من فضل في رعاية هذا الإرث الرمزي، والحفاظ على جزء كبير منه حتى يظل صافياً نقياً أصيلاً. وكما في علم باحثين وفاعلين ومهتمين بالمجال لطرب الآلة امتداد واسع شمل بنوع من التفاوت حواضر مغربية عدة، اشتهرت بعلامات متميزة وحُفاظ وعارفين كبار بأسرار هذا التراث الإنساني عن مدن فاسوتطوانوالرباطوشفشاونومكناس..، بل كان هؤلاء بفضل في بقائه واستمراريته واتساع مجاله، ليبلغ ما بلغه من رقي وغنى ومكانة وهيبة فنية تعبيرية تفاعلية حضارية ومن تعمير وخلد عابر لأجيال وقرون، ولم يسهم هؤلاء في إغناء هذا التراث فقط إنما أيضاً في نشره بمدن أخرى غير مدنهم الأصل. في هذا الإطار، ارتأينا ورقة حول واحدة من مدن المغرب العتيقة التي كانت بحكم قربها دوماً بتماس ثقافي بفاس كعاصمةٍ ومركزٍ وإشعاع في تاريخ البلاد، يتعلق الأمر بتازة وما طبعها من تفاعل فني وميزها من أصول عارفين كبار بطرب الآلة، مع ما في الأمر من حذر معرفي ونبش وحق في إثارة سؤال ذاكرة وانتماء إلى حين ما هو شاف لباحثين متخصصين. إضافة لمِا كان عليه معهدها الموسيقى على امتداد فترة الثمانينيات والتسعينيات، من إسهام وتميز معبر جعل طرب الآلة بتلقين وحضور وعشق وإشعاع. وكثيرة هي أسماء عارفين ممن أثث زمن طرب الآلة وممن كان لهم وقعهم وبصمتهم في هذا المجال، بعض منهم على أساس أسمائهم وبيوتاتهم وأسرهم والتي منها من لا يزال قائماً ممتداً إلى حد الآن، قد يكونوا من أصول تازية ما هو شبه مؤكد. منهم عبد السلام البريهي المتوفي في ثلاثينيات القرن الماضي، وكان قد تلقى تعليمه على يد الحاج حدو بن جلون. وتذكر مصادر التاريخ أن البريهي هذا من شرفاء الوداغير الحسينيين بفكيك ربما قبل انتقالهم إلى تازة ومنها إلى فاس، وأنه كان ممن تميزوا بطرب الآلة رئاسة بغير منازع. وحسب الباحثين، فهو وارث سر المدرسة الفاسية لطرب الآلة وناشر أصولها التي لا تزال قائمة إلى حد الآن، ومن تلامذته ابنه محمد البريهي والفقيه المطيري ومحمد دادي وعثمان التازي. وكان محمد البريهي الابن، الذي ولد بفاس وتوفي به أواسط أربعينات القرن الماضي، من أمهر العازفين على آلة الرباب وبدور كبير في ترسيخ مكانة وطرب الآلة والتعريف به، من خلال جوقه الذي تميز به وهو الجوق الذي ترأسه لاحقاً تلميذه ووارث أسلوب أدائه عبد الكريم الرايس. ومحمد البريهي في رأي الباحثين والمهتمين بهذا المجال هو من نوابغ هذا التراث المغربي الأصيل الذين كرسوا حياتهم دفاعاً عنه. ومن كبار العارفين الذين كانوا يحفظون غير قليل منه ويتقنون أدواره ومستعملاته، فكان بجوق متميز بفاس ضم نخبة ممن لقنهم أصول هذا الفن الأصيل الأندلسي. وحول "البريهي" الاسم والأسرة والانتماء من عدمه إلى تازة وجوارها، من المفيد الإشارة في هذا الإطار إلى علي البريهي، أحد الفقهاء المدرسين بالجامع الكبير بتازة قبل فرض الحماية الفرنسية على البلاد. وقد توفي بداية سبعينيات القرن الماضي بعدما تجاوز عمره المائة سنة، وكان قد انتقل بعد الحماية إلى قبيلة صنهاجة لنشر العلم بها إلى أن توفي بها، تحديداً في دوار النخلة. وإلى جانب محمد البريهي غير المستبد انتماءه إلى تازة كأحد أعلام طرب الآلة لما كان له من صدى ووقع في هذا المجال هناك محمد التويزي ولبزور التازي وغيرهم، وتكفي الإشارة إلى أنه لما طرح موضوع تدوين التراث الأندلسي أو طرب الآلة بالمغرب منذ ثلاثينيات القرن الماضي، دوّن الأستاذ يونس الشامي بالنوطة نوبة رصد الذيل من إملاء المرحوم لبزور التازي. وأنه إلى جانب من أسهم في التأليف حول هذا التراث الأصيل المغربي كل من محمد الجعيدي ومولاي العربي الوزاني وعبد اللطيف بن منصور والحاج إدريس بن جلون، هناك ما أنجزه الحاج عثمان التازي الذي قام بتلحين صنعات على نغمة النهاوند وأقامها على ميزان القائم ونصف، كان ذلك في ثلاثينسات القرن الماضي بمناسبة انعقاد مؤتمر الموسيقى المغربية. وقد أورد محمد بلمليح، رئيس جمعية هواة الموسيقى الاندلسية بالمغرب وأحد الفقهاء الذين أخذوا عن القرويين والزاوية التيجانية وممن استفادوا كثيراً من مخالطة كبار أعلام طرب الآلة، عن طرب الآلة في علاقته بمدن مغربية أصيلة زمن الحماية بالمغرب، ما تميزت به هذه الفترة الحرجة من خمول موسيقي وقلة البيوتات المهتمة في بعض المدن، مؤكداً ما كانت عليه وزان وطنجة من حركية وإقبال هناك تازة، وأن فاس بداية أربعينيات القرن الماضي كانت قبلة لعشاق طرب الآلة القادمين من مدن الشمال، وأن ما كان عليه محمد العربي التمسماني من تردد عليها سمح له بالتعرف على كبار الفنانين بها أمثال أحمد التازي، وتم الترحيب به كعازف في جوق البريهي آنذاك. وطرب الآلة، الذي يجمع بين أدب رفيع ونغم بديع، كان ولا يزال ولع المغاربة الأول والأصيل إلى جانب الملحون. ولعلهما سلوة أنفاس وقوت أرواح وبهجة مجالس وأفراح، لمِا يقومان عليه من نغم وموشح وزجل وتوشية.. رغم كل هذا الزخم من حداثة وتقنية ولحن وضجيج منظم. وكما حال عدد من مدن المغرب العتيقة المحتضنة لهذا التراث الأصيل، لمدينة تازة من الأثر والعلامات ما يحيلها على زمن أندلسي بهي، من أزقة وأحياء ومساجد لا تزال تحمل اسم أندلس. مدينة كانت خلال فترة الحماية الفرنسية قبلة لمن كانوا بخبرة موسيقية وأدوار وتأثير ملموس في هذا الشأن. لمِا أدخلوه من أثر ولمِا حملوه معهم من تراث غنائي وأساليب وتقنيات إحياء الليالي في فني طرب الآلة والملحون. نذكر على سبيل المثال أنه مع بداية خمسينيات القرن الماضي نزل بتازة أحد المولعين قادما من تونس وقد عرف بالبشير الغرايري. وإلى جانب ما أحيط به من ترحاب وعناية، كان حافزاً لتكوين عدد من هواة الموسيقى التازيين، ضمن مجموعة ضمت عناصر منها محمد بنصاري محمد بناني محمد بنويس وغيرهم كثير. وكان ضيف تازة لسنوات محدودة يلقي دروساً في موشحات وأناشيد غنائية خلال هذه الفترة. وبعد رحيله لأسباب ذات علاقة بأحداث وطنية، استمر إقبال هواة تازة على طرب الآلة إنما عبر أحد أبناء فاس هذه المرة ويتعلق الأمر بإدريس بلشهب الذي كان واسطة لترتيب زيارات أسبوعية لموسيقيين فاسيين إلى تازة منهم مثلا إدريس السغروشني. وخلال الفترة نفسها التي اعتبرت ذهبية بالنسبة لطرب الآلة في تازة، قدم إلى المدينة عدد من الفاسيين المولعين بهذا التراث للاحتماء وخوفاً من متابعات سلطات الحماية لهم. ومن هؤلاء هناك بلعيد السوسي والهادي بركًم .. على إثر اتصالات قام بها التازي أحمد الشراط، ليظل هؤلاء بتازة إلى حين حصول البلاد على الاستقلال. وكانت قد تأسست مع نهاية خمسينيات القرن الماضي أول مجموعة موسيقية تازية، ضمت أحمد الشراط وامحمد بن حدوش والهادي فنيش ومحمد بنصاري ومحمد بناني.... هذا قبل أن يحصل تحول نوعي في المشهد الموسيقي بتازة، بفضل "الخليفي" أحد الفاسيين العازفين المتميزين آنذاك على آلة الكمان بداية ستينيات القرن الماضي. وقبل أن يبدأ إسهام تازيين يُسجل لهم ما كانوا عليه من فضل عموماً في إغناء الحركة الموسيقية بالمدينة والتحفيز عليها، ويتعلق الأمر بكل من الحسين الأمراني والطيب بن عصمان محمد بلغيت وغيرهم. وكان إحداث معهد موسيقي بتازة بداية سبعينات القرن الماضي إيقاعا جديداً بالمدينة في هذا المجال، ساهمت فيه عدة أسماء فاسية في ترسيخ أسس علمية لطرب الآلة بتازة، عبر ما كانوا يقدمونه من دروس وما كانوا يحرصون عليه من تلقين وحفظ لصنائع وتعليم للعزف على الآلات الموسيقية. نذكر منهم الأساتذة محمد بريول وأحمد اطراشن ومصطفى العامري ونجيب العمراني وأحمد شيكي. زخم علمي تكويني أول بمعهد تازة الموسيقي شكل أرضية لفترة موسيقية ذهبية غير مسبوقة في تاريخ المدينة بكل المقاييس، تميز ارتبط بفترة تدبير وإدارة للمعهد من قبل أحد أبناء تازة وأحد خريجي مدرسة/ منهج محمد الأشهب، ممن تميزوا بكفاية علمية موسيقية عالية وممن كانوا بشخصية إدارية قوية وهيبة فنية وأخلاقية و"كاريزما" خاصة، يتعلق الأمر بالموسيقي الأكاديمي عبد اللطيف لمزوري مدير المعهد السابق، الذي يُشهد له ما كان عليه من تأسيس علمي وفضل في هذا المجال. فترة ذهبية علماً وتعليماً وإقبالا ونوعاً وجودة وإشعاعاً محلياً وطنياً ودولياً. ازدهرت فيها كل أشكال التعبير الموسيقي من موسيقى عربية وموسيقى غرفة غربية كلاسيكية ومن طرب آلة بمكانة خاصة في تازة بشكل غير مسبوق، تكفي الإشارة إلى أن معهد تازة الموسيقي كان حاضراً بطلبته دوماً ولسنوات في المباريات الوطنية لنيل شواهد عليا بالرباط تحت إشراف وزارة الثقافة. ويكفي أن تازة كانت حاضرة بجوقها لطرب الآلة في مواعيد موسيقية تراثية وطنية كبرى، بحيث شاركت تازة من خلال معهدها الموسيقي في ملتقى الأندلسيات الخامس عشر بمدينة شفشاون يوليوز 2000، موعد كانت ولا تزال تحتضنه وزارة الثقافة تحفيزاً للفرق الوطنية الفاعلة في هذا المجال، وخدمة وصيانة لتراث طرب الآلة الأصيل. وكان هذا الموعد الفني التراثي الوطني، الذي أثار فيه جوق تازة إعجاب عدد من الفنانين والمولعين والباحثين، قد جمع فرقاً وطنية وأجواق عريقة بحفاظ وعازفين ومنشدين كبار عن مدن رائدة آنذاك ولا تزال، مثل فرقة سلا برئاسة عدنان السفياني وجوق فاس برئاسة محمد بريول وجوق شفشاون برئاسة محمد اغبالو وجوق تطوان برئاسة أحمد شقارة، وفرقة بلابل الأندلس برئاسة عبد الكريم العمارتي وجوق جمعية فويتح للموسيقى الأندلسية برئاسة أحمد الزيتوني، والفرقة النسائية بشفشاون برئاسة عائشة أبراق، وجوق مكناس للموسيقى الأندلسية برئاسة محمد الهواري، وجوق الرباط لطرب الآلة بالرباط برئاسة أمين الدبي، ثم الفرقة الأندلسية لمدينة تطوان برئاسة الأمين الأكرمي. مع أهمية الإشارة إلى أن ملتقى الأندلسيات الخامس عشر، الذي شارك فيه جوق تازة لطرب الآلة، كان قد تضمن حفل تكريم أحد أقطاب ورموز الآلة الأندلسية المغربية والمغاربية ويتعلق الأمر بمحمد العربي التمسماني. وإسهام تازة في هذا الموعد التراثي المتميز دليل على فترة ذهبية كان عليها المعهد الموسيقي، وعلى ما بلغته الآلة الأندلسية بالمدينة بفضل ذ. أحمد شيكي من ازدهار وتكوين وخبرة وإشعاع. وجوق المعهد الموسيقي لطرب الآلة، الذي كان يتكون من خريجي المعهد وأساتذة مكونين والذي شارك في هذا الملتقى الوطني بشفشاون بحصة فنية من ميزان رصد الذيل، بدأ نشاطه سنة 1992 بإسهامات محلية شملت مهرجانات ثقافية وسياحية وأمسيات تراثية تكريمية وإنسانية. وعلى إثر ما طبع المعهد الموسيقي بتازة منذ بداية الألفية الثالثة من شلل شبه تام على امتداد حوالي العقدين من الزمن ويبدو أنه حال لا يزال عليه إلى حين. وأمام شتات أتى على كل شيء من الإنجازات منذ إحداث المعهد الموسيقي بهذه المدينة بما في ذلك جوق طرب آلة كان مفخرة للمدينة. أمام كل هذا وذاك من الواقع يعلق الأمل على القادم من زمن المعهد الموسيقي في حلة وبناية قديمة جديدة، إنما من خلال ما ينبغي من أطر موسيقية عالمة ذات تكوين متين وخبرات وكفايات أساسية، والتي من شأنها استعادة مجد زمن جميل وتألق كان عليه جوق المعهد الموسيقي لطرب الآلة ومجد فترة ذهبية وإسهامات كانت بصدى وطني ودولي. تكفي الإشارة في هذا الإطار إلى مشاركة مشرفة لجوق معهد تازة لطرب الآلة ممثلا للمغرب في مهرجان إكسبو 2000 ب"هانوفر" بألمانيا. بعض فقط من أوجه فعل فني وتراثي وموسيقي مشرقٍ كانت عليه تازة قبل حوالي العقدين من الزمن، في علاقتها بفاس من خلال جملة تجليات وعلى أساس ما كان عليه المعهد من تكوين وتأهيل وقيادة وتدبير وهيبة وتفاعل واعتبار. *باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاسمكناس.